18 ديسمبر، 2024 10:14 م

الشاعر : مجيد الموسوي .. رثاء الذات عبرَ الآخر(2 -2 )

الشاعر : مجيد الموسوي .. رثاء الذات عبرَ الآخر(2 -2 )

(مجيد الموسوي) الشاعر متخم بالأسئلة ، أسئلة غارقة في الوجدان، وهو المفتون بكل شيء يعيشه ويراه، ومنه مدينته، وعبر بعض قصائده يتفرس في بقايا الأمكنة المحلية وخصوصيتها التي كلما ننأى عنها، نعود لاستعادتها، بوسائل وطرائق وصيغ شتى، ونسقط على الكثير من بعض مظاهر الحياة المادية فيها، حاجتنا المتواصلة للإحساس بالحماية والأمن اللذين يمكن، في لحظة ما،أن يتوفرا لنا. ولا يفتر الموسوي عن ترديد(بَصّرته)، كأنما خلق لها، وغمس في تيارها واستنشقها:
” البصرة/ عين الأرض الأولى: الاهوار/ البردي/ القصب/ الصفصاف/ طيور الماء/ السمك البنيّ/النخل/ الطين الحريّ/ النبق/ العشبُ/ الشجرُ/ العشار”.
“البصرةُ
لمعٌ في ذاكرة البرقِ
وسيدة لا تنسى حين تغادر:
تترك بعض أنوثتها
النفنوفَ المبتلّ الخفينِ
ودغدغةَ الآه!.
البصرة
آخر ما نملك في الأرض
وأول
ما يرفعه الله”.
انه ذلك الوجد المتسرب لروح الشاعر ،التي لا تعرف استقراراً ولا تهدأ عن الهيمان. الموسوي يغريه الخوف من حيرة الجواب عن السؤال، فيواجهه بسؤال آخر، وهذا ما يميز شعره في “مخاطبات العشب”، و”يقظة متأخرة” ، وكذلك مجموعته “دموع الأرض”. ثمة ضجيج الأسئلة المتواصل إذ تتكرر مفردة” لماذا” كثيراً وهو سؤال ينبع من المجهول الذي نلمسه في الوجود عامة وفي الحياة الخاصة:
” لماذا تركتِ يدي ومضيتِ
لماذا تركتِ قميصي المدّمى ببيتي
لماذا، وقد بح صوتكِ من وحشةٍ ،
بحّ صوتي
لماذا وقد قمت
من جدثي عارياً
بعد أن صلبوني عانقتني
وبكيتِ !”.
*
الأستاذ (محمد خضير) ذهب عبر كلمة له نشرت في خاتمة مجموعة (الموسوي )الشعرية “لتأخذني أقدامي هناك” : إلى أن البنية القصيرة لقصائد المجموعة ساعدت على إحداث آثار من نوع الآثار السردية في القصائد ،فالنواة السردية- المصورة في هيأة اثر شرقي، كالقباب والأوثان والسفن أو المشبعة برؤى شخصيات استثنائية كابن سيرين وابن زريق – تسبح في وسط رنيني، استرجاعي يملأ المساحة بين حاضر ثقيل العوام وماضٍ شفيف الكثافة – ص 168 . ويرى الأستاذ (خضير) لابد من تشذيب رحلة السرد الشعرية البعيدة المدى من شوائب السرد النثري القصصي وتهاويل المفردات المعيبة للانسياب الشعري ودقة الوصف الشاعري، فقد يقع الشاعر في غفلة استعمال المفردة اللغوية كما يقع البحار في مصائد البحر. كما وذهب الناقد (مقداد مسعود) في قراءته المعنونة “نزهة في حدائق الشاعر مجيد الموسوي” إلى أن “المخاطبات” فيها هي مخاطبات “الموسوي” لا “النفري” والعشب عشبه لا عشب الشاعر “والت ويتمان” ، في إشارة إلى ديوان الموسوي “مخاطبات العشب”، وهذا لا يعني انه يتقاطع مع المخاطبات الأصل، المقصود ، مخاطبات (النفري) ، فهو قد توقف طويلاً عندها وتحرى فيها ليصل بعدها إلى مخاطباته “هو” لا مخاطبات “سواه ” ، والموسوي وبحسب الناقد (مسعود) استروح طويلاً عشب (ويتمان)، في إشارة إلى ديوان “والت ويتمان” المعروف بـ”أوراق العشب” ، ويؤكد (مسعود)، على إنه يستريح قربه ويسقي أعشابه (هو) لا أعشاب (ويتمان) . نلاحظ في مجموعة”مراثي الأزهار البرية” ان (الموسوي) حاول الإغفاءة قليلاً، لم يحلم بـ”كلكامش” بل تراءت أمامه أزمات وكوابيس (انكيدو) ، لتزيده الأسئلة إرهاقاً.. الأسئلة التي لا يزال باحثو الوعي الإنساني يحفرون في طبقاته الشقية ، وهو لا يجد من شفاء لروحه إلا بالتوجه نحو العالم الأرضي :
” وأخيراً
توجهت للبحر
تجاوزت كل الصخور الأنيقة
والكتب المستريبة
والنوم
غادرت مملكة الارتخاء
وراء الزجاج الملون
غادرت منزلنا
وتوجهت للبحر.
