22 نوفمبر، 2024 5:58 م
Search
Close this search box.

العلم التفصيلي والاجمالي والشك

العلم التفصيلي والاجمالي والشك

أود أن أسلط الضوء على بعض المصطلحات المهمة التي ينبغي على دارس الفقه والأصول معرفتها وسوف نخصص هذه المحاضرة لبيان الشك والعلم التفصيلي والعلم الإجمالي .

1-العلم التفصيلي :- وكما يعرفه السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في كتابه العظيم الأسس المنطـقية للاستـقراء (( العلم التفصيلي هو علم بالشيء محدد أو علم بنفي الشيء محدد )) .
وينبغي لنا معرفة العلم وهو حصول صورة الشيء في الذهن وهو على نوعين تصور وتصديق .
ومن خلال هذا التعريف فـأن المراد من تعريف السيد الشهيد (( قدس سره)) هو التصديق وذلك لوجود قرينة على ذلك وهي العلم بالشيء والعلم بنفي الشيء فبعد أن نـتصور الشيء نحاول إثباته ونـفيه في الواقع، فالعلم التفصيلي وحسب التـعريف هو الخبر أو القضية المراد إثباتها أو نفيها…

فإذا علمنا بالنفي كان تـفصيلياً وإذا علمنا بالإثبات كان تـفصيلياً أيضاً.

ونعود للتوضيح توخياً للفائدة وعلى الله التوكل .
وخير ما نبدأ به هو إعطاء مثال أو أمثلة على العلم التفصيلي فمثلاً لو أن أحد أخوتك سافر إلى البصرة وعلمت بالتحديد إنه زيد كان علمك بسفر زيد علماً تـفصيلياً لأنه علمٌ بالشيء محدد…

ولو علمْتَ أيضاً بأن الشمس غير مشرقة فـعلمك علم تـفصيلي لأنه علم بنـفي الشيء محدد…

وعلى هذا المنوال يمكن التطبيق على الكثير من الأشياء…

ومثال آخر أيضاً إذا حصل لك العلم بأن هذا الإناء الذي أمامك هو طاهر فهذا العلم تـفصيلي أيضاً . وعلمك بأن بغداد عاصمة العراق أيضاً علم تـفصيلي. وعلمك بحرمة الزنا وشرب الخمر أيضاً تـفصيلي..
والعلم التـفصيلي هو هدف المجتهد ومن هنا عرّف السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) عملية الاستنباط (( بأنها تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديداً أستدلالياً ))…
ويدلنا على ذلك كلمة ((تحديد)) فهو تحديد للموقف العملي أي هو علم تـفصيلي بالموقف العملي وعملية الاستنباط بكلا نوعيها ينـتج منها تحديد الموقف العملي سواء كانت عملية الاستنباط القائمة على أساس الدليل أو عملية الاستنباط القائمة على أساس الأصل العملي …

2- العلم الإجمالي:- ويعرّفه السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في نـفس المصدر بأنه ( علم بالشيء غير محدد أو علم بنفي الشيء غير محدد ) وينبغي التمثيل بعدة أمثلة توضيحاً للمطلوب…
فمثلاً لو أنك علمت بسفر أحد أخويك ولكنك لا تعلم بالتحديد من الذي سافر هل هو زيد أم عمرو فهذا العلم علم إجمالي لأنه يتألف من علم بالجامع وهو السفر وجهل بالمسافر فإنك لا تستطيع أن تـنفي أو تـثبت المسافر من هو فلان أم فلان .
ومثال آخر وكما يعبرون في الفقه (( متحير القبلة )) أي الشخص الذي يجهل اتجاه القبلة فأنه يعلم إجمالاً باتجاها ولكنه لا يستطيع تحديدها لأن الاتجاهات محصورة وهي أربعة مع إن الاحتمالات هي أكثر من أربعة أي من ناحية نظرية ولكن حيث إن الإنسان يعلم بأن القبلة موجودة في الأرض وليس على سطح القمر فالذي يكون في الأرض تكون الاحتمالات لديه أربعة ….
مثال آخر لو أن لديك قدحين من الماء أحدهما نجس ولكنك لا تستطيع تحديد القدح النجس من الطاهر بسبب الاشتباه ولكنك تعلم بالنجاسة إجمالاً وتجهلها تـفصيلاً ..

وكذلك الأمر بالنسبة لو كان هناك ثلاثة بيوت أحدها مغصوب ولكنك لا تعلم المغصوب منها، فأنك تعلم إجمالاً بالبيت المغصوب دون تحديده ..
فالعلم الإجمالي هو علم بالجامع وشك بالأطراف …

الشك :- هو قسم من أقسام الجهل وفيه يتساوى النفي والإثبات أي نـفي الشيء وإثبات الشيء بحيث لا يوجد ترجيح طرف على الطرف الآخر والشك يمكن تقسيمه إلى قسمين ونوعين :-
الأول :- الشك المقترن بالعلم الإجمالي ، وهو شك في أطراف العلم الإجمالي . فـفي مثال السفر هناك طرفان للعلم الإجمالي وهو هل المسافر زيد أم المسافر عمرو ؟

