تلك الفتاة الجميلة صاحبة احلى قوام واحلى تسريحة، بقيت اكتب شعرا لها، ولم اجرؤ على الاقتراب منها سنين عديدة، كانت تسير بثقة عالية تجعل الآخرين يخشون الاقتراب، صفاء الجميلة الواثقة، تمسك كيس الحناء بعد اربعين عاما لتدور وتبحث عن صور الاولياء في الاستدارات والساحات التي ملأت بغداد، امرأة عجوز متعبة تسير ببطء شديد، وكأنها متسولة تدور مع دوران عقارب ساعة الزمن الرديء، اين تلك القامة الممشوقة، واين ذلك الشعر الذي كان مصداقا لقول عبد الحليم حافظ، واين تلك الابتسامة الجميلة، صادرها الوقت وصادرتها بلاد يعود فيها الانسان الى وقت متخلف يوقظ حواسا لم تكن صاحية من قبل، تقف في طابور كبير من النساء، لقد مات زوجها وبقيت مع اولادها الستة، تبحث في الامكنة وتخشى كثيرا من الزمن، هي خائفة، زقاق كامل لم يبق فيه بيت لم يعط شابا او اثنين، للموت الفجائي او الموت في الحروب والمفخخات، اعتادت على امر محدد، تستيقظ صباحا، وتسلم على ابنائها وتقول لهم وداعا، ثم تعود لتصحح ماقالت فتصيح الى اللقاء، تقف في الطابور لتضع الحناء على جدران المساجد وصور الاولياء، تتمتم بعدة كلمات وترحل الى صورة اخرى ومسجد آخر، لاتطلب شيئا سوى ان يبقوا اولادها معها.زقاق باكمله اعطى فيه كل بيت واحدا او اثنين، وبيتها الوحيد بكامل ابنائها،( انا خائفة جدا يامحمد، ماكو بيت مابيه مصيبة، وخاف يوصلنه السره)
هذا كان كلامها حين استوقفتها واستغربت من حالها المزري، تحمل كتبا معها وهي تدور على مجالس العزاء لتقرأ فيها مجانا، وفي نهاية كل مجلس كانت تطلب طلبا محددا، طلبا واحدا لاغير، تطلب من الحسين بالذات ان يحفظ اولادها، جميع النساء الفاقدات في الزقاق يترصدن ابنائي، لم يبق لي حل سوى ان ابيع الدار وارحل الى منطقة اخرى لايعرفون فيها عدد اولادي، او ربما بعثت اثنين منهم ليعيشوا مع اخوالهم، قلبي يتوقف حين تسألني احداهن عن عدد اولادي لتعقب بعدها الله ايخليهم وتغمز المرأة بجانبي، بل اكثر من هذا، لقد سمعت واحدة قالت وبالفم المليان، خوما مثل حظي سكنوا النجف، ذلك اليوم عدت الى البيت مسرعة، وجمعتهم حولي، ولم اسمح لاي واحد منهم ان يغادر البيت، كنت خائفة جدا.ذلك الصباح كان مختلفا، لم تنم ليلتها السابقة، كان صباحا مغبرا، اتصلت بها اختها واخبرتها ان ماجد ابن جيرانها قد استشهد، وطلبت منها ان تذهب الى العزاء، تناولت كتبها لتطلب في نهاية المجلس حاجتها الوحيدة، وهي تردد ان الحسين يقف معها، ذهبت مسرعة لتكون الصوت الاول الذي سيطرق اسماع الفاقدات، في زحمة البكاء والعويل وفي قمة نشوة الحزن المجنون، والنساء من حولها يلطمن صدورهن ويضربن اكتافهن بقوة، وذهبت عائلة الفقيد الى الابعد فشوهت النساء وجوههن، بالاظافر، الاجساد تترنح تحت طائلة الفقد والثكل، هذه الاجساد البضة المكتنزة خلقت للطم والعيون السوداء الجنوبية خلقت للبكاء، في نشوة انتصارها من انها ستفوز بدعاء جديد يحفظ ابناءها، رن جرس الهاتف، هاتفها المحمول كان عبارة عن دعاء او توسل بالله، بمجرد ان سمعت الصياح سقطت مغشيا عليها، ام ياسر، ياسر استشهد بالانفجار.