……………..
……………..
-:اشعر إن الموت ينقر بابي”.
انه يتوقع المباغتة دائماً، والموت مهيمنة متكررة في شعره ، الموت ليس كمحاولة لإلغاء الذات، بل الخوف على الذات من الانقراض الأشد قسوة ، والتصدي الذي يعمد إليه هو استعارات الغائبين ، والأمكنة النائية ، وعبرها يعقد علاقة تضاد بين رقة المتخيل والواقع الفظ والذي لم يتصالح معه نهائياً. وفي استعاداته للغائبين في ديوانه (دموع الأرض) ما يمكن أن يمنحه الشاعر من اهتمام وحنو تجاه الكثير من أصدقائه ومعارفه والأمكنة . ثمة بريق خاص في ما نفتقده من كائنات إنسانية كانت تشاركنا حياتنا، بكل ما فيها من بهجة نادرة ، وذكريات لا يمكن نسيانها، لكن (ذئب) الموت انقض عليها، لذا يكتب عن: حديقة الأب ، وقبر الجدة ، وعبد الخالق محمود ، و مهدي جبر، وعبد المنعم البارودي، و محمد طالب محمد ، و رشدي العامل ، و مصطفى عبد الله ، و جبار صبري العطية ، ومحمود البريكان ، ويعرب السعيدي ، ومحمود عبد الوهاب، ، وسلام الناصر، وحسين عبد اللطيف ، وموسى كريدي، وشقيقه حسون الذي غيبته الحروب ، وصديق طفولته احمد الذي أجهزت عليه الأمراض ، في سنوات الحصار، وأمه ، ووالده، وخاله ، وجده ، و ليلى العطار، وذلك الشاعر المجهول ، ونازك الملائكة ، و” الأمير السومري المتسول- الشاعر كزار حنتوش”:
سأتنحى قليلاً
عن خطوتهِ الندية، المرتجفة
كي يمرَّ إلى مثواه
فلا يليق بالشاعر
غير
تاج الأبدية.
و”مهدي محمد علي” ، صديق الصِبا والشباب ، بعد ارتحاله عن البصرة والعراق مجبراً ،برفقة عبد الكريم كاصد ،منتصف عام 1978 ، وتنقله المتواصل بين البلدان المتعددة ، وبعد وفاته في المنفى ، يوجه له قصيدته (موت المغني) :
باردةٌ
وموحشةٌ
تلك الغرفةُ النائية
التي كانت عامرة
بالدفء والطبول
أيتها المزاميرُ
كفي عن الغناء
فقد انتهى الحفل!.
*
وقد آن لي
أن أقول
وداعاً، إذن
يا أميري الجميل..!
أهذا، إذن ، آخرُ المنتأى،
آخرُ الأرض،
آخرُ
هذا
الطواف
. الطويلْ ؟
أهذا ،إذن، آخر الحلم:
شاهدةٌ نصفُ مائلةٍ
وترابٌ نديٌ
تسفسفهُ
الريحُ
تـأتي وتمضي..
