23 ديسمبر، 2024 9:57 ص

بادئ ذي بدأ أود أن أوضح أن نيتي لا تهدف لإثبات ونفي استطلاعات الرأي العام, ومع إنني اشك واشكك بالفرضية المشاعة حول إن كل استطلاع للرأي للناس يمكن أن يكون لهم رأيا فيه, وبعبارة أخرى اشكك في حقيقة وجود إنتاجا للرأي أو بإمكانية التعبير عنه أو حتى بإتاحة ذلك للجميع, غير إنه لربما سأخالف رأيي بعض الشيء خشية المخاطرة بإيذاء مشاعر شخص ما قد يؤمن في سذاجة بأكذوبة الديمقراطية.
أرى أنه من الممكن إثبات أن جميع الآراء ليست مهمة على الإطلاق، وأن حقيقة جمع الآراء بأستطلاعات الرأي هي ليست أكثر من إنتاج أعمال فنية لا معنى لها, وببساطة ليست هناك فرضية صريحة حول وجود إجماع حول القضايا، وغالباً ما يتم تحدي استطلاعات الرأي العام بطابع السؤال عن تمثيلية العينات, وأعتقد أنه نظراً للحالة الراهنة وكذلك للوسائل التي تستخدمها برامج استطلاعات الرأي العام فإن هذا الاعتراض لا أساس له من الصحة لأنه لا يتم إجراء العمليات بصدق بحيث يتم طرح الأسئلة الماكرة في استطلاعات الرأي أو استخدام تلك الحيل في صيغها، وغالباً ما يتبين أن الإجابة مشتقة من شكل بناء الأسئلة, وحتى الإشكاليات الخاصة بالاستطلاع التي يقام بها ذلك النوع من التنظيم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالظاهرة وتخضع لنوع معين من النظام الاجتماعي.
تخضع الإشكاليات التي تقترحها دراسات الرأي العام للمصالح السياسية، وذلك يؤثر بشدة على كل من معنى الإجابات والمعنى الملحق بنشر النتائج وإن استطلاعات الرأي العام في أشكاله الحالية هو أداة للعمل السياسي, ولعل أهم وظائفه هو غرس الوهم القائل بأن هناك رأي عام باعتباره حتمية يتم الحصول عليها فقط من خلال إضافة آراء فردية, الغرض منه هو إخفاء حقيقة حالات الرأي العام، والتأثير الأساسي في استطلاعات الرأي تأتي في الموافقة على فكرة وجود الرأي بالإجماع، وهذا لإضفاء الشرعية على سياسات معينة.
يتم فرض فلسفة خفية للتصويت على استطلاعات الرأي العام وإذا ألقينا نظرة عن قرب فسنجد أن النسبة المئوية لأولئك الذين لا يجيبون على الاستبيانات أعلى بشكل عام بين النساء مقارنة بالرجال، وأن الفرق في هذا الصدد هو الأكثر أهمية إذ أن الأسئلة الأكثر طرحًا تكون سياسية وكلما كانت مسألة الاستبيان أقرب إلى مشاكل المعرفة والإدراك ازداد الفرق في حصة “غير مجاب” بين الأكثر تعليما والأقل تعليما وذلك على النقيض عندما تتعلق الأسئلة بقضايا أخلاقية، وكلما تناولت الاستطلاعات قضايا النزاع وعقدة التناقضات كلما زاد التركيز على السؤال عن أي فئة معينة من الناس تستطلع, وكلما ازدادوا عددا سيجتمعون على حصة لم تتم الإجابة, لذلك لن يقدم الاستطلاع سوى تحليل بسيط للإحصائيات وستبرز به بقوة حصة “بدون إجابة”، فيتم تعريف المعلومات على أنها الاحتمالية فيما يتعلق بتلك الفئة للحصول على رأي وكاحتمال مشروط للحصول على رأي مؤيد أو غير مؤات.
إن أحد أكثر الآثار الضارة لدراسة الرأي العام هو بالتحديد أن الناس مطالبين بالإجابة على أسئلة لم يطلبوها هم أنفسهم ولنأخذ على سبيل المثال أسئلة تركز على القضايا الأخلاقية سواء كانت تتعلق بصرامة الآباء أو العلاقات بين المدرسين أو الطلاب أو التوجيه التربوي أو الدراسي وما شابه, في كثير من الأحيان ينظر إليها الناس على أنها مشاكل أخلاقية وكلما انخفض مستوى هؤلاء الناس في التسلسل الهرمي الاجتماعي كلما انخفضت فاعلية الأسئلة، وقد تكون تلك الأسئلة تطرح نفسها كقضايا سياسية للناس حين يكون الاستطلاع للطبقات العليا فتتحول الاستجابات الأخلاقية إلى استجابات سياسية بمجرد فرض مستويات ووجهات نظر لطبقات عليا.
