22 ديسمبر، 2024 2:46 م

الشعوب.. ونزق الحروب !!!

الشعوب.. ونزق الحروب !!!

“الحروب دوما… أقوى من الناس… لدرجة إن.. الآلاف والآلاف من العائدين ندموا.. لعدم موتهم مع الذين ماتوا.. فيها !!!”
للحروب تأثير كبير على حال وحياة وتطور الحياة، والعالم وما زال متأثرا بالحروب الماضية والتي لا يمحى ما في قلوب وعقول معاصريها والعارفين والدارسين عنها في بيان أوضاع الوجع والبؤس، والحياة والموت، وتنوع الأعداء والحلفاء، وانهيار وتشكيل دول جديدة يرافقها عودة عددا كبيرا من الجنود القتلى والجرحى والضباط والمدنيين والعديد من مبتوري الأرجل ومقطوعي الأيدي وفاقدي النظر والسمع والمنطق والعقل، وقوائم طويلة وعديدة من الإمراض البدنية والنفسية والروحية، وهي بكل ذلك تركت لأجيال المستقبل مذبحة ذاتية التدمير. وكان التأثير الأكثر إيلاما على الأشخاص الذين شاركوا في المعارك مباشرة فلفترة طويلة كانوا جالسين في الخنادق تحت نيران العدو المتواصلة وبتلك المعارك التي تفرط الارواح في الهجمات القاتلة والمضادة فقدت الشعوب جيلا كاملا من شبابها، ولم يتمكن الأشخاص الذين عادوا من الحروب على التكيف مع حياة سلمية عادية جديدة فالمسألة لم تنحصر بالخوف الوحيد من حقيقة أنهم كانوا قادرين على العيش بحسب معرفتهم وخبرتهم الجبهات العسكرية، وإنما أيضا بسببية الاضطرابات الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية، وكانت قد اودت تلك الحروب بحياة اعداد تفوق الخيال وحطمت دول وحكومات في معظم قارات العالم وحذفت وغيرت برسم جذري معالم الخارطة السياسية وأحضرت وجربت الأسلحة العالمية الجديدة، واستولت على مصير الكثير من الشباب، وبعد أنتهاء معاركها كانت دوما تعيد افراز “الجيل الضائع” المشلول والمرهق، وخلالها يشهد العالم معارك دموية ووحشية يقتل فيها مئات الآلاف والملايين من الجنود والضباط والمدنيين، لدرجة أن كل شخص يعد نفسه “جوهر الحرب الانتحارية”، وبعد انتهاء كل حرب يتوقع العديد من السياسيين والصحفيين إن السلام سيكون هو الوضع الدائم على كوكب الأرض إلى الأبد، وكان ذلك هو، “الوهم الاكبر”!!
لكن ما الذي يحدث حقا للناس الذين عانوا ويعانوا كل المصاعب والعذاب في الحروب؟ كيف غيّر ويغير الاطفال الذين شهدوا تلك الحروب، فكرتهم عن الحياة والموت؟ وماذا واجه الجنود في الجبهات؟ وكيف أثرت على نفسياتهم وافكارهم وما تأثير ذلك على تشكيل رؤيتهم لما بعدها؟ وكيف كان قد تم تشخيص العالم بأسره بـمسمى “الجيل الضائع”، أو انه أجيال “الشباب المرير”، لأنه دوما ما يتم إرسال الشباب والفتيات في سن الـ18 مباشرة من مقاعد المدرسة إلى جبهات الحروب من دون معرفة ما كان ينتظرهم هناك، ففي البداية يبدو أن الحروب لن تستمر طويلا وهم سينتصرون ويفوزا بزهوة المجد ليتم التطوع والقبول في الوحدات العسكرية وإرسالهم إلى المعارك كمغامرة قصيرة ومذهلة، ولم يكن ولن يكن أحد يعرف أنهم بذلك يشتركوا في المعارك الأكثر دموية ووحشية وليتعرضوا بها لتجربة المعاناة الرهيبة، والان يدرك الكثيرين أن كل شيء يتم تدريسه في المدرسة عن قصص المعارك الكبرى وعن بطولات الأبطال الشجعان والتضحية في سبيل الشرف الوطني المرتبط بالحاكم، كان كذباَ ولا ينعكس ذلك على أرض الواقع!! ومفهوم الحرب والبطولة والتبارز في أكثر الألوان الزاهية ما هو الا خرافات العصور الوسطى!! وكلها اكاذيب فالحروب تسلب من الناس الإحساس بالجمال وتجبرهم على دفع الاهتمام فقط بما هو ضروري من أجل البقاء على قيد الحياة، وفي الروايات المكرسة للحروب مطلقا لا يتم إيلاء اهتمام خاص لكيفية تعبير الجنود البسطاء بأنفسهم، وإن البحث عن إجابة لهذا السؤال قد كان مصحوبا بسوء فهم فكيف أن شعبًا واحدًا يعاني من معاناة لا تُصدق من الألم والخوف ومن فقدان الأصدقاء والأقارب فتدفعه دولة أخرى على ذات الطريق!! ولذلك ينظر بوضوح حين تنشأ الحروب مرارًا وتكرارًا على أنه لا يمكن للمرء أن يختبر تمامًا كيف يعاني الآخر إن لم يمر بذات المعاناة !!
لم يكن أحد يفهم حتى ما كانت عليه الحروب، وفي المعارك كان الجنود قبل كل شيء يفكرون كيف لا يموتون؟ وكيف يساعدون رفاقهم على تجنب ذلك المصير؟ والخطاب لم يكن في تلك الحروب يدور حول الفتوحات المجيدة بل عن كيفية البقاء على قيد الحياة لمدة اطول، وان الخوف من الحروب لم يترك الجنود بعد عودتهم إلى ديارهم فأولئك الذين تمكنوا من البقاء وهم يتألمون من جروحهم لم يكن يمكنهم نسيان المشاعر التي كان عليهم تحملها والكثير منهم حتى بعد الحرب لم يشعروا أنهم على قيد الحياة، وأدركوا تمام الإدراك أنه حتى الحياة السلمية كان من الصعب عليهم التكيف معها، وتعكس الأغاني التي يرددوها في الحروب وبعدها عن اليأس والاستياء من مصيرهم. وفي الحروب لم يعاني الرجال لوحدهم فقد تعاني النساء أكثر منهم حين يفقدن الأزواج والإخوة والآباء والأبناء ويساهمن بقوة في العمل بكل شيء ويعرضن حياتهن وصحتهن للخطر. وعلى كل حال فأن الحروب كانت قد اوجعت وحطمت الجميع من كان منهزما أو كان منتصرا، فقد وقع عبء ثقيل على كاهل الرجال والنساء وكان معظمهم من لم يستطع التكيف مع العودة للحياة وبقي الكثيرين منهم مشوهين ومنهم من اختار الانتحار أو فقد عقله تماما واصيب بالجنون النفسي أو الفكري، وأيضا كانت هناك حالات صادمة للعائدين من الحرب جراء إصابتهم بنوبات هستيرية من مجرد مشاهدة زي عسكري!! فالحروب دوما ما تكون أقوى من الناس لدرجة إن “الآلاف والآلاف من العائدين ندموا على أنهم لم يموتوا مع الذين ماتوا فيها” !!!