23 ديسمبر، 2024 4:45 ص

الفرق الباطنية في التاريخ الاسلامي

الفرق الباطنية في التاريخ الاسلامي

3- القلندرية
القلندرية او قَلَندَر:” بالفتح عبارة عن شخص تجرد عن نفسه وعن الاشكال البشرية والاشكال العادية والاعمال التي لا سعادة فيها حتى صار من أهل الصفاء وترقى الى مرتبة الروح، وتخلص من القيود والتكليفات الرسمية والتعريفات الاسمية… والفرق بين القلندر والملامتي والصوفي هو أن القلندري قد وصل الى درجة الكمال في التفريد والتجريد. ويسعى في تخريب العادة. وأما الملامتي فيجتهد في إخفاء عبادته. وأما الصوفي: فهو لا يبالي قلبه بالحقائق أصلاً ولا يلتفت إليهم في شيء من أحواله، لذا فهو أعلاهم مرتبة”().
والقلندر نسبة الى الجولق الذي يلبسونه، او الى جلقهم (بالجيم) شعر رأسهم أي حلقهم إياه(). وقد تستخدم لفظة الجولقية مرادفة للقلندرية، كما فعل المؤرخ ابن الجزري المتوفى (سنة738هـ/1337م) عندما وصف قبة القلندرية وزاويتها الواقعة بالباب الصغير في دمشق بقبة الجوالقية().
وهو المتعبد الصوفي (الدرويش) الذي تحرر من القيود والعوائق والعلائق الدنيوية تحرراً كاملاً، وصدف عنها وعن التفكير في المستقبل المعاش والحياة، واتخذ التجرد والفقر والشحاذة والتسول والملامة شعاراً له، وإمعاناً في جلب الملامة إليه فقد يحلق شعره حيناً ولحيته ويترك شاربيه، وحيناً يحلق كل شعر رأسه، ويتقمص كل غريب من الهيئات ويتعرى ويظهر الاستخفاف بالتكاليف الشرعية وبعرف مجتمعه().
وليس لها في الحقيقة في تاريخ التصوف مؤسس بعينه فيقال: أسسها فلان، لأنها عبارة عن مفهوم لدى الصوفية ومشرب ينهل منه من تسميهم المصادر بالفقراء، وهي مجموع تراكمات بدعية عبر القرون يضيف اليها الاقطاب، والاوتاد، والاغواث، والاشياخ ما عن لهم ثم يتميزون بأمر فيستقلون بطريقة تنسب اليهم حيناً، وحيناً ينسبون الى المسلك والمذهب والمشرب فيقال: قلندري، وملامي. ولما كان منطلقهم ملامياً كما أخبروا عن أنفسهم وصرح به دارسوهم.
والقلندر والقلاش : كلمتان يوصف بهما بعض رجال الصوفية المجردين عن العلائق الدنيوية، وعند الصوفية؛ الرجل الذي هو من أهل الترك والتجريد، وقد تجاوز عن اللذائذ البشرية.
و تذكر الوقائع والوثائق العثمانية لهذه الطائفة اسماء عديدة منها: (طورلاقة) و(ايشيق- الضوء) و(قلندر) و(حيدري) و(شمسي) و(حاجي). فقد كانت هذه الطائفة تعيش على هامش الحياة الصوفية في أيام سلاجقة الروم، ولكن مع قيام الامارة العثمانية، فانهم أصبحوا يشكلون خطورة لاسيما مشاركتهم الفعالة في الفتح العثماني للاناضول الغربي، لذلك لم تتهاون السلطة المركزية العثمانية في مراقبتهم وملاحقتهم، ولأنهم كانوا يشاركون دائماً في الاغتيالات الموجهة لكبار رجال الحكم وعلى رأسهم السلاطين، ويشاركون في الثورات، فلم تكن نظرة السلطة العثمانية اليهم نظرة ارتياح، كما أن تحللهم من الاحكام والقواعد الدينية والاخلاقية كان يسفر في كثير من الاحوال عن تجنب الاهالي لهم().
وهما يكن من أمر فالقلندرية تيار صوفي أصوله في المذهب الملامتي ظهر في إقليم خراسان شرق إيران، كان أول ظهوره في آسيا الوسطى في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، أسسها الصوفي الايراني جمال الدين ساوي المتوفى (سنة632هـ/1233م) وهو من ملامتية خراسان، وقد التف حوله مؤيدون كثيرون؛ عرفوا في الشرق الاوسط بأسماء منها: القلندرية، والجولاقية، وانتقل دراويش القلندرية الى الاناضول(= أسيا الصغرى) أفواجاً فراراً من الغزو المغولي. وهذه الطائفة منقسمة الى قسمين: القسم الاول، طائفة من الدراويش الهائمين على وجوههم في قرى ومدن الاناضول؛ سواءً كانوا جماعات أو فرادى، أما الطائفة الاخرى تنتسب الى المذهب الصوفي المتميز كمذهب أبي بكر نقساري، وشمس الدين التبريزي(). قد عرفت الطائفة الاولى منهم في المصادر التاريخية ب (الطائفة الإباحية)، أو (طائفة الزنادقة)، أو (جوالقة القلندرية)، أو (طائفة الابدال). وأعرف هذه التسميات التي أطلقتها القلندرية على أنفسهم هي (طائفة الابدال). وما من ريب في أن الابدال لها مدلولها في التصوف. وأطلق الايرانيون اسم الابدال على الدراويش الذين انحرفوا عن الدين، وذلك منذ القرن الثامن الهجري/الثاني عشر الميلادي. ثم تسمى بالابدال دراويش القلندرية، والحيدرية على وجه الخصوص حتى نهاية الثامن الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وترتب عى ذلك أن تلقب بها شيوخ القلندرية، والحيدرية المشاهير مثل: جمال الدين ساوي، وقطب الدين حيدر في القرن التاسع الهجري/ الثالث عشر الميلادي.
