23 ديسمبر، 2024 12:13 ص

السياب بتمامه : مسيرة حياته وشعره حتى الشمس أجمل

السياب بتمامه : مسيرة حياته وشعره حتى الشمس أجمل

الحلقة الأولى
1 – المقدمة
قالوا إن الحياة كما تهب تسلب، وكما تعطي تأخذ، للعبقرية ثمن، وللخلود ضريبة، ولم تعط الحياة عهداً لأحد أن تكون تحت مشيئته أنى أراد، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا بأي سقم تبتلى، كل يجري في فلك بحسبان، والإنسان في ذمة النسيان، إلا من كان ذا حظ عظيم وما السياب ببعيد في وصيته لإقباله عن ذلك (الوصية مستشفى بيروت نيسان 1962) :

إقبال يا زوجتي الحبيبة
لا تعذليني ما المنايا بيدي
ولست لو نجوت بالمخلد
كوني لغيلان رضى وطيبة
كوني له أباً وًماً وارحمي نحيبة

وللحياة مواقف لاتعد ولا تحصى، فلكل عينة من كائناتها الحية وحتى ما حولها من الكائنات غير الحية ميقات معلوم يمر عليها باستمرارية التغيير على مدى أجزاء أجزاء اللحظات، وما تدري القدر المحتوم، ويدرك شاعرنا أن كل الأقدار كرم وعطاء، ولله الحمد على كل حال في (سفر أيوب لندن 26 -12-1962) يقول :

سفر أيوب لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الألم
لك الحمد أن الرزايا عطاء
وأن المصيبات بعض الكرم

ويستعجل بدر الردى، ويتسابق إليه ليتفادى دفعات الألم، وهجمات السقم يقول في قصيدته (في غابات الظلام 9-7- 1964 ) :

أليس يكفي أيها الإله
إن الفناء غاية الحياة
فتصبغ الحياة بالقتام
سفينة كبيرة تطفو على المياه
هات الردى أريد أن أنام
بين قبور أهلي المبعثرة
وراء ليل المقبرة
رصاصة الرحمة يا إله

هل خلق السياب ليروي لنا مأساة الحياة ؟ وكيف تمر مراحل العيش السقيم ؟ والمرض الأليم إلى الموت الرهيب؟ وليخفف المعاناة عن الآخرين، ويلهمهم الصبر الجميل بشعره الرائع الجميل، هكذا يرى هو على أقل تقدير، إليك أبيات من قصيدته (المعول الحجري) التي نظمها في 14- آب -1964 عقبى زيارة زوجته إقبال وأولاده له في المشفى الأميري في الكويت، وكان قلبه يتقطر ألما لوضعيتهم، وتغمره السعادة لرؤيتهم :

رنين المعول الحجري يزحف نحو أطرافي
سأعجزبعد حين عن كتابة بيت شعر في خيالي جال
لأكتب قبل موتي أو جنوني أو ضمور يدي من الأعياء
حوائج كل نفسي، ذكرياتي، كل أحلامي
وأوهاني
وأسفح نفسي الثكلى على الورق
ليقرأها شقي بعد أعوام وأعوام
ليعلم أ أشقى منه عاش بهذه الدنيا
وآلى رغم وحش الداء والآلام والأرق
ورعم الفقر
أن يحيا

2 – نسبه وعائلته :

قيل عن كلمة (السياب) التي كنيت بها العائلة ، قد جاءت من مدلولها الذي يطلق على البلح أو البسر الأخضر، وهذا ما أميل إليه، أما الرواية التي تزعم أن سياب بن محمد بن بدران المير قد اكتسب هذه التسمية لأنه سيب وحيداً عقبى طاعون 1831 الجارف، فهي أبعد عن التصديق، لأن الناس لا ينزلون نازلة أخرى بالمنكوبين ، والناس كلهم منكوبون، فمن هو السائب يا ترى ؟!!

تزوج شاكر بن عبد الجبار بن مرزوق السياب (1) ابنة عمه كريمة بنت سياب بن مرزوق السياب، وهي أمية، فولدت له ابنه الأوسط (بدر) في 25-كانون الأول – 1926 على أغلب الظن، والولادة تمت في قرية (جيكور)، ولـ (بدر) أخوان هما (عبد الله) و (مصطفى)، وكان الأب فخوراً بأبنائه والأبناء يلعبون مع بعضهم و برفقة أصحابهم في طفولة هانئة وسعيدة .

