22 ديسمبر، 2024 7:50 م

الشيخ عبدالحميد البيزلي الريكاني سيرة ومواقف

الشيخ عبدالحميد البيزلي الريكاني سيرة ومواقف

القسم الخامس
المواقف
للشيخ عبدالحميد مواقف كثيرة في الدفاع عن المظلومين ونصرة قضاياهم، فعلى سبيل المثال كان له مواقف مشهودة في التصدي لمخططات النظام العراقي السابق في محاولته القضاء ليس على الحركة الكردية فحسب، بل وأد كل تحرك أو صوت كردي معارض لمخططاتهم الجهنمية لترويض الكرد كشعب بحجة تمرده وتصديه للسلطة العراقية في المرحلة الاولى. وفي المرحلة الثانية اتهامهم الحركة الكردية بدعم الايرانيين وجيشهم وميليشياتهم في محاولة غزو الاراضي العراقية أثناء سنوات الحرب العراقية – الايرانية (1980 – 1988م).
كان للشيخ عبد الحميد مواقف واضحة وصريحة في عدم الاستجابة لمطالب الجهات الامنية في محافظة بغداد أثناء إمامته وخطابته في جامع الفضل في وسط بغداد، وتم استدعائه مرتين من قبل مديرية الأمن العامة حول الدعاء للرئيس العراقي آنذاك، وعلى أية حال فإن الشيخ لم يستجب لهذه المطالب.
وفي السياق نفسه فقد تم استدعاء الشيخ الى احدى الجهات الامنية في بغداد مرة ثالثة بحجة أنه يحمل جريدة ( طريق الشعب) الناطقة بلسان الحزب الشيوعي العراقي، وكان الشيخ في قرارة نفسه يغلف الكتب الاسلامية الممنوعة وغير المرغوبة عند البعثيين بالجرائد إخفاءً لها، ولم ينتبه إلى كونها تمثل جهة معارضة للسلطة القائمة آنذاك. لذلك بعد أن زادت الضغوط عليه وهو في مكان بعيد في بغداد؛ لذا قرر في نهاية الامر نقل خدماته الى مسقط رأسه في محافظة دهوك، وبالتحديد الى جامع مصيف سواره توكا ( تبعد زهاء 25 كم شمال مركز مدينة دهوك)؛ للتخفيف من وطأة تلك الضغوط، وتمت الاشارة الى ذلك آنفاً.
وبعد الانتقال الى محافظة دهوك، فإن مواقف الشيخ لم تتغير، وإنما زادت صلابةً لأنه رأى بأم عينيه ما يعانيه أبناء قومه وعشيرته من تدمير القرى وتهجير وإسكان أهاليها في مجمعات قسرية، وكان الشيخ قد استقر في إحداها مع أهله وأبناء عمومته وهو مجمع (باكيرات) الواقع على بعد 20 كم شمال مركز مدينة دهوك.
وقد تعرض الشيخ وإخوانه وأبناء عمومته إلى ضغوط كبيرة من قبل منتسبي الاجهزة الحزبية والأمنية لثني مواقفهم في الدعاء للرئيس العراقي، وتلبية رغباتهم في الطلب من سكنة مجمع باكيرات الالتجاق بمعسكرات الجيش الشعبي وألوية المهمات الخاصة، أو الدخول الى منازل المواطنين بدون استئذان بحجة المسح الامني والسكاني، ولكن وقوف الشيخ عبدالحميد وأخيه العالم الرباني المشهور ملا نوري( المتوفى سنة 2008م) أحبطت هذه المخططات.
