أن التطور العلمي وخصوصاً بعد عصر النهضة في أوربا(الثورة الصناعية) الذي كان نتيجة للاتجاه الحسي في المعرفة، حينما دخل الحس والتجربة والمختبرات العلمية كمقدمات ضرورية في اكتشاف أسرار الكون، وقوانينه ومنذ ذلك العصر نجد أن هذا الاتجاه لم يقتصر على مجال معين بل شمل حقول متعددة من المعرفة بل تعداها إلى الجوانب التي هي بطبيعتها غير مادية!
وبطبيعة الحال أن الخبرة البشرية في الكون والطبيعة ازدادت كماً ونوعاً وأدى الى ازدياد الحوادث والوقائع التي تحتاج إلى معرفة حكمها الشرعي، وفي خضم التقدم الهائل وازدياد الوقائع والحوادث كل هذه الأمور کانت بمثابة عقبات تواجه الفقه الإسلامي، مما أدى الى نشوء ثغرة كبيرة في الفقه الإسلامي تستوجب من الفقهاء معالجتها وخاصة أن الكثير من المستحدثات التي نتجت عن هذا التطور العلمي أصبحت محل الابتلاء للفرد والمجتمع..
و من هنا صار لزاماً على الفقهاء بيان الأحكام الشرعية على الأقل في حدود ما هو محل الابتلاء العملي..
و بالرغم من نشوء هذه الثغرة والتي كانت تشكّل نقطة ضعف في الفقه الإسلامي بصورة عامة، إلا أنه مع ذلك توجد نقطة قوة لدى الفقه الإسلامي الإمامي متمثلة في باب الاجتهاد الذي مازال مفتوحاً الأمر الذي جعل من الممكن سد فراغ هذه الثغرة الكبيرة وكذلك معالجة نقطة الضعف هذه..
وليس المراد من الاجتهاد هو الرأي الشخصي في حال عدم توفر دليل شرعي من الكتاب أو السنة وكذلك ليس المراد من الاجتهاد اﻹجتهاد مقابل النصوص ( قال الله كذا و أقول كـذا ) إنما المراد من الاجتهاد الاصطلاح الفقهي الذي يعني عملية الاستنباط وهي استخراج الحكم الشرعي والوظيفة العملية من الكتاب والسنة، ولكن عملية الاستنباط لا يمكن أن يقوم بها الفرد العادي ما لم تحصل له ملكة الاجتهاد (ملكة الاستنباط ) وهي تستلزم التبحر في الفقه والمعرفة الواسعة للأحكام مع استيعاب جميع المقدمات اللازمة لذلك سواء كانت مقدمات بعيدة كعلم الرجال والحديث والنحو والمنطق واللغة …… الخ
أو مقدمات قريبة كعلمي الأصول والفقه….
وعلى الأغلب أنها تستغرق مدة من الزمن تتجاوز عشرات السنين من الدراسة الجادة الجهيدة والمعمقة التي لا يوجد لها نظير في اعظم جامعات العالم أضف إلى ذلك أن عملية الاستنباط ( الاجتهاد ) هي عملية شرعية أمّر بها الإسلام، بل أنها أهم مصاديق التفقه في الدين الذي جاء في الآية الكريمة (( ولو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ))
أن التطور الذي حصل والذي أنتج كماً هائلاً من الحوادث والمسائل التي هي محل الابتلاء فعلاً أو بالقوة شكلّ في حينه تحدياً واضحاً للفقه الإسلامي …….
ولكن استطاع الفقه الإسلامي أن يصمد وأن ينتصر وأن يثبت ربانية الشريعة الإسلامية و كان ذلك على يد الشهيدين الصدرين( قدس الله سرهما)..
وكلامنا عن التحدي الذي واجه الفقه الإسلامي وبالتالي الشريعة الإسلامية وهي تقف أمام هذا التفجر في حقول المعرفة والازدياد في الحوادث ………
ولولا أن باب الاجتهاد مازال مفتوحاً وبصورة أدق لولا علم أصول الفقه لما تمكن علم الفقه من سد هذه الثغرة ……..