3 – جيكور الخالدة :
جيكور (2 ) كلمة فارسية تعني (بيت العميان)، تقع ضمن منطقة (بكيع)التابعة لقضاء أبي الخصيب(3) في محافظة البصرة، وهي تبعد عنه كيلومترين، والقرية تقع على جدول (أبو فلوس)، قريباً من شط العرب، وأمامها جزيرة تسمى (الطويلة)، طالما قضى فيها شاعرنا الأوقات الممتعة ، ولا يخفى عليك أن غابات النخيل الرائعة كانت تغطي كل تلك الربوع الفاتنة التي تتخللها الجداول، وترتادها الطيور المتوطنة والمهاجرة، نعيب الغربان، وطيور السنونو، وصداح الكنارى، وصفير البلابل، ووجه البوم، وبيادر الخير، وتصاعد الدخان، ولعب الصبيان، ومن هذه الطبيعة الخلابة استوحى السياب أروع صورة شعرية في (إنشودته المطرية) :

عيناك غابتا نخيل ساعة السحرْ ** أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ ** وترقص الأضواء كالأقمارفي نهرْ
يرجه المجذاف وهناً ساعة السحرْ** كأنما تنبض في غوريهما النجومْ

أصبحت جيكور عملاقة كابنها العملاق، وخالدة خلوده، صارت في حالة، لم نألفها مع مساقط رؤوس غيره من العباقرة، إذ يجعل جيكور بقامة بغداد وأكثر، وبويب يطاول النيل وأطول :

ألم تراه ماذا يقول في ليلة لندن؟
غريباً كنت حتى حين أحلم لست في جيكور
ولا بغداد أمشي في صحارى قلبي المسعور
يريد الماء، فيها ماء، أين الماء وهي تريه أفواها
على آفاقها الربداء ظمأى تشرب الديجور

4 – بين معرة أبي العلاء وجيكور السياب :

أبو العلاء حينما غادر مدينته، وبالأحرى قريته حينذاك، معرة النعمان، متوجها إلى بغداد سنة 398هج، وأطل على أشراف بغداد ، قال بيته الشهير:

وردنا ماء دجلة خير ماء**** وزرنا أشرف الشجر النخيلا

ثم ذكر قريته المعرة وحن إليها قائلاً :

يا ماء دجلة ما أراك تلذ لي **** شوقاً كماء معرة النعمان

ويقول مرة ثانية :

فيا برق ليس الكرخ داري وإنما *** رماني إليها الدهر منذ ليالِ
فهل فيك من ماء المعرة قطرة **** * تغيث بها ظمآن ليس ببال

ولوأن المعري خلّد معرته باكتساء كنيتها، ولكن المعري نفسه عندما أراد مغادرة بغداد بعد وفاة أمه 400هـ، تحسر على لوعة الفراق، مفضلاً بغداد وأهلها على الشام وأهله، ولو أنهم قومه وبينهم ربعه :

أودعكم يا أهل بغداد والحشا ***على زفرات ما يبين من اللذع
وداع ضنا لم يستقل وإنما*****تحامل من بعد العثار على طلع
فبئس البديل الشام منكم وأهله***على انهم قومي وبينهم ربعي
ألا زودوني شربة ولو أنني **** قدرت إذاً أفنيت دجلة بالكرع

السياب ما فعل هذا…!!
بل زاد…..وزاد في ذكر جيكور (4) وبويب حتى ظنهما الدنيا كلها، فهو غريب حتى على الخليج، والخليج على مرمى حجر منه..!!
ونحن إذ نطيل المكوث في فترة بيئة طفولته المبكرة، لأننا ندرك أهميتها القصوى لنتاجه الشعري و الفكري، فقد مدته بإخصب الأفكار، وأروع الصور، وأجمل العبارات، فبادلها العطاء بالوفاء، والجزاء بالثناء، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فمن قصيدته أفياء جيكور يقول :

لولاك يا وطني
لولاك يا جنتي الخضراء ياداري
لم تلق أوتاري
ريحاً، فتنقل آهاتي وأشعاري
لولاك ما كان وجه الله يا قدري
أفياء جيكور نبع سال في بالي
أبّل منها صدى روحي

جيكور رفيقة مسيرته، ورمز وطنيته، ومنبع طفولته، وعنوان محبته، ومركز حنينه، ومجال عشقه لوفيقته ومن بعد هالته، ففي قصيدة ليلة باريس، يناجي الذكريات والحنين قائلاً :

تأتين أنت إلى العراق
أمد من قلبي طريقه
عشتار فانفجر الربيع لها وبرعمت الغصون
توت ودفلى والنخيل بطلعه عبق الهواء
أعتل بالبرد، ارتجفت، فلفني برد الهواء
وهو الأصيل، وأنت في جيكور تجتذب الرياح
منك العباءة، فاخلعيها
ليس يدثر الضياء
يتماوج البلم النخيل بنا فتنتثر النجوم
من رفة المجذاف كالأسماك تغطس أو تعوم
ويحار بين الضفتين بنا كأنا منه في أبد الزمان.