فعلى سبيل المثال عندما قتل وزير الدفاع العراقي عدنان خيرالله طلفاح في حادث طائرة الهيليكوبتر في 4/5/1989م تفوه الملا نوري أخو الشيخ بكلمات معبرة عن الظلم الواقع على الشعب في جامع باكيرات يفهم منها أنه انتقاص من المقتول، ونقل أحد الوشاة هذه المعلومة الى منظمة حزب البعث في مجمع باكيرات فتم استدعاء ملا نوري على الفور الى الفرقة الحزبية في ناحية مانكيش الواقعة على بعد حوالي 50كم شمال غرب مدينة دهوك للتحقيق معه دون النظر الى مركزه الديني كإمام وخطيب جامع مجمع باكيرات أو سنه، لذلك رافق الشيخ عبد الحميد أخاه الى المكان المطلوب، وبعد تحقيق قصير تمكن الشيخ باسلوبه الراقي وبهيبته من إنقاذ أخيه من براثنهم.
وفي المرة الثانية عندما مات الأمين العام ومؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي (ميشيل عفلق) في 23/6/1989م، وكان مسيحيا دمشقيا وفق مذهب الروم الارثوذكس، تم الاعلان في الاذاعة العراقية رسمياً بأنه قد أسلم!، وتم اجراء مراسيم صلاة الجنازة الاسلامية عليه من قبل أحد أزلام السلطة البعثية آنذاك (وعاظ السلاطين)، وكان أخو الشيخ عبدالحميد الملا نوري قد تفوه لمرة الثانية بكلمات أمام بعض الناس مضمونها بأن عفلق قد مات على نصرانيته ولم يسلم، ونقل بعض عملاء حزب البعث هذه المعلومات الى الاجهزة الحزبية والامنية، فتم استدعاء الملا نوري والشيخ عبد الحميد ونجله الكبير(عبدالمنعم) الطالب في المرحلة الإعدادية بواسطة المنظمة الحزبية في مجمع باكيرات الى الفرقة الحزبية في ناحية مانكيش للتحقيق معه؛ موقف عقيلته (والدة عبدالمنعم) في منع أزلام البعث من الدخول الى منزلهم أثناء عدم تواجد الشيخ في البيت، ولكن هيبة الشيخ ووقاره والمامه الكامل باللغة العربية الفصحى وقدرته على الإقناع، مكنته من التخلص من هذه المكيدة، وتم الاعتذار له من قبل أمين سر الفرقة الحزبية.
وعندما جرت عمليات ما يسمى بالأنفال في كردستان العراق، وكان آخرها أنفال منطقة بهدينان في محافظة دهوك في 25/8/1988 واستمرت الى 6/9/1988 وكان يطلق عليها الأنفال الثامنة وهي خاتمتها، حيث تم سوق الآلآف الى حتفهم في صحاري جنوب العراق ظلماً وزورا وبدون وجه حق، مثلهم في ذلك كمثل أصحاب الاخدود، { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)}، سورة البروج.
وبخصوص منطقة بهدينان فقد تم نقل الآآلآف من الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال إلى منطقة بحركي الواقعة شمال غرب مدينة أربيل، حيث وضع آلاف من الناس من النساء والاطفال والشيوخ في منطقة سهلية مملوءة بالاشواك والاحجار لا تتوفر فيها وسائل العيش (صحراء قاحلة) من ظلٍ يقيهم حرالشمس اللاهبة، فضلاً عن عدم توفر المياه والخيم وما الى ذلك؛ حيث تم وضعهم في معسكرات مسيجة بالاسلاك الشائكة حتى ينتظروا مصيرهم المعروف دون أي وازع أو ضمير؛ ولكن وقوف أهالي أربيل الاوفياء بكل شهامة وكرامة من خلال دعمهم اللامحدود لكل متطلبات الحياة التي لا تخطر على البال؛ فتم انقاذ حياة هؤلاء البؤساء، مع ما رافق ذلك من تفشي الاوبئة والامراض المعدية السارية التي قضت على حياة المئات من الاطفال والرضع وحتى الشيوخ، لذلك هب علماء الدين الاسلامي في منطقة دهوك ومن ضمنهم: الشيخ عبدالحميد واخوانه الملا محمد شريف محمد طاهر البانصوري الدوسكي امام وخطيب جامع صدام حسين (= آزادي حالياً) والملا رشيد سكيري امام وخطيب الحامع الكبير في العمادية، والملا مصطفى حسن الريكاني خطيب جامع الامام حمزة، والملا علي نبي كرمافي الدوسكي امام وخطيب جامع كريباصي، والملا زاهد عابد الكوهرزي امام وخطيب جامع الشهداء مع زملائهم الآخرين من العلماء وغيرهم من الشخصيات بمختلف طبقات المجتمع لنصرة هؤلاء المظلومين من بني دينهم وقومهم، والطلب من الناس بمساعدتهم بكل ما يتوفر لديهم من متطلبات الحياة المختلفة من غذاء وماء ودواء وخيم وغيرها من وسائل السكن حتى يمكن انقاذ ما يمكن انقاذه من الأرواح قبل كل شىء.
