23 ديسمبر، 2024 5:47 ص

السيد الشهيد محمد باقر الصدر أستاذ المفكرين

السيد الشهيد محمد باقر الصدر أستاذ المفكرين

في سنة ٢٠٠٣ كتبت مقالا عن الشهيد محمد باقر الصدر وأحببت إعادة نشره وهذا هو نص المقال:
(( في هذه السطور أحاول تسليط الضوء على شخصية فذة برزت في سماء الفكر الإنساني إنها شخصية السيد محمد باقر الصدر ,,
هذه الشخصية التي استحقت وبكل جدارة أن تكون رمزا من رموز الإسلام والمذهب والإنسانية على حد سواء…….
إن ولادة الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) سنة 1933 في مدينة الكاظمية كانت ولادة جديدة للفكر الإسلامي,,,,,,.
ولم يعمر طويلاً فقد نال درجة الشهادة و هو لم يكمل العقد الخامس من عمره الشريف “فكان استشهاده سنة “1980 ” ولكن ما قدمه من فكر,,
وما أسسه من مذاهب وأنظمة ومسالك,,,.
وما شيده من صروح الوعي ظل نابضاً بالحياة وسيبقى عطاءه محلقا في سماء الحضارة الإنسانية..
هناك الكثير من العلماء والمفكرين والباحثين ورجال السياسة ممن تشرف بدراسة حياة السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) بمختلف جوانبها اجمعوا بمختلف اتجاهاتهم على أن حياة الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) تحتاج إلى تظافر الجهود من اجل الاستفادة من العطاء الفكري والحضاري الذي تركه للإنسانية..
إن ولادة الشهيد محمد باقر الصدر( قدس سره) كانت في فترة تاريخية عصيبة عاشها الفكر الإسلامي…
كانت فترة حافلة بالتحديات الكبيرة من قبل الحضارة الغربية مما أدى إلى نشوء أزمة حقيقية لدى مفكري الإسلام في كيفية التصدي لها وردها ….
إن التحديات الفكرية قد بلغت ذروتها في القرنين التاسع عشر والعشرين فقد قام فلاسفة ومفكري المذهب التجريبي بمحاولة استغلال الاتجاه الحسي للمعرفة وفقاً لما يتناسب مع فلسفتهم المادية المتطرفة التي أنكرت كل القيم والأخلاق والأفكار والدين بدعوى إن العلم الحديث يبرهن على إنكارها جميعا!!!!
إن عصر النهضة الأوربية بدأ بثورة صناعية طورت بشكل كبير وسائل الإنتاج كالمصانع والمعامل وغيرها مما أدى إلى تنمية اقتصادية قسمت العالم إلى غني و فقير, ولم يكن الاتجاه الحسي للمعرفة هو السبب الوحيد في تلك التنمية الاقتصادية بل أن هناك مجموعة من الأسباب و العوامل اشتركت معه في ذلك منها :
1. الاتجاه المفرط شعبياً واجتماعياً لدى الغربيين والأوربيين نحو التفكير المادي واستخلاص مبادئ وقيم مستمدة من هذا الشعور المادي المفرط مما شكل بيئة صالحة لنمو مذاهبهم الاقتصادية ولهذا السبب كانت مذاهبهم الاقتصادية (( رأسمالية أو اشتراكية )) غير صالحة للمجتمعات الشرقية والإسلامية لانعدام ذلك الشعور المادي المفرط وعدم وجود تلك البيئة التي كانت الحاضنة لنمو مذاهبهم الاقتصادية وهذا ما أشار إليه الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) في مقدمة الطبعة الثانية من كتاب اقتصادنا.
2. العمل بالميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة), فالدول الأوربية والغربية دول استعمارية فهي تستبيح لنفسها نهب ثروات الشعوب الأخرى وقد أدى هذا النهب إلى تراكم رؤوس أموال هذه الدول مما ساهم في التنمية الاقتصادية فتحولت هذه الدول إلى دول رئيسية غنية تشعر بأهمية تجربتها .