5 – بويب الكبير :

وغير بعيد عن جيكور يقع بستان عمة أمه الجميل على ضفاف شط العرب، ويجب على بدر وأخويه أن يخترقوا نهر بويب الصغير للوصول إليه، بعد أن يسيروا تحت أشجار النخيل والمشمش والخوخ وصوبات العنب، ويتمتعوا بالأجواء الطبيعية المذهلة، وطالما بدر كان يرمي أوراق النباتات في الجدول البويبي كأنما يريدها أن تنتعش أو يعيد إليها حياتها النضرة، اقرأ وتأمل :

بويب
بويب
أجراس برج ضاع في قرارة البحر
الماء في الجرار، والغروب في الشجر
وتنضح الجرار أجراساً من المطر
بلورها يذوب في أنين
بويب يا بويب
فيدلهم في دمي الحنين
إليك يا بويب
يا نهري الحزين كالمطر

ويرتبط شعر الحنين عند السياب باضطراب الرؤية، وازدواجية المفردة، بين ماض يمثل الحياة وأبوابها وحنانها وزهوها ولعبها، ومستقبل قاتم أليم تتسرب منه رائحة الموت والدمار والعذاب، ..وهو حائر في موقفه يترقب الأمل والخير المفقود، ولا ريب ان الماضي ليس عنده عقدة نقص يسكبها ليستريح، بل متعة أنس يتذكرها ليستزيد، وإليك من القصيدة المزيد :

أغابة من الدموع انت أم نهر
والسمك الساهر هل ينام في السحر
وهذه النجوم هل تظل في انتظار
تطعم بالحرير آلافا من الأبر
وأنت يا بويب
أود لو عرفت فيك ألقط المحار
أشيد منه دار
يضيءفيها خضرة المياه و الشجر
ما تنضح النجوم والقمر
وأغتدي فيك مع الجزر إلى البحر
فالموت عالم غريب يفتن الصغار
وبابه الخفي كان فيك يا بويب

أرايت يا صاحبي كيف تمتزج المفردات، وكيف ينتقل من بوابة الحياة إلى بوابة الموت، ومن الضياء إلى القتام، سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال، ثم سيمزج الهم الذاتي بالهم الإنساني، ويجعل من نفسه جسراً يعبر عليه الجميع، يعوزه أن يبدل (مع)بـ (عن) في المقطع :

ليصبح المسيح… هاك
أود لو غرقت في دمي إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر
وأبعث الحياة، إن موتي انتصار

رحم الله السياب اذ جعل من جيكور مدينته الفاضلة، ومن بويبه النهر الخالد، ومن ابنة الجلبي وشناشيلها حورية الجنان وأشرافاتها، وخيال الشاعر الملهم يتسع إلى الشناشيل .

6 – وشناشيل ابنة الجلبي :

وبجوار بستان العمة المذكورة سالفاً يوجد قصر منيف ببهائه وسعة ساحاته، وغناء حدائقه، وأطلالة شرفاته، وما شرفاته إلا الشناشيل المحاطة بالخشب المزخرف و الزجاج الملون، وكان هنالك قصر فخم آخر – ربما هو الذي عناه السياب في شعره – يقع قرب مدرسته الابتدائية (المحمودية) التي قضى فيها الصفين الخامس والسادس، والتي شيدها محمود جلبي العبد الواحد في قضاء أبي الخصيب سنة 1910، وهو أحد أعيان المدينة، -الجلبي لقب للأعيان الأثرياء – وهذا القصر قصره بشناشيله وناطوره أحمد، والبنت المدللة المحظوظة المخاطبة هي ابنته التي حملت اسماً لمجموعة متميزة من شعر شاعرنا، وسمها (شناشيل ابنة الجلبي)، وهي من إحدى قصائده، ونقتطع الأبيات التالية :