وجاء في المصادر العثمانية أن الطائفة الاولى للقلندرية الذين كانوا يهيمون شاردين في البلاد؛ والذين أضربوا على الزواج وما راعوا بأوامر ونواهي الشرع الشريف، ولا الخلق الحميد، وما أقاموا الصلاة، وما تورعوا عن شرب الخمر، وتدخين الترياق، وكانوا يرتكبون المآثم والكبائر، ويصطحبون كلابهم الى المساجد. وقد ذكر أن جلال الدين الرومي المتوفى (سنة672هـ/1290م) شيخ الطريقة المولوية؛ عندما أحضر ابنه سلطان ولد الى الشيخ شمس تبريزي لكي يكون مريداً لديه قال له:” إن ابني لا يدخن الترياك، ولا يمارس اللواط”() ، وهو في هذا من مقولته يقصد الاشارة الى أن طائفة القلندرية؛ كان عمل الفاحشة معروفاً لديهم، ويدعون أن هذا صنيعهم مجلبة للوجد. ويضيف الكاتب أن هذه العادات كانت منتشرة في الاديان غير السماوية مثل: الشامانية، والزرادشتية، وأديان الهند في الازمنة السحيقة().
وفي هذا الكلام إشارة الى أن أتباع القلندرية تأثروا بديانات قديمة، وكانت لهم عاداتهم التي تبتعد عن الشرائع السماوية. ويظهر أنهم فريق من المتصوفة عرفوا بالملامتية، أو القلندرية، وشعارهم في مذهبهم أنهم يخالفون الشرع والعرف قولاً وفعلاً، كي يلفتوا الانتباه اليهم، ويدفعوا المعصية عنهم. فهم يقبحون، ويشوهون ظاهرهم، ولا يهتمون إلا بباطنهم، وما دام ما بينهم وبين ربهم عامراً؛ فلا يكترثون لرأي الناس فيهم. ويقولون، ويصنعون ما يدل على كفرهم، رغبة منهم في اثبات إيمانهم. فهم متظاهرون ويسخرون من الناس، وظاهرهم يخالف باطنهم؛ ولذلك أفعموا الشعر الصوفي باصطلاحات، ورموز ظاهرها الكفران، وباطنها الايمان.
وقد ذكر المصنفون القدماء الملامتية منذ أوائل القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، فمنهم صاحب كتاب( البدء والتاريخ) وحمل عليهم().
وتكلم عليهم ابن الجوزي المتوفى (سنة597هـ/1201م)، وقال إنهم قد اقتحموا الذنوب، وقالوا مقصودنا أن نسقط من أعين الناس فنسلم من الجاه، وهؤلاء قد أسقطو جاههم عند الله لمخالفة الشرع، ثم بين ابن الجوزي كيف أن الملامية بهذا المفهوم من أقبح الاشياء().
وتقبلت الصوفية مع مرور الأيام المفهوم المنحرف للملامة وكان أكثرهم من الاعاجم، وأصبح عدُ الرجل ووصفه بالواصل الخراساني مرادفاً لكلمة قلندري وملامي- وإن كانت هناك أصوات خافتة تنطلق منها تدعوا لمراعاة ظاهر الشريعة- وأقبل القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي وقد استحالت الملامية الى باطنية واضحة، وتزايد غلوهم في إظهار مخالفة الشريعة في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي وما بعدها، وبلغت حداً جعلت ( الملا جامي) يُعَلق مضطراً وهو يترجم لحمدون القصار المتوفى (سنة271هـ/884م) وهو من أوائل الملامية قائلاً:”… وهناك طائفة في هذا الزمان( القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي) اتخذت الاباحة والتهاون في الشرع والزندقة وانعدام الادب والحرمة عادةً لها، وسمت ذلك ملامة…”().
ويفهم من كلام عبدالغني النابلسي المتوفى(سنة1143هـ/1633م) أن هناك ضرباً من الملامية في زمانه مغالين فيها، بيد أنه سكت فلم يسمهم لا بالملامية ولا بالقلندرية، وإنما أدخلهم تحت مظلة التصوف فقال:” إنهم ينسبون أنفسهم الى مذهب التصوف، وعدَ ما يرتكبونه من أنواع الفسق والفجور- كذا من أكل الحشيش وشرب الخمر والرقص بنية العبادة، وأن في مجالسهم لوطيون ومردان حسان يُقبلون ويُمسُون بشهوة، وغير ذلك – كما قال – نوع من الآثام”().
مما تقدم يثبت بأن القلندرية جماعات من الصوفية الباطنية انحرفوا عن الفطرة والشرع الاسلامي المطهر، وعن أسس اتفق عليها كثير من أئمة التصوف المقتدى بهم. ولقد ظهر ذلك جلياً عند زمرهم العديدة من: حيدرية ويونسية وجولقية، وغيرهم، فكان كل شنائع الاعتقاد والعمل موجودة لديهم، ففي اعتقادهم هم بين وجودية(= وحدة الوجود) وحلولية(= حلول الله في قادتهم)، وهم في العمل غارقون في الرذائل والموبقات، كان تعاطي الحشيش(= المخدرات) من أهونها.

المصادر والمراجع والهوامش