هناك العديد من الطرق التي يمكنك من خلالها تحديد الإجابة مسبقًا, وبالنسبة للبعض لربما تتحول أسئلة الاستطلاعات إلى سياسية وبالنسبة للآخرين فقد تكون مسألة أخلاقية بحتة لذا يتم تصميم الاستبيانات بطريقة تجعل الناس لا يسألون ولا يفكرون أو حتى لا يعتبرون أنفسهم مشاركين أو مهتمين في السياسة أو قريبين منها، وذلك يكشف عن اختلاف خطير للغاية في فن نوعية الاعتماد على نوع المجموعة الاجتماعية إذ إن الشرط الأول للحصول على إجابة ملائمة لمسألة سياسية هو القدرة على تمثيلها على وجه التحديد والثاني هو القدرة على تطبيقه على فئات سياسية بحتة والتي قد تكون بدورها ملائمة إلى حد ما أكثر أو أقل تطوراً، وإن كتلة الأجوبة التي تعتبر إجابات عن السياسة تتم في الواقع وفقا للطبقة العرقية. وبالتالي قد تكتسب تلك الاستطلاعات معنى مختلفا تماما عندما يتم عرضها وتفسيرها على أوضاع المجال السياسي.
في رأيي ينبغي التشكيك في أهمية الإجابات على معظم الأسئلة لإن السلسلة الأولى من الأسئلة التي قد تؤثر على نوع من الابتكار في العلاقات الاجتماعية تكون في مستوى ارتفاع مكانة المستجيب في التسلسل الهرمي الاجتماعي وحسب مستوى التعليم, وعلى العكس من ذلك فإن الأسئلة التي تؤثر على أنواع التغيرات الفعلية في علاقات القوة بين الطبقات كلما زاد رفض المجيبين أكثر كلما كان المدعى عليه أعلى في التسلسل الهرمي الاجتماعي. وأثر فرض وجهات النظر والأثر الناتج عن أي استطلاع للرأي العام وبكل بساطة من أية مسألة ذات طبيعة سياسية هناك نتيجة لحقيقة أنه خلال استطلاع رأي الرأي العام, لا الأسئلة التي تطرح في الواقع يتم تنفيذ تفسير الإجابات بغض النظر عن الإشكالية التي تنعكس حقا في إجابات فئات مختلفة من المجيبين وان المشاكل المسيطرة هي فكرة تدور لتعطي قائمة بالأسئلة التي طرحتها مؤسسات المسح أي المشاكل التي تهم في المقام الأول أولئك الذين يريدون أن يكونوا على علم بوسائل تنظيم أعمالهم السياسية فيتم استيعابهم بشكل غير متساو من قبل الطبقات الاجتماعية المختلفة. وإذا كانت استطلاعات الرأي العام تفهم بشكل سيئ حالات الرأي المحتملة فإن السبب هو وضع مصطنع يتم فيه تسجيل آراء الناس بواسطة صناديق الاقتراع وفي الأزمات تتكون حالات الرأي العام عبر توجيه الناس بآراء متشعبة وآراء مدعومة من قبل مجموعات فردية أو فوضوية وبالتالي فإن الاختيار بين الآراء يعني بوضوح الاختيار بين المجموعات, وهذا هو مبدأ تأثير التسييس الناجم عن فحوى وامتداد الأزمات.
إن حقيقة “عدم الإجابة” تتضح عبر حقيقة أن همة الاستعدادات لعديد من الفئات الاجتماعية لا تصل إلى وضعية طرح الرؤية الصريحة للرأي العام أي أنها غير مكتملة لكنها تدعي تماسك التعبير وحاجة الاستجابة العامة, وأن الناس الذين ليس لديهم رأي سيختارون في جو من الأزمات وعن طريق الصدفة, لذلك أوقن وأؤكد أن الرأي العام الصريح لا وجود له، وعلى الأقل في الشكل الذي يمثله كل شخص مهتم بتأكيد وجوده. كما إن هناك آراء تشكلت وحشدت وانضغطت بجماعات حول النظام في إشكال واضحة من المصالح المتقاطعة, ولذلك فأن الاستطلاعات هي ليست آراء حقيقية، وبياناتها ونتائجها ليست مقبولة وذلك حينما يطلب دوما من المشاركين فيها أن يختاروا موقفًا بين الآراء المُصاغة، وما إن يتم ذلك عن طريق الجمع الإحصائي البسيط للآراء المنتجة حتى يتم بهذه الطريقة إنتاج وإعلان النتائج والتي هي بجملتها منافية للوقائع ومناقضة وشاطبة لحقيقة الرأي العام.