وأذكر من شتاء القرية النضاح فيه النور
من خلل السحاب كأنه النغم
وكنا جدنا الهدار يضحك أو يغني في ظلال الجوسق
القصب
وفلاحيه ينتظرون غيثك يا إله وأخوتي في غابة اللعب
يصيدون الأرانب والفراش وأحمد الناطور
نحدق في ظلال الجوسق السمراء في النهر
ونرفع للسحاب عيوننا سيسيل بالقطر
ارعدت السماء فرن قاع النهر وارتعشت ذرى السعف
واشعلهن ومض البرق أزرق ثم أخضر ثم تنطفىء
شناشيل ابنة الجلبي نور حوله الزهر
عقود ندى من اللبلاب تسطع منه بيضاءا
وآسية الجميلة كحل الأحداق منها الوجد والسهر
يا مطراً يا حلبي
عبر بنات الجلبي
يا مطراً يا شاشا
عبر بنات الباشا
شناشيل الجميلة لا تصيب العين إلا حمرة الشفق
ثلاثون انقضت وكبرت كم حب وكم وجد
توهج في فؤادي
فابصرت ابنة الجلبي مقبلة إلى وعدي
ولم أرها هواء كل أشواقي أباطيل
ونبت دونما ثمر ولا ورد

7 – منزل الأقنان….بين الجحيم والجنان :

كان بدر وأخواه وبعض أصحابهم يحبذون اللعب في بيت مهجور قديم واسع على القرب من منزلهم يسمى (كوت المراجيح) الذي يطلق عليه شاعرنا من بعد (منزل الأقنان) ليوسم به قصيدة له، بل ويتصدر أحد دواوينه، وتخيله مدينة أطلال سادها الخراب سوى أن أبوابها تبث فيها الحياة، و ستتآكل رويدا رويدا حتى يسودها الممات، وما مادتها إلا الفراغ و الريح، يسودها نواح البوم، وتخترقها الأصوات الغامضة، وما ألواح سلمها المتهاوي إلا كالواح سفينة عائمة بلا ملاحين بين لجج الموج ..ويطل عليك بباحة عصافيرها، وديدان مناقيرها، وانياب جوعها القاتل، ..الذي لا تتخلص الإنسانية منه إلا بالمطر المطرالرمز هذا الذي طالما حلم به شاعرنا :

مطر..مطر..مطر
وفي العراق جوع إليك منها
خرائب فانزع الأبواب عنها تغد أطلالا
خوال قد تصك الريح نافذة فتشرعها إلى الصبح
تطل عليك منها عين بوم دائب النوح
وتملآ رحبة الباحة
ذوائب سدرة غبراء تزحمها العصافير
تعد خطى الزمان بسقسقاء والمناقير
كأفواه من الديدان تأكل جثة الصمت

وتملآ عالم الموت
ألا يا منزل الأقنان، سقتك الحيا سحب
تروي قبري الظمآن

8 – من موت امه…حتى موت جدته ..والدنيا دول :

عاش السياب أيام جميلة، وحياة ممتعة في طفولته المبكرة بين أفراد قريته الذين لايتجاوزون خمسمائة نسمة، ويعيشون في دور بسيطة مبنية من طابوق اللبن – الطابوق غير المفخور -، وسقوفها تدعمها جذوع النخيل، وهذا النخيل يؤخذ من غابات شاسعة، تتخللها الجداول الثرية بمائها حين المد، وتحت الظلال يسود الوئام واللعب والجمال، وأجمل ما في الجمال حضن أم، ومسحة رأس، وقبلة حنان..خزن السياب في باصرته وبصيرته، وإحساسه ووجدانه، هذه الصور الرائعة، والأفكار المبدعة، والخيال المتسع،، فشكلت لديه آلهة الخصب، وكمنت عنده ربّة الشعر، فأخذ يستمد أنّى شاء من ثرائه الفني، وخصبه الشعري حتى آخر يوم من حياته القصيرة بأيامها، والخالدة بإبداعها …مرت أيام طفولته كومضة الأحلام، وما أن بكر حتى فاجأه القدر بموت أمه، التي طالما صحبته وأخويه إلى بيت أمها وبستان عمتها، وهي تعاني مخاضها الرابع سنة 1932، وكان عمرها ثلاث وعشرين سنة، سأل عن سبب غيابها، قيل له ستعود بعد غد ! وطال الأمد إلى الأبد، تركه الأب وأخويه، وبعثهم إلى بيت أبيه، و نسى أمهم والسلام! فانكمش بدرعلى نفسه، وحار في أمره، وكبت في عقله الباطن عقدة فقدان الأم، فأخذ يبحث عنها في وجه أي امرأة، ومن بعد أدرك حين هجرته إحدى الحبيبات النافرات أن أباه قد سلب، وأمه قد فقدت، والرحمة قد ضعفت، فقال مخاطباً الحبيبة ! (ذات المنديل الحمر، الآتي ذكرها) :