مع إننا نعلم بالسفر وقوعاً ولكننا نشك بالمسافر فلو أخذنا أحد الأطراف في هذا المثال وليكن زيد نلاحظ أن نسبة سفر زيد إلى نسبة عدم سفره متساوية وحيث إن السفر هو الإثبات وعدم السفر هو النفي والنسبة بينهما هي التساوي فيكون هذا الطرف مشكوكاً ويسمى هذا الشك ( بالشك المقترن بالعلم الإجمالي) أي إنه مرتبط بالعلم وليس مستـقل عنه وهناك خلاف بين علماء أصول الفقه في جريان أصالة البراءة في هذا النوع من الشك أي الشك المقترن بالعلم الإجمالي ..
الثـاني :- الشك الساذج (( الابتدائي أو البدوّي )) وهو شك غير مقترن بالعلم الإجمالي وبعبارة أدق لا يوجد علم بالجامع أي إننا إذا جمعنا الأطراف ينتج علماً بالجامع ..
فالشك الساذج ليس علم وغير مقترن بعلم . فمثلاً عندما يحصل لنا شك بأن هذا الإناء هو طاهر أم نجس فهذا الشك ساذج لأنه لم ينشأ بسبب العلم بأحد الأطراف تحديداً ثم حصل الشك به وبالتالي أصبح علم إجمالي لأن العلم بالجامع موجود ولكن الشك حصل في أطراف العلم .
بعد أن تمّ توضيح وشرح هذه المصطلحات الثلاثة نحاول المقارنة بينها بمقدار ما ينفعنا علمياً ..
نلاحظ إن العلم التـفصيلي يشترك مع العلم الإجمالي بالعلم ونلاحظ أيضاً أن العلم الإجمالي يشترك مع الشك بالشك .
ولكن لا يوجد اشتراك بين العلم التـفصيلي والشك بكلا نوعيه الساذج والمقترن بالعلم الإجمالي ..
فالعلم التـفصيلي علم وتحديد، بينما الشك هو لا علم ولا تحديد .

ومن هنا وبعد هذا التمهيد نستطيع أن ندخل في شرح مصطلح آخر من المصطلحات في الفقه والأصول وهو (( الشبهة )) الشبهة هي الشك بالشيء سواء كان ساذجاً أم غير ساذج وبالتالي يندرج العلم الإجمالي والشك الساذج في عنوان الشبهة فالشبهة معناها عدم التحديد أي أنها تقابل العلم التـفصيلي فأما شبهة وأما علم تفصيلي . فلا توجد شبهة في العلم التفصيلي إطلاقاً .
والشبهة مرتبطة بالشك بغض النظر عن نوعه ولذلك اندرج العلم الإجمالي تحت هذا العنوان لارتباط الشك به والشبهة بدورها تنـقسم إلى قسمـين من حيث متعلقها :-
1-شبهة موضوعية : وهي الشك في الموضوع(موضوع الحكم الشرعي او متعلق الحكم الشرعي) مثاله الشك في القبلة والشك بالسائل هل هو ماء أم ماء ورد والشك في ثبوت الهلال والشك في الأعلمية وعدمها…

والشبهات الموضوعية ليس فيها تقليد ولكن قد تتـعلق الشبهة الموضوعية بأمر ونهي الولاية العامة إذا تحققت مصلحة عامة أو مفسدة عامة من قبيل الشبهات التي تأخذ اهتمام المجتمع مثل الهلال وغيرها فيأمر بها الولي بعد ثبوت الهلال لديه من اجل حفظ المصالح العامة وتوحيد الصف …

ولكن القاعدة العامة في الشبهة الموضوعية هو عدم وجوب التـقليد ..
2- الشبهة الحكمية : وهو الشك في الحكم مثال ذلك الشك في صحة الصلاة وبطلانها والشك في الملكية وعدمها والشك في تحقق الزوجية وعدمها والشك في الطهارة وعدمها وكذلك الشك بالوجوب أو الإباحة وهكذا …

والشبهة الحكمية تواجه الفقيه والمجتهد بل إن من أهم وظائف المجتهد هو تحديد الحكم الشرعي أو تحديد الموقف العملي تجاه الشبهة الحكمية بل وحتى تحديد الموقف العملي تجاه الشبهة الموضوعية ولكنه لا يتدخل في الشبهة الموضوعية فهي راجعة للمكلف نـفسه .
والشبهة بدورها من حيث تعدد الأطراف تنـقسم إلى
أ – الشبهة المحصورة : وهي الشبهة التي تكون محصورة الأطراف مثال ذلك متحير القبلة فأن الأطراف هي أربعة .
ب- الشبهة غير المحصورة : وهي شبهة تتعدد أطرفها بحيث تسقط أهميتها مثال ذلك البيت المغصوب من بين مائة بيت غير مغصوب مع أننا لا نستطيع تحديد هذا البيت من بين جميع البيوت فـتكون قيمة الاحتمال ضئيلة وهي 1% مع أن قيمة الشك تنـقسم على عدد الأطراف وفي الشك الساذج تصل إلى 50% وكذلك الأمر بالنسبة للعلم الإجمالي إذا كان ذا طرفين ..
وعلى ضوء ذلك كله نستطيع أن نـفهم الأصول العملية ومتى يكون دورها فاعلاً ومتى يلجأ إليها الفقيه فـعلى ضوء العلم التفصيلي والإجمالي وعلى ضوء الشك تـتنوع الأدلة والأصول العملية وبالتالي تخـتلف نتائج عملية الاستنباط فتارة تكون النتيجة هو العلم التـفصيلي بالحكم الشرعي وأخرى تكون وجوب الاحتياط أمام الشبهة أي اشتغال الذمة وأخرى تكون عدم وجوب الاحتياط أي البراءة وعدم الاشتـغال وهذا هو الذي يفسـر تنوع الإصطلاحات المستـعملة من قبل الفقهاء في رسائلهم العملية…..

تم الفراغ من كتابة هذه المحاضرة في عام 2004 والحمد لله رب العالمين…

أحدث المقالات