إن الاتجاه الحسي للمعرفة والمنهج العلمي شمل جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وقد تبلورت مذاهب اجتماعية واقتصادية وعلوم تربوية ساهمت في صياغة المناهج الدراسية التي تعد من الأمور المهمة والخطيرة التي ترتبط بعلاقة الإنسان مع أخيه الإنسان….
وكل تلك المذاهب والمناهج كانت ترتكز على أسس علمية ومبادئ عقلية وإن حاول الكثير من فلاسفتهم المتطرفين إنكارها!!!!
و من خلال هذا التطور المعرفي على مستوى المذهبين الاجتماعي والاقتصادي جاء التحدي صارخاً وواضحاً للفكر الإسلامي خصوصاً في مطلع القرن العشرين حينما عاش العالم تحت سيطرة القطبين ” الأمريكي الرأسمالي والسوفيتي الاشتراكي ”
مما أدى إلى هبوب رياح فلسفاتهم المتعددة المادية والمثالية والوجودية….الخ حاملة لواء التحدي للفكر الإسلامي الذي كان متأثراً بالظروف العصيبة التي تعيشها الأمة الإسلامية بسبب انحسار الإسلام اجتماعياً و سياسياً وخضوع المجتمعات الإسلامية تحت السيطرة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة…
فكانت من جملة التحديات ادعاء الماركسيين والرأسماليين أن الإسلام ليس له مذهب اقتصادي وكان هذا تحديا للمسلمين جميعا وقد تصدى بعض علماء الإسلام من اجل تحديد واكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي, ولكن لم تسفر محاولاتهم عن شيء سوى الجهود الشريفة المبذولة من قبلهم…
إلا أن الأمر اختلف اختلافا جوهريا عند الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) فقد كشف النقاب عن المذهب الاقتصادي الإسلامي من خلال كتابه الرائع اقتصادنا ولم يتجاوز عمره العقد الثالث!!!!!
وفي نفس الكتاب قام (قدس سره) بمناقشة وتفنيد المذهبين الاقتصاديين (الرأسمالي والاشتراكي) اللذين كانا من أسباب غرور الحضارة الأوربية!!!
أما من الناحية الفلسفية فقد تعرض الفكر الإسلامي إلى تحدي واسع من قبل فلسفات متعددة كان اغلبها فلسفات حديثة تبلورت عن المذهب التجريبي الذي حاول مفكريه أن يفلسفوا الاتجاه الحسي للمعرفة بما يتناسب مع تفسيرهم المادي وأبرز تلك الفلسفات الفلسفة الماركسية ” المادية الديالكتيكية و مفهومها المادي للكون ” وقد تصدى هذا المفكر العظيم لكل تلك الفلسفات الحديثة بما فيها الماركسية من خلال كتابه العظيم فلسفتنا الذي كتبه وهو في الخامس والعشرين من عمره الشريف!!!
إن كتاب فلسفتنا كان تصديا رادعا لتحدي الفلسفة المادية التي تمثل المذهب التجريبي….
وكان السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) في فلسفتنا يمثل المذهب العقلي فهو العالم الوحيد الذي نجح عن طريق المذهب العقلي في رد ومناقشة المذهب التجريبي بصورة عامة والفلسفة المادية الماركسية بصورة خاصة….
ولكنه (قدس سره) لم يكتف بكتاب فلسفتنا الذي ألفه خلال ثمانية أشهر كما هو واضح من مقدمة كتاب فلسفتنا, بل قام بانجاز عظيم وفريد على مستوى الفكر الإنساني حيث تصدى إلى علاج مشكلة مزمنة واجهت الفكر الإنساني بمذهبيه التجريبي والعقلي!!!