خيالك مــــن أهلـــي الأقربيــــن*** أبـــرُّ، وإنْ كـــان لا يعقــلُ
أبي منه قد جردتني النساء **وامي طواها الردى المعجلُ
وما لي من الدهر الا رضاك ** فرحماك، فالدهر لا يعدل

لم يذكر أباه من قبل ومن بعد، إلا هذه المرة، إذ أبدى سخطه عليه واكتفى، لا أطيل عليك، احتضنتهم جدتهم لأبيهم (أمينة)، وكانت نعم الجدّة البارة بأحفادها، الماسحة على روؤسهم، الداسة في جيوبهم، المقبلة لوجناتهم، الحقيقة عوضتهم عن حنان أمهم، وحاولت أن تسد فراغها، ونجحت إلى حد بعيد.

يدخل البدر مدرسة قرية (باب سليمان)الابتدائية، التي تبعد عن قريتهم كيلومترين، يقطعها الطفل بخمس وأربعين دقيقة سيراً على الأقدام، قضى فيها أربع سنوات 1932-1936، ثم انتقل إلى مدرسة (المحمودية)، السالفة الذكر، وينهي دراسته للمرحلة الابتدائية منها سنة 1938، وينتقل لدراسة المرحلتين المتوسطة والإعدادية – الفرع العلمي – (الثانوية) في مدينة البصرة، وفي الفترة المبكرة من هذه المرحلة يشرع صاحبنا بنظم الشعر الشعبي (اللهجة العراقية الدارجة) ساخرا، أو واصفا، فيلقي تشجيعاً من مدرسيه بمواصلة النظم بالفصحى، وتتعمق علاقته مع صديق طفولته، وابن قريته الذي أصبح شاعراً من بعد محمد علي إسماعيل، وراويته مؤيد العبد الواحد الشاعر الوجداني، ويتعرف على أصدقاء، سيصبحون من بعد شعراء وأدباء أمثال محمد محمود. . سعدي يوسف..عبد الستار عبد الرزاق الجمعة..خليل إسماعيل …عبد اللطيف الدليسي ..عبد الباقي لفته..، مصطفى كامل الياسين وصديقه الحميم خالد الشواف الذي انتقل إلى بغداد في سنته النهائية من المرحلة الثانوية، وغيرهم. ومن الجدير ذكره في هذه المرحلة، تخضع العائلة لظروف اقتصادية صعبة، إذ تبدأ ببيع أملاكها بأبخس الأثمان، تحت وطأة المرابين، وجشع كبار الملاكين، وقسوة الوسطاء النفعيين، فبدأ التصادم يدب في مدارك عقله بين الرومانسية المثالية التي يتطلع إليها، والواقع الاستغلالي المقيت الذي يرضخ تحته.

9 – البدايات الشعرية والاجتماعية والسياسية : :

يبدأ شاعرنا في السنة الخامسة عشرة من عمره سنة 1941 بنظم أول قصيدة رومانسية تحت عنوان (على الشاطىء)، ومن هنا تبدأ المرحلة الرومانسية الاولى في شعره، وفيما اظن، انه وضع قصيدة ميمية من بحر الهزج (كل شطر …مفاعيلن مفاعيلن أو جوازاتها)، وهي الطريقة الأسهل في نظم الشعرلكل مبتدىء ، لا ريب أنها تعتبر طفرة شعرية في مثل سنه :

على الشاطىء أحلامي ***وفي حلكة أيامي
غذا نجم الهوى يخبو ** عزاء قلبي الدامي
وفي خمرة أوهامــــي ***وفــــــي يقظـــــة الآمـــــــي

ثم عدد القافية من البحر نفسه- متأثراً بجيل علي محمود طه المهندس، ومحمود حسن إسماعيل – ونسق بين الأشطر والأعجاز ثم رتب الأبيات، نظم بسيط من بحر سهل بصور أحلاماً وردية لفتى يافع في جو رائع :

وذا الفجر بأنـــــــواره ***رمى الليل وأطيافــه
شدا الطير بأوكــــــاره *** وهزالــورد أعطـــــافه
ولكن هل آتت هند **خلا من طيفها النهر
فأين الحب والعهد ** سدى قضيت أعوامي
على شطآن أوهامــــــي ***ولا صفـــــو ولا قرب
فردي بعض أحلامي

ومن بعد وضع المقدمة، ليثبت سبقاً في تجديد الشعر، أو يشير إلينا بأنه فكر في الأمر جلياً، على ما يبدو لي، اقرأ وتأمل :

بين رفات أحلامي التي تكسرت أجنحتها، وأحرقتها نارالخيبة، وبين ضباب من الأوهام من الأوهام يكتنفني ووسط سكون رهيب لا يعكره إلا أنات قلبي الجريح، جلست على الشاطىء أترقب عودتك، ولكن هيهات.