و من هنا تأتي أهمية علم أصول الفقه حتى على علم الفقه نفسه، بل أنه لا معنى لعلم الفقه بدون علم أصول الفقه، أو قل أنه لو كان علم الفقه قد استغنى عن تطوّر علم أصول الفقه أو استغنى عن تحقيقاته العميقة لما أمكنه سد الفراغ والتصدي لهذا التحدي الذي أستغله أعداء الإسلام فترة طويلة استمرت حتى بزوغ نجم السيد الشهيد محمد باقر الصدر الذي نجح في تعميق وتطوير علم أصول الفقه حيث أوصله الى ذروة الكمال على حد تعبير السيد كاظم الحائري(دام ظله)…
ولم يكتف السيد محمد باقر الصدر في وضع هذا الأساس النظري المعمق لعلم أصول الفقه بل تجاوزه إلى مرحلة التطبيق، وهو يقوم بسد هذا الفراغ الكبير و معالجة نقطة الضعف التي كانت تواجه الفقه الإسلامي بصورة عامة، فأهتم السيد محمد باقر الصدر بتأسيس الأنظمة الإسلامية التي ترتكز على الفقه والذي بدوره يرتكز على علم أصول الفقه …
فقام بتأسيس المذهب الاقتصادي الإسلامي وهذا العمل يعتبر أعجازا وخارقا للعادة فكان هو الرجل الأول الذي أستطاع أن يُجسّد و يبلّور المذهب الاقتصادي الإسلامي، وقد قال السيد محمد باقر الصدر(رض) من الممكن تأسيس أكثر من مذهب اقتصادي إسلامي وكلها تتصف بالشرعية وذلك استنادا إلى الاختلافات الفقهية التي تحصل بين الفقهاء وهذا يعني أن تأسيس المذهب الاقتصادي جاء نتيجة تعميمات وقواعد عامة مستقرئة من فتاوى فقهية والتي هي بدورها ارتكزت على علم أصول الفقه …….
وكان هذا العمل ومازال ثورة فكرية إسلامية وخطوة مهمة لمواجهة ذلك التحدي وسد الفراغ الذي نتج عن التطور العلمي من جهة و عدم تصدي الفقهاء لبيان الأحكام بإزائه من جهة أخرى، وكلنا يعلم أن عمر السيد الشهيد محمد باقر الصدر كان قصيراً جدا،ً وحجم المسؤوليات التي كان يتصدى لها كبيرة، الأمر الذي حال بينه وبين الاستمرار في سد الفراغ ولكنه استطاع أن يضع الأساس النظري لذلك، خصوصاً في علم أصول الفقه والذي يدّل علىُ هذا القول ما جاء في بنود أطروحة المرجعية الصالحة التي أكدت على بيان الأحكام الشرعية في كل ميادين الحياة النظرية والعملية، وأيضاً ما جاء في مقالة له في مجلة الإيمان بعنوان (( الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد )) والتي فسرّ من خلالها سبب انكماش موضوعات الفقه وتقلصها والذي أشرت إليه في هذا البحث بعنوان (الفراغ الفقهي تجاه الحوادث) ودعا إلى أن يكون الفقه شاملاً لكل الجوانب والأصعدة ))..
وبعد استشهاده ( قدس سره ) لم نجد صدى إصلاحاته العظيمة ودعوته إلى ﻷستيعاب الفقه كل جوانب الحياة…
حتى بزوغ نور السيد محمد الصدر(قدس)، حيث نجح هذا المفكر العظيم والمرجع الأعظم في أن يبعث الحياة من جديد لكل الإصلاحات التي دعا اليها السيد محمد باقر الصدر وأصبحت بفضل الله فاعلة مؤثرة قد أنجزها على أكمل وجه، ولحسن التوفيق أن أول كتاب طُبع للسيد محمد الصدر بعد استشهاد أستاذه السيد محمد باقر الصدر (رض) هو (( فقه الفضاء )) وهو رسالة عملية فقهية لا يوجد لها نظير في الفقه الإسلامي بصورة عامة والفقه الإمامي بصورة خاصة ولحد هذه اللحظة، وستظل لمدة طويلة من الزمن وهي لوحدها كافية لإثبات أعلميه السيد محمد الصدر( قدس ) في الفقه وفي الأصول ونحن أسميناها عملية لأن السفر إلى الفضاء أصبح من الأمور الاعتيادية لدى الإنسان وخصوصاً رواد الفضاء مع أن الشريعة الإسلامية لا تختص بفئة دون فئة بل هي تشمل المسلم والكافر، وكذلك لو تسنى لأحد المسلمين السفر إلى الفضاء وهو بحكم تبعيته للإسلام يكون ملزماً بممارسة العبادات فكيف وهو لا يجد فتاوى شرعية تحدد له كيفية الصلاة وسائر الأحكام الأخرى ……
ونحن نعلم أن الفقهاء يفتون بنحو الاحتياط الوجوبي بحرمة السفر إلى مكان ما إذا كان سببا لتعذر القيام بالوظيفة الشرعية، كما هو الحال في الدائرتين القطبيتين ومن باب أولى يكون السفر إلى الفضاء من قبل المسلمين يكون محل منع ولو بنحو الاحتياط الوجوبي وبالتالي سوف يكون أمام المسلم عقبة معيقة أما بنحو أن لا يمتثل لتعاليم دينه أو أن لا يتقدم في العلم، فجاءت رسالة فقه الفضاء حلاً و فتحاً مبينا…ً