السيادة أنواع، فمنها ما يتعلق بالسياسة والرئاسة، فعدم تنفيذ أمر ما مثلا يقود الى معاقبة العاصي عقوبة تختلف باختلاف موقع ارتكاب المعصية على هذا الكوكب الأزرق. ومن السيادة ما يتعلق بسلطة أدبية أو علمية فيكون من غير الوارد عصيان مدرسك أو من هو أقدم منك في صنعتك. ومنها ما يحمل بُعدا دينيا، أي الامتثال لتعاليم دين معين، لا تسرق ولا تقتل مثالا، وإنْ كان هذان الأمران يحملان صفة إنسانية ودينية معا.
الطاعة للوالدين نوع من السيادة على الابناء، والأمثلة تطول كلحن يعيد نفسه بلا نهاية، أو كجرم سماوي يعوم في فلك معلوم، لا مجال له للإفلات من فلكه المرسوم إلا بوقوع حدث مشؤوم، ككارثة كونية يقول العلماء باحتمال وقوعها بعد ملايين السنين والحمد لله.
ومن السيادة ما يخضع له المرء بلا أمر مسموع أو قانون موضوع على لوح ممنوع بحرس شديد يأمرك بالخنوع، أو حبيبٌ يهمس لك برغبة على ضوء الشموع، تلك السيادة مطلقةٌ شاملة كلّ خلقٍٍ مشى أو سيمشي على الارض، بل وتلاحقه وإنْ نفذ بسلطان إلى القمر أو المريخ مثلا.
ذلك السيد المطاع هو الألم، معبودٌ آمرٌ ناهٍ ليس له صنم، منبوذٌ مكروهٌ كمريض أصابه جرب أو كسياسي فاسد يشتري الذمم، يقول بلا فم أو قلم، ويُسمِع مَنْ به صَمم، إنْ شاء ذبحك بسيف ليس ينثلم، أو شاء عفا عنك فبالحمد والشكر له ترنّم. وأخبثُ الألم ما لا يصدقه أحدٌ غيرك، فطبيبك مثلا يفكر بأنك تتصنع ألمك طمعا بدواء قوي المفعول يعود نسبه إلى عائلة سيئة الصيت تدعى ببني أفيون، أشهد أنّ لتلك العائلة وأقربائها فضلا كبيرا على كاتب هذه السطور.
كثيرا ما يربطُ الشعراءُ والعشاقُ الليلَ بمناجاة المحبوب، هذا العرف لا قيمة له عندي، فعندما يأتي الليل بستاره الأسود يأمر غدة ملعونة موقعها فوق كليتك عزيزي القارئ تسمى بالغدة الكظرية، هذه الغدة تتوقف عن انتاج هرمون يساعد بني البشر على تحمل الألم، هذا الهرمون الحميد المحمود المكنون يسمى بالكورتيزول. السلام كل السلام عليه وعلى كل مادة ارتبطت به ولو من بعيد، أيستحقُ محرابا أم قصيدة مدح عصماء على عادة العرب؟ لو عرفتَ فوائده لصنعتَ له يا صديقي أكثر من ذلك.
عندما يرخي الليل سدوله، اسمعُ من كان سيدا للملائكة قبل خلق آدم يهمس بخبث كلَّ ليلةٍ بحيّ على الألم، حيّ على الألم. ولا سلاح عندي غير صلاة متواصلة، لا سجود فيها أو ركوع، بل حركات لا نسق لها أبحث فيها عن وضعية يقل فيها همس ابليس، ولا ونيس، وكان ما كان مما لست اذكره، فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.
أيها المشتاق لا تنم
هذه أنوار ذي سلم
عن قليل انت بالحرم
عند خير العرب والعجم
أذكرُ أنّ أحدَ المرضى الراقدين بنفس الغرفة التي كنت فيها والتي تتسع لأربعة أسرّة اشتكى للممرضة بأنني كنت أزعجه بصوتي ليلا وقال تحديدا: ذلك المريض لم يكف عن قول (يا الله) طوال الليل، هلا اعطيتموه شيئا لكي ينام؟
ليتهم فعلوا وأنا آسف لإزعاجك عن غير قصد.