ما هي قصة هذه المشكلة؟
وكيف نشأت؟
منذ أن اكتمل الفهم الفلسفي عند الإنسان فكانت الفلسفة الإيجابية دليلا وبرهانا على تطور هذا الفهم, فهي تمثل قمة الهرم للحضارة اليونانية وهذه القمة (أي الفلسفة الايجابية)كانت نتاجا فكريا لفلاسفة عظماء كسقراط وأفلاطون و أرسطو… تمخض عنها تطور المذهب العقلي للمعرفة مما أدى إلى ولادة المنطق الأرسطي الذي هو بنفسه يمثل الفهم العقلي المكتمل لأساليب الاستدلال أي أن العقل البشري قد نضج واكتمل فكان المنطق الأرسطي يمثل قمة هذا النضج العقلي وعلى ضوء هذا الفهم المكتمل التفت فلاسفة المذهب العقلي وعلى رأسهم المعلم الأول (أرسطو) إلى وجود ثغرة في الدليل الاستقرائي وبالتحديد في الأساس المنطقي الذي يستند عليه الدليل الاستقرائي مما يقلل من قيمة الدليل نفسه من الناحية البرهانية (اليقين) ,,,
وقد حاول فلاسفة المذهب العقلي عدة محاولات لعلاج الثغرة واكتشاف الأسس المنطقية للاستقراء ولكنها لم تسفر عن شئ وبقيت هذه المشكلة تشكل تحديا للفكر الإنساني منذ ذلك الزمن ومرورا بالاتجاه الحسي للمعرفة قبل خمسة قرون الذي اتخذ من الحس والتجربة منطلقاً للتوصل إلى أسرار الكون وقوانين الطبيعة وهذا الاتجاه الحسي يعتمد بصورة رئيسية على الدليل الاستقرائي في جميع اكتشافاته العلمية !!!!
وهذا يعني أن المشكلة قد واجهت المذهب التجريبي أيضا بمختلف اتجاهاته الثلاثة اليقينية والسيكولوجية والترجيحية وقد حاول فلاسفة المذهب التجريبي عدة محاولات جادة في علاج المشكلة وسد الثغرة إلا إن محاولاتهم لم يكتب لها النجاح وبقيت المشكلة دون حل وعلاج واستمرت ألفي عام وهي تمثل تحديا عظيما للفكر الإنساني وقد اختلف الحال عند الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) فقد استطاع أن يضع حدا لهذه المشكلة من خلال كتابه العظيم الأسس المنطقية للاستقراء!!!
بعد أن عرفنا قصة هذه المشكلة لابد أن نتعرض إجمالا للمشكلة نفسها استجابة لفضول القارئ الكريم!!!
إن كل دليل أو استدلال يحتاج إلى تقييم قبل الاعتماد على نتائجه…
فعلى سبيل المثال:القياس,,وهو نوع آخر من أنواع الاستدلال,
فالقياس:هو سير الاستدلال من الكليات(القواعد العامة) إلى الجزئيات(التطبيقات)..
وبتعبير أدق هو الاستدلال الذي تكون نتيجته اصغر من المقدمة…
فإن الأساس المنطقي للقياس هو مبدأ عدم التناقض وهو مبدأ عقلي تصديقي بديهي ينص على استحالة اجتماع النقيضين فإذا كانت مقدمة القياس صادقة فإنه يستحيل أن تكون النتيجة كاذبة لأنه يلزم اجتماع النقيضين(الإثبات والنفي) لان النتيجة محتواة في المقدمة أي أن النتيجة جزء من المقدمة وبالتالي فإن صدق المقدمة لازمه صدق النتيجة ,,,,
ومن هنا اكتسب القياس قيمته من خلال معرفة الأساس المنطقي الذي يستند عليه.
أما الاستقراء فهو سير الاستدلال من الجزئيات إلى الكليات, وبتعبير أدق هو الاستدلال الذي تكون نتيجته اكبر من المقدمة…
وهذا يعني إن النتيجة ما دامت اكبر من المقدمة فهي ليست جزءا من المقدمة فلا يكون مبدأ عدم التناقض أساسا منطقيا للاستقراء بمعنى إن صدق المقدمة لا يتناقض مع كذب النتيجة…
فالمشكلة تكمن في تقييم الاستدلال الاستقرائي عن طريق معرفة أسسه المنطقية.