ومن جهة أخرى فقد زار الشيخ برفقة الملا محمد شريف الدوسكي والملا رشيد السكيري مكتب تنظيم الشمال العائد لحزب البعث في كركوك للطلب من مسؤوله (حسن العامري) بجمع شمل العوائل للتي تفرق أفرادها ما بين معسكر بحركى ومعسكرات الاعتقال الاخرى في قلعة مفرق دهوك والقلاع الاخرى الواقعة في مدن وقصبات منطقة بهدينان، ويبدو أن النجاح كان مصير خطوة علماء الدين الاسلامي المذكورين، رغم ما رافق هذا الاقتراح أو الالتماس من خطورة على حياتهم بسبب اتهامهم بدعم الاتجاهات المعارضة للسلطة آنذاك في إشارة الى ثوار ومؤازري الحركة الكردية.
و من مواقف الشيخ الجديرة بالذكر عدم رغبته في الانتماء إلى الأحزاب، ولا سيما حزب البعث، وكان يتعاون ويتعامل مع جميع الأحزاب في سبيل المصلحة العامة. وانتمى الشيخ لمدة سنتين إلى الحركة الإسلامية في كردستان في نهاية سنة 1991م، وكان هذا الانتماء عائدا ً إلى العلاقة القوية بينه وبين بعض العلماء من قادة الحركة أمثال: الشيخ عثمان بن عبدالعزيز مرشد الحركة، وشقيقه علي بن عبدالعزيز نائب المرشد، ودفعت هذه العلاقات قيادة الحركة لترشيحه لمجلس شورى قيادة الحركة رغم عدم تواجده في كردستان آنذاك( بسبب إنشغاله في رحلة الحج)، وعمل مع الحركة الإسلامية إلى أن حدثت بعض المشاكل بين الحركة الاسلامية والاتحاد الوطني الكردستاني تطور الى قتال بين الجانبين في 3/12/1993م؛ ولكن هذا القتال المؤسف بين أبناء الشعب الواحد، كان له تأثير سلبي في وجدان الشيخ الذي كان لا يتصور حدوث هذا الامر الجلل، وسقوط العشرات من الضحايا بين الجانبين وحدوث تجاوزات خطيرة على حرمات بعض الضحايا.
وأجبرت هذه الأحداث المؤسفة في منطقة بيتواتة التابعة لمحافظة السليمانية مقر قيادة الحركة الإسلامية، ولكي لا تنتقل هذه الاحداث الى منطقة دهوك ذات الصبغة المحافظة، ابتعد الشيخ عن العمل التنظيمي، وركَّز أكثر على العمل العلمي والدعوي من خلال التدريس في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية التي تأسست في هذه الحقبة عام 1992م، فضلاً عن خطب الجمعة والمحاضرات والمواعظ المختلفة بعد الصلوات، وكان لهذه الاحداث المؤسفة التي لم يكن لها أي مبرر معقول يستحق كل هذه التضحيات تأثير على موقف الشيخ، لا سيما وأن الكُرد قد خرجوا للتو من مآسي حليجة والانفال وغيرها؛ كل هذه التداعيات والنتائج أوصلت الشيخ عبدالحميد الى قناعة أن الموقف الامثل هو استقلال عالم الدين مما يجعله مقبولا من قبل الجميع، وأكثر تأثيرا ًعلى الآخرين.