وقال مريض آخر كيف تسمحون لإرهابي أنْ يشاركني نفس الغرفة وسط دهشة المرضى الآخرين، نجى ذلك المسكين بفعلته لأنه كبير السن ووصفه معالجوه بأنه مصاب بالخرف أو تحت تأثير علاج قوي غيّب دماغه، وهنا أقول : عندما يكون الإنسان تحت تأثير مخدر أو كان قد شرب الكحول حتى ارتوت ملابسه أو كان يعاني من خرف أرذل العمر، يكون عندها صادقا جدا، فالدماغ لا يستطيع أنْ يخفي أي فكرة تجول في شوارعه الضيقة الملتوية، لذلك اعتُبرت زلات اللسان مفتاحا لما يفكر به الشخص، هل تذكرون الرئيس الأمريكي بوش عندما قال مقولته والتي اعتبرت زلة لسان: سنجعلها حربا صليبية؟ ما علينا.
هل اسكن معسكرا نازيا يعذب فيه اليهود؟ سؤال خطر ببالي، ولكني في مستشفى وليس في معسكر اشوتز سيء الصيت، الكلمات الجميلة التي أسمعها من الكادر الصحي لا تترجم الى دواء يساعدني على تحمل الألم، فاعتبرتُ كلَّ ما قيل لي قبض ريح، والمضحك المبكي أنّ الأطباء في الغرب عموما يصدقون المريض وإن كان كاذبا، بل ويخترعون أسماء أمراض لتناسب مجموعة المتمارضين والأمثلة كثيرة منها الصرع الذي لا يشبه الصرع الذي سببه الدماغ، وبالمناسبة لا وجود لمرض حقيقي كهذا، ومرض الفايبرومايالجيا الذي لا اعرف له اسما بالعربية والذي اصيبت به مغنية مشهورة اسمها ليدي گاگا، وطريقة تشخيص هذا المرض بسيطة، تكون كل التحاليل والفحوصات الطبية طبيعية ولكنك إذا لمست المريض في أي مكان اشتكى من الألم، وكل هؤلاء المتمارضين يتخذون من هذا التشخيص حجة كي لا يعملوا أو لتحصيل معونات مالية، والكلام يطول ولا أرغب أن تتحول فضفضتي الى مقال طبي.
لماذا لم يعاملني الأطباء في المستشفى كتلك المغنية المشهورة؟ أهي مؤامرة أحد أطرافها سائق الإسعاف الذي زجرته في مستشفى الفلوجة عام ٢٠٠٤ لسوء تصرفه مع أحد المرضى؟ أم هي مؤامرة صهيونية ماسونية هدفها النيل من وطن أحمله على صدري قلادة لا تفارقني؟
أحسست بأنّي أذوب في ألمي كغمام بددته خيوطٌ من شعاع الشمس، يذوب شمس الدين التبريزي بمعشوقه وأنا أذوب في ألمي، هل هناك فرق؟ فلربّ عشقٍ سبب ألما.
قرر لفيف من أصدقائي الأطباء الذين زاروني بأنّ أفضل علاج لي هو الخروج من المستشفى، لتدهور حالتي وسوء طريقة علاجي التي يمكن تحسينها خارج المستشفى مع الأحباب، وفعلا نجحت الخطة وخرجت بعد أن أكملت أسبوعين بدت لي كحَولين كاملَين، فاتصلت بطبيب المنطقة التي أسكنها، استمع لقصتي والأهم من ذلك صدقني وهو لا يعرفني، وأغدق عليّ ما لذ وطاب مما حرمني منه أطباء المستشفى الذي أعمل فيه طبيبا. تحول العلاج الى طائر بجناحين من دعاء وصدقة، طار عاليا محلقا غير آبه لفوهة سلاح بيد صياد ماهر، فتحول ذلك السيد المطاع الى عبد يشاكس سيده. وتوقف ابليس عن الهمس بخبث بحيّ على الألم.
أصبحت قادرا على الوقوف وزاد عدد الخطوات التي أخطوها يوما بعد يوم وما زلت بانتظار اللحظة التي أستطيع فيها حمل ذلك الواسع العينين طويل الرموش، ذلك الطفل البشوش، الحق أقول أنّ طريقة مشيه تذكرني بكوكب الشرق لروحها السلام والرحمة عندما غنّت: واثق الخطوة يمشي ملكا، ويصعدُ السلم بسرعة لم أبلغها بعد.