وهذه المشكلة هي التي جعلت فلاسفة المذهب العقلي يعرضون عن الدليل الاستقرائي في إثبات الصانع الحكيم مكتفين بالبراهين الفلسفية في إثبات الصانع الحكيم…
ولكن وبعد أن تمت البرهنة على الأسس المنطقية للدليل الاستقرائي على يد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) فلا داعي للإعراض عن الاستقراء في إثبات الصانع الحكيم ودعم مسألة الإيمان بالله!
وهذا ما طبقه الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) في كتاب المرسل والرسول والرسالة.
إن فلاسفة المذهب التجريبي قد تطرفوا في فكرهم إلى درجة أنهم قد توهموا في ادعائهم بأن الدليل العلمي يتنافى مع الإيمان بالله وهذا الادعاء يتعارض أولا مع علماء الطبيعية وما ذهبوا إليه وصرحوا به من أقوال تثبت الإيمان بالله.
وثانيا إن الشهيد الصدر استطاع أن يبرهن على إن الإيمان بالله والعلم الحديث مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي وبالتالي ليس من الممكن الفصل بينهما…
فإن إنكار الإيمان بالله هو إنكار للعلم!!
إن السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) أسس مذهبا جديدا في نظرية المعرفة اسماه (المذهب الذاتي)..
إن سبب هذه التسمية هو الإشارة إلى مرحلة التوالد الذاتي في الدليل الاستقرائي فان الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) قال إن الفكر البشري أهمل مرحلة التوالد الذاتي الأمر الذي يفسر سبب فشل الفكر الإنساني في علاج مشكلة الاستقراء…
فالمذهب الذاتي هو مذهب ثالث في نظرية المعرفة من خلاله تعرف الفكر الإنساني على الأسس المنطقية للاستقراء…
والمذهب الذاتي استطاع أن يعالج ما عجز عنه المذهبان التجريبي والعقلي ..
وهناك الكثير من الانجازات الفكرية للشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) منها:
1. قام (قدس سره) بتطوير المناهج الدراسية الحوزوية فكان كتاب دروس في علم الأصول بحلقاته الثلاث انجاز منقطع النظير على مستوى المناهج الدراسية في الحوزة العلمية.
2. أسس(قدس سره) مدرسة رئيسية عميقة متكاملة شاملة في علم أصول الفقه.
3. كشف (قدس سره) النقاب عن الدستور الإسلامي من خلال كتابه الإسلام يقود الحياة.
4. ساهم (قدس سره) في رسم المعالم الأساسية للتفسير الموضوعي للقران الكريم عن طريق مجموعة من المحاضرات القيمة التي ألقاها وقد طبعت تحت عنوان المدرسة القرآنية.
5. ألف كتاب قيم في فقه المستحدثات تحت عنوان البنك اللاربوي في الإسلام وهو نظام مصرفي متكامل غير ربوي في ظل الأنظمة المعاصرة غير الإسلامية وكان هذا الكتاب جوابا عن استفتاء طرحه أحد المؤمنين!!!!
6. طرح رسالة عملية بأسلوب واضح ولغة حديثة تبتعد عن المصطلحات المعقدة وكان ذلك في رسالته العملية الفتاوى الواضحة ولم يكن هذا العمل أمرا يسيرا وإنما في غاية الصعوبة.
وهناك الكثير الكثير من الانجازات العلمية والصروح الفكرية التي شيدها الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) تدعونا إلى تحمل المسؤولية بالاهتمام بها نظريا وتطبيقيا…
فإن الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) ضحى بنفسه في سبيل الله ونصرة دين الله ونشر العدل والعدالة فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.))