وتأتي وتمضي..
وكفاكَ مسبلتانِ
وعيناكَ مطبقتان
ليلٌ يطوق قبركَ
ليلُ ثقيل..؟
أهذا إذن آخر العمرِ؟.
يا للزمانِ البخيلْ..!.
مراثي ” الموسوي” للراحلين ومخاطباته للآخر ، و للأشياء الزائلة التي مسكها شعرياً ، هي توجه ،لاشك فيه ، لإملاء النقص الحاصل في الوجود اليومي ، ومحاولة للقبض على تلك اللحظات التي تتبدد ، ومعها تتسرب الحياة .
* ولد “مجيد الموسوي” شتاء 1945 ، وتخرج في جامعة بغداد – كلية التربية قسم اللغة العربية – 1967 ، وعمل في التدريس، ثم رافق الشاعر (محمود البريكان) ، 10 سنوات وأكثر ، في “معهد إعداد المعلمين بالبصرة”، وغادر عالمنا الراهن ولحظاته الساخنة المريرة صباح27 – 1 – 2018 ، و أصدر المجاميع الشعرية التالية : “مخاطبات العشب” اتحاد الأدباء في العراق – بغداد ، “يقظة متأخرة”، و” كوابيس انكيدو”،و”مراثي الأزهار البرية” دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد ، و ” دموع الأرض” – دار ضفاف 2013 ، و ” نجم آخر هناك ” – 2015 اتحاد أدباء وكتاب البصرة ، و أصدر، بطريقة الاستنساخ، قصائد نثر مطولة ، كرسها لأستاذنا الراحل “محمود عبد الوهاب” ، وأخرى بعنوان “كتابة على ضريح “خص بها الشاعر المغدور “محمود البريكان”، وجمعها بعد ذلك في مجموعة شعرية واحدة تحت عنوان ” لتأخذني أقدامي حيث تشاء” صدرت عام 2017 عن اتحاد أدباء وكتاب البصرة . بعد صدور جريدة “طريق الشعب” عام 1973 ، ساهم الموسوي مع عدد من الأدباء والكتاب والفنانين والصحفيين ، بمسؤولية وتواصل ، عبر اللجان التطوعية – المتعددة التي تبنى تأسيسها المكتب الصحفي لجريدة (طريق الشعب) في البصرة لتفعيل المشهد الاجتماعي – الثقافي – الفني – البصري – العراقي ، ودأب على نشر قصائده في (ثقافية – طريق الشعب) وصحف أخرى. لم يتوقف النشاط الإبداعي للموسوي على كتابة الشعر فقط ، بل نشر بعض القراءات – المتميزة لعدد من المجموعات الشعرية ، في بعض الصحف والمجلات العراقية ، ومنها قراءته ، أواسط 1975، لـ ” التسول في ارتفاع النهار” المجموعة الأولى للشاعر المغدور” محمد طالب محمد”، و نشرها في ثقافية ” طريق الشعب” . وبعد سقوط النظام نشر في صحيفة “المنارة” نصف الأسبوعية ، والتي صدرت في البصرة، عن(مؤسسة الجنوب للطباعة والنشر والإعلان) وتوزع في كل انحاء العراق و بعض دول الخليج العربي ، وكذلك جريدة(الأخبار) الأسبوعية التي كانت تصدر عن شبكة الإعلام العراقية في المنطقة الجنوبية عدداً من القصائد و الموضوعات الثقافية ومنها قراءات جادة لبعض المجاميع الشعرية العراقية – العربية، وله الكثير من القصائد والقراءات في بعض المجاميع الشعرية ، و التي لم يمهله الزمن لضمها إلى مجموعة شعرية ، أو كتاب خاص. عام 2013 أجازت كلية التربية للعلوم الإنسانية، جامعة البصرة، رسالة ماجستير، بعنوان: ” شعر مجيد الموسوي .. دراسة في المضامين والبنى الجمالية ” تقدم بها الطالب هيثم كاظم صالح ، بإشراف د. صدام فهد طاهر .