هل يقربك الألم الى الله؟ هل كان ذلك عقابا أم طَهورا من ذنوب نسيتها أو اتناساها؟ يقول أصحاب الصنعة التي انتمي اليها أنّ ما حدث هو مضاعفاتٌ بعد عملية كبيرة، لا اعتراض عندي فذلك احتمال وارد ولكنْ هل يمكن اعتبار حرماني مما يزيل ألمي مضاعفات بعد العملية؟ كلّ شيء وارد، فَقَلّ ما يفاجئني شيء، فمنصب الوزير في العراق معروض للبيع بمبلغ معلوم، وآثارنا تباع وتستفاد من ثمنها معاهد أوربية، ونتنياهو في عُمان، وفرق إسرائيل الرياضية تصول وتجول في دول عربية إسلامية، ووزيرة إسرائيلية تزور مسجدا في دولة عربية، هل لسائق الإسعاف في مستشفى الفلوجة الذي نسيت اسمه ولا أعلم إنْ كان حيا أم ميتا علاقة في كل هذا التطبيع؟
كما اسلفت قبلا أنّ قائمة السيادة للأشياء تطول ولا يمكن حصرها بسطور قليلة، وربّ سيد أصبح عبدا، هل صار الألم عزيز قومه ويجب عليّ أن ارحمه؟
كم أنت شكّاء بكّاء قليل الصبر، فلتصمت، فمصيبتك ربما لم تعادل شعرة إذا قيست بمصيبة غيرك.
حسنا، على صعيد آخر يخلو من الألم ولا يخلو من سيادة، يقال بأنّ موضةَ الأزياء سيدةُ قومها، ففي حديث مع أصدقاء الطفولة اكتشفت بأن الجوارب التي نلبسها أصبحت، حسب شريعة عالم الأزياء، عورة ولا يستحب أنْ يزيد طولها عن طول الحذاء الذي تلبسه. وكذلك عدد الشقوق في بنطالك، فكلما زاد عددها تقربت الى شيخ الطريقة الذي يسكن مكانا لا أعرفه، ولكنني واثق بأنه يضحك على أتباعه وهم لا يعلمون.
هل لجحر الضب علاقة بما يجري؟
أذكر عندما كنت غارقا في ألمي حتى عنقي أرسلت رسالة نصية من هاتفي الى الله، كتبتها بالإنكليزية طالبا منه أن يزيل ألمي فهو القادر على كل شيء، فاستلمت بعدها بثوان إشعارا بأن رسالتي لم تصل. ربما يجب أنْ يُحرمَ المريض من استعمال الهاتف فلربما اتصل بشخص لا يريد مكالمته.
اصمت أيها الغافل. هلّا أصابك جبل من خجل؟ فما أنت الا قطرة في بحر غيرك.
بماذا كان يفكر يوسف عندما اُلقي في البئر؟
هل يمكن اعتبار الحبل الذي القاه السيارة رمزا للصبر على أمر الإله؟ مولانا الرومي قال ذلك ولكني لم افهم قصده.
أيها السيد المطاع سابقا، العبد المشاكس حاليا، هل أدلك على مجموعة من الناس تسكن منطقة في بغداد تسمى بالخضراء وفي رواية اثق بصاحبها تسمى بالغبراء؟ صاحبْهم ولو لساعة ولك السمع والطاعة.
هل تسمعني؟
أجاب بعد حين: لقد تركتُ العجزَ مصاحبا لك، أعلَمُ أنّ همتك كأرنب ولكنّ جسدك يجري جري السلحفاة واقرأ إنْ شئت ” خُلقَ الإنسانُ من عَجَل ساُريكم آياتي فلا تستعجلون”.
ربما رمزت للعجز بالمعلم الكبير، فصرت كلما أردت شيئا أسأل نفسي: هل اُريد هذا الشيء أم أحتاجه؟ وما بين الرغبة والحاجة ما بين العراق وعنق الزجاجة التي يعلم مَن أوتي ذرة من عقل أنْ لا خروج منها.
لقد مُِدَّ الحبلُ فتَمسّكْ به بيديك، واستمعْ لخطاب الحبيب، هو حلو لذيذٌ، كخمرٍ معتقة سكنت برميلا قديما وجده سيدنا آدم ولم يقربه، هل تذكر الشجرة؟ هل للعبة الكريات الزجاجية وشيخ طريقتها مصلحة فيما حصل؟
واسعُ العينين طويل الرموش ينتظر بلا ملل، ضحكاته خيوطٌ تُصنعُ منها أبهى الحلل، يا ريح يوسف ولهفة يعقوب، هل نَفَسُ الرحمنِ يفوحُ منك أم قد جاء من اليَمَنْ؟
واصبر وما صبرك الا بالله.