كتبت في هذا الموضوع مرارا , وركزت على قادة الأمة وخطبائها وإعلاميّها , لأن المجتمع بهم يقتدي ومنهم يتعلم , وعندما لاينطقون العربية بلسان فصيح ونحوية متقنة , فأن ذلك يجعل آذان المستمعين تتعود على النطق المختل والرطانة والإضطراب , ولا تحسبه إنحرافا أو إعوجاجا أو إعتداءَ على اللغة والهوية والذات الناطقة بتلك اللغة.
والكل يعرف مقولة “العقل السليم في الجسم السليم” , وهي قد تكون صائبة بعض الشيئ لكن حقيقة وجوهر سلامة العقل تتأكد بالنطق السليم للغة , لأنها أداة التفكير ومادته وبها تتكاثف الأفكار وتوضع بصيغ تعبيرية تمثلها , وتساهم في ترويجها وترجمتها إلى سلوكيات أخلاقية ومادية ذات قيمة مؤثرة في الحياة.
وقد عدت إلى موضوع النطق السليم بلغة الضاد وأنا أستمع لفتاة مغربية دون العاشرة من عمرها , وإسمها “مريم إمجون” , وهي تتكلم بلسان عربي فصيح مبين , وتبدو وكأنها نابغة لغوية وتمتلك قدرة تربية أجيال وطاقة بناء لسان عربي قويم.
فتاة تشعرنا بالفخر والعزة والثقة بأن للعربية أجيال تحميها وتغار عليها , وتحييها وترفدها بمقومات التجدد والمعاصرة والإنطلاق المعرفي والعلمي الكامل , وهي المؤهلة لخوض ميادبن الإبدع والإبتكار الإنساني في جميع الحقب والعصور.
فتاة تقول أن اللغة ” مستشفى العقل” , وهذا تعبير خارق ومركز وصائب وفتان , فاللغة السليمة تداوي العقول وتشافيها من العديد من الأمراض , ذلك أن توفر المفردات اللغوية وعافيتها وصلاحيتها , تؤهل العقل للتعبير الصحيح عن الأفكار والتفاعل الموضوعي والمنطقي الخلاق , القادر المقتدر المتحكم بمنطلقات السلوك والإستجابات.
فكلما توفرت للعقل لغة تامة إتصف بالتمام والسداد , وإنكمشت التأثيرات العاطفية والإنفعالية التي تذله وتعتقله في صناديق الويلات والتداعيات , ولهذا تجد المجتمعات المتقدمة تثري عقول الناس فيها بالمفردات , والتي تتطلب كل مرحلة عدد منها , منذ رياض الأطفال وحتى المراحل الجامعية , فلكل مرحلة كمٌّ من المفردات التي يجب أن يتعلمها الإنسان قبل الإنتقال لمرحة أعلى , فهكذا تُبنى العقول وتتوفر المواد اللازمة للإبتكار والإبداع الأصيل.
ولو قارنا مجتمعاتنا بمراحل تكونها لأدركنا أن الإنسان فيها كان يمتلك مخزونا لغويا في الأجيال السابقة أكثر مما تمتلكه الأجيال اللاحقة , وقدرته على النطق السليم بلغة الضاد أتقن وأضبط مما هي عليه الآن.
ولهذا فأن الأمة بحاجة إلى الإنتباه لهذا التحدي الحضاري الكبير , وتدرك بأن سلامة نطق اللغة , وغزارة مفرداتها في العقل العربي من أهم العوامل التي ستساعد على الإنتقال بالأمة إلى مصاف المجتمعات المعاصرة.
وعليه فلا بد من ثورة لغوية عربية شاملة , وتبدأ بالقادة والمسؤولين والخطباء والوجهاء والإعلاميّن والكتاب والصحفين.
فاحترموا لغتكم يا عرب , “فكم عزت أمم بعز لغاتِ”!!