تتقاذف أعراض الشيز وفرينا توصيفات مصادر الفكر العربي للنهضة، سواء في تعاطي النخب الأرستقراطية الباهظة التكاليف في الية تكوينها لمشاريع النهضة، او عدم استجابة الطبقات المنخورة بآفات الفقر والجهل المزمن لصدمات الانعاش الحضاري. فقواسم الاختلال تنحصر بين محددين، المحدد السلفي والمحدد الحداثي , فالشيز وفرينا ولدت في رحم الحركات الإصلاحية التي سخرت كل طاقتها لبناء الدولة الاستبدادية الخالية من مرجعية الامه، ولذلك تفتت حلم النهضة بين الرؤية المعاصرة للإصلاح وبين الهوية الإسلامية المرجوة لهذه النهضة، اذ انحدرت معظم ألوان الوجود الاجتماعي العربي من علمانيين واشتراكيين وسلفيين ودعاة تنوير وأصحاب الأيديولوجيات الإصلاحية في صراعات لا تنتهي، سواء في ترتيب الالويات او في طرق التطبيق الواقعي لمشاريع النهضة.
اقترفت الحركات الإصلاحية بمختلف الوانها خطأ تكتيكيا قاتلا” فيما يخص تعبئة الوعي المساند (الامه)، حيث تحول الوعي الجمعي التقليدي في نظر الحداثيين ,الى عائق يجب تفكيكه وإلغائه بحجة أعاقته الانتماء للحضارة الحديثة، فحدث الفصام الأول عندما حاولت هذه الحركات مسح الذاكرة الجمعية بحجة الحداثة. وحدث الفصام الثاني عندما اكتفى أصحاب الثورات ومشاريع الإصلاح بعلمنة السلطة والتنعم بامتيازاتها والانفصال عن الجماهير، أذاً نحن أمام فصام في الرؤيا وفصام في التطبيق، ليجتمع ذلك كله مع الفصام الكبير وهو عندما يتاح للجماهير التعبير عن ذاتها، فتتنازل عن ابسط الحقوق الطبيعية في الحياة والاستقرار والامن وتهرول خلف حراس الهيكل بمنتهى الجنون في تبني طروحات تاريخيه بذريعة الانتماء الروحي. فتعيد الحياة لتاريخ منفصل عن واقعها ولا يعبر عن طموحاتها في الازدهار.
الشخصية العصابية والتي من أعراضها الشيزوفرانيا, يقول فيليب ريف أنها غير قادره على الإفلات من قبضة التاريخ، ولذلك عندما حلل جورج طرابيشي الخطاب العربي المعاصر ونكوصه عن النهضة الى الردة، جعل من عقدة الدونية امام الواقع مفتاحا” لفهم الاضطراب والخلل المرضي في العقل العربي. وجد هذا التحليل مكانه بين المحاولات العديدة ل عابد الجابري وهشام شرابي ومصطفى حجازي في تفكيك الخطاب العربي. فعندما رفض السلفيين الاقتراب من حضارة الغرب ووضعوا أنفسهم في حالة نفي مزدوج للذات والحضارة، رقص الحداثيين (الفالس) على أنغام يوهان شتراوس ووقعوا ضحية شيزوفرنيا منهجيه , حيث سوقوا لمظاهر حضارة الغرب وبنفس الوقت وإظهارا” للكرم العربي استخدموا تقنيات الحداثة الغربية في التمسك بتراثهم الإسلامي.
يرى البروفيسور التونسي محمد الطالبي ان الشريعة التي انتحر على أعتابها الاف البشر ماهي الاّ وجهة نظر واستنتاجات للنص المقدس لفقهاء القرن الثالث الهجري , فمن ناحية ما يوصف جدلا” بالتشدد الإسلامي ما هو الا التطبيق الطبيعي لشريعة هؤلاء الفقهاء، فهم ليسوا متشددين بالمعنى الإسلامي، وما كان يمنعهم من اظهار عقائدهم سابقا “هو اليد الغليظة للسلطة. لذلك كان الفقهاء على طول التاريخ يعانون من شيز وفرينا طاغيه بين واقع رافض لطروحاتهم وولائهم لعقيده واجبة التطبيق. والناحية الأخرى لم يستطع الخطاب العربي بشقيه الحداثي والسلفي من بناء عقل نقدي في حواره مع المغاير، بل سلك مسارا” نكوصيا” ارتداديا في رؤيته المعاصرة لنهضة الغرب لدرجة اتهام الرواد الأوائل بالخيانة, اما من استلهم الحضارة الغربية ومعاييرها كأحمد أمين ومحمد اركون فقد أستبطن الرؤية الغربية الظالمة للتراث الإسلامي الى درجة ان يدعو أدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) الى تجريم التراث الفلسفي والادبي لابن رشد والسهر وردي وابن عربي, رغم اعتراف العديد من المحافل الدولية الغربية بعضمه هذا التراث.
يقول العقلاء ان الحضارة تتجدد وتنمو عندما تكون قابله للنقد والمراجعة، والموت مصير طبيعي للحضارات المقدسة، وهذا المفهوم لم يدرك الرواد تجلياته في تاريخ النهضة الحديثة، فعندما يتشدق الماركسيين بأن الاشتراكية هي الحل والبعثيين بأن الوحدة هي الحل، والليبراليين بأن الديمقراطية هي الحل، فهم يتشدقون بثمار الحضارات الأخرى رغم أدراكهم بأن استعارة النماذج الحضارية هو غرس لشيز وفرينا فريدة في المجتمع.
لا يمكن انتاج نهضه عربيه الا بزرع بذور جديده لهذه النهضة، ومن يحاول نفض غبار التاريخ سيصطدم بحقيقة ان الحضارات الميتة لا ينفع فيها التنفس الاصطناعي في أنعاشها. أن رمادية الماضي في عدم أنتاج مشروع نهضوي شامل يحترم القيم الإسلامية ويغربل التاريخ المزيف , لا يسوغ حقن الوعي الجمعي بضبابية المستقبل والاعتراف بالعجز الحضاري التام, لدينا طاقة روحيه هائلة تختزن في كلمات الله, تكفي لأنشاء حضارة انسانيه متقدمة, سيكتمل بدرها ان اكتشفنا هويتنا الحقيقية..