كنت قد قررت مع نفسي الابتعاد عن هذا الجدل السقيم بين الداعين والرافضين لاقامة الأقاليم، إذ لم أكن في الايام الاخيرة على الاقل، مصدقاً لأي إدعاءات من الطرفين المتنازعين .فدعاة اقامة الاقاليم في صلاح الدين وآخر في الانبار كانوا معارضين للفدرالية وقد اعتبروها خطة امريكية خبيثة لتمزيق وحدة التراب العراقي. بل ، والأزيد من ذلك كانوا قد صوتوا ضد الدستور عام 2005، على اعتبار إن الفقرة التاسعة عشر بعد المئة منه تعطي لأي محافظة أو مجموعة محافظات حق اقامة الأقاليم.اضافة الى أن كلتا المحافظتين (صلاح الدين والانبار ) ظلتا تتفاخران بأنهما رفضتا الدستور لأنه يشجع على تقسيم العراق .أما الجانب الآخر ، وهو الحزب الحاكم، فأن موقفه من الفيدرالية ظل طوال السنوات الثمان الماضية غامضاً إلا ان السيد المالكي نفسه ظل مصراً على تثبيت الفدراليه كنظام حكم في الدستور العراقي والذي كان له دور مهماً في كتابته. ولكنه وحزبه شنوا حرباً شعواء على المطالبين بإقامة إقليم ، واتهموهم صراحة بأنهم انما يدعون إلى ذلك فأنهم ينفذون –عن علم- رغبات دول عربية تعمل على تفتيت وحدة العراق، وقد كان السيد المالكي أكثر من غيره حدة حين أتهم مجلس محافظة صلاح الدين بأنه يريد اقامة اقليم سني بخلاف الدستور مضيفاً إنهم –أي الساسه في صلاح الدين – يريدون من وراء ذلك جعل محافظتهم ملاذاً آمناً للبعثيين العائدين من سوريا ومصر وليبيا واليمن!فجأة ، صار السياسيون في المحافظات الغربية دعاة للفدرالية يرون فيها مخلصاً من الاستبداد(المركزي).. وفجأة صار المالكي (يحرم) اقامة اقليم في صلاح الدين أو في غيرها من المحافظات باعتبار ذلك يؤدي الى تقسيم البلاد إلى كانتونات(كردي ، سني وشيعي).وهذا الانقلاب على الافكار السابقة لكلا المتنازعين ماذا وراءه؟! اعتقد إن دعاة الاقاليم والفيدرالية غير صادقين في كل مايطرحون من (محاسن) الفيدرالية التي كانوا قبل شهور من ألد أعدائها ويتهمون المروجين لها بالخيانة ! اما المالكي وحزبه، فأن رفضه لاقامة اقليم غير دستوري، بل وتعسفي، فليس من حقه أن يرفض-حسب الدستور- بل يرفع طلب اقامة الأقليم الى الهيئة العامة للانتخابات. وهذا هو دوره الذي رسمه الدستور لرئيس الحكومة أياً كان ، مع انه كان أشرس المقاتلين في الدفاع عن أقامة نظام الحكم في العراق على اساس فدرالي !وسط هذا الهيجان الاعلامي بين المتنازعين (دعاة الفيدرالية وخصومهم) يقف المواطن العراقي حائراً ، متسائلاً عن سر هذه الاستدارة عن (المعتقدات) السابقة للمؤيدين والمناهضين للفيدرالية! ولم يستطع أحداً من الطرفين المتنازعين أن يقنع العراقيين بأحقية طروحاته السابقة. اعتقد، إن الحقيقة غير ما يطرح في وسائل الاعلام، فلب المشكلة او الازمة الحالية هو أن أحد الطرفين قد وضع يده على السلطة والثروة ولم يعط لـ(الشركاء) الا النزر اليسير منهما .أما الطرف الثاني، وهنا لاننكر التحريض الخارجي، فهو غير جدي في طروحاته ولايؤمن بالفيدرالية أساساً، ولايستطيع إدارة اقليماً، فالحكومات المنتخبة في كلتا المحافظتين عجزت عن إنفاق أقل من ثلاثة بالمئه من ميزانيتها السنوية بالنسبة لصلاح الدين ، ولم تجاوز الانبار نسبة العشرة بالمئة، فكيف تتمكن هكذا إدارات من تسيير أمور الاقليم بصلاحياته الواسعة ومشاريعه العديدة وامواله الهائلة؟ وخلاصة القول ان هذا الصراع بين مؤيدي الفيدرالية ومعارضيها هو أن أحدهم يستأثر بالسلطة والثروة لنفسه ولحزبه، بينما يتحسر الآخر على أي منهما،بل يعمل على اختطافهما من بين يدي خصمه السياسي. وما المزاعم التي يطلقها الطرفان حول مصلحة المواطن ووحدة التراب العراقي فماهي إلا رياء سياسي وتضليل اعلامي ، ليس له صلة بواقع التوجهات الحقيقية لكيلهما !وبعد ذلك كله ، يطل السؤال الذي يلح على عقل المواطن العراقي والذي هو : مالحل؟اعتقد إن الطرفين، حين يشعران جدياً بأن الامور ستفلت من ايديهما، فإنهما سيتراجعان عن حالة التشدد هذه وسيسعيان الى الحوار، وهذا ليس تعقلاً من أي منهما ، بل هو الخوف من ضياع كل شيء، فلا المالكي في حال اندلاع حرب أهلية سيظل في منصبه ومعه الثروة ولا المطالبين الجدد بالفيدرالية سيحصلون على الغنيمة (الثروة والسلطة) ! وسيعودون إلى قاعدة شيء أحسن من لاشيء! وعند ذلك ، أي عند شعورهما بخطر الخسارة الفادحة، سيجدان مبررات لا حصر لها، وسيقدمان تنازلات لا عد لها، وستحل (المودة) بدلاً من (العداوة )، لنكتشف بعد ذلك أن كل هذا الضجيج والصراخ ما هو إلا محاولة احدهما لابتزاز الآخر، ولا مصلحة للشعب العراقي فيه ! .