ترى هنا (ولكن هيهات) استدراك ناشز، يريد به أن يقحمك بأبيات الهزج، ويلفت نظرك لأمر لا لزوم له، ارجع إلى (على الشاطىء أحلامي…)، ولك أن تقرأ القصيدة في الديوان، وتتمعن في بدايات السياب الشعرية، ومحاولاته على طريق التجديد.، و الحقيقة أنه جهد نفسه كثيراً في صناعة قصائد البدايات ، ففي مطلع قصيدة (الخريف) :

قاد الخريف مواكب الأيام *** فالمدح ناي في يد الأنسام

هنالك تنافر – كما ترى – بين الشطر والعجز من حيث المعنى، صعب عليه، فحاول أن يبدل (الأيام)بـ (الأنغام) عند ألقائها، فدخل في إشكال أعقد، فجعله في المجموعة الشعرية التي لم تطبع (رقص الخريف بفائض الأنغام) وما فائض الأنغام إلا تعبير قلق لمعنى مشوش .
وفي هذه المرحلة حاول أن يرسم صوراً لبعض الظواهر الطبيعية، أو مناظرها، فمثلاً برع في صورة لقوس قزح قائلاً :

وكأنما قوس السحاب، وقد بدا *** أأوتار قيثار مضت تتنادم
فتقاربت حتى يعاود عزفها **** مرح الأنامل بالملاحن عالــــم

وهذه الصورة جذبت أنظار القدماء، وأشبعوها رسماً ووصفاً، يقول دعبل الخزاعي في القوس الباهر الشاطر :

إذا القوس وترها أيد ***رمى فأصاب الكلى والذرا
وأحيا ببلدته بلدة ***عفت بعد أن عفاها الصرى

(وترها أيد) يعني ان الله وتر القوس التي في السحاب فرمى من خلالها بالمطر الذي أنبت الأرض زرعاً، فأسمن كلى الأبل بالشحم.
ومن الجدير ذكره – ونحن نتسلسل مع مسيرة السياب تاريخياً – في أذار سنة 1942 تصدر أحكاما بالإعدام غيابياً على رشيد عالي الكيلاني وكوكبته، واخرى بالسجن، ويعدم بعض من قبض عليهم في إيران، وسلمهم الأنكليز إلى الحكومة العراقية، وجد السياب في هذه الحادثة الوطنية الفاجعة منفذاً لتسجيل موقف، واكتساب سمعة، فنظم قصيدته (شهداء الحرية )، التي لم تكن إلا ليقال إنه قال، منها الأبيات:

أراق ربيب الأنكليز دماءهم ** ولكن دون النار من هو طالبه
اراق ربيب الانكليز دماءهم*** ولكـــنّ فــــي برلين ليثاً يراقبــــــه
رشيد ويا نعم الزعيم لأمـــــــة **** يعيث بها عبد الإله وصـــــاحبه

المهم سجل أول موقف ضد الحكومة العراقية حينذاك والأنكليز، وساند الثوار متأملاً من ألمانيا وزعيمها خيراً، لا حباً لها، وتعلقاً بزعيمها، بل كرها للأنكليز، و بغضاً للوصي عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد.
نتجه الآن إلى موقف من حياته الاجتماعية، والأيام تسير، فعند نقطة التقاء الشعر وطموحه، والفقر وشبوحه، تنزل الدنيا بنازلتها الأخرى على الفتى بموت جدته الحنونة سنة 1942، فيهتز وجدانه، فيلملم أحزانه، ليصب أشجانه :

جدتي من أبث بعدك شكـــواي ؟***طواني الأســــى، وقــــــلّ معيني
أنت يا من فتحت قلبك بالأمـــ * ـس لحبي أوصدت قلبك دوني
فقليل عليّ أن أذرف الدمـــــــــع **** ويقضي علـــــــيّ طـــــول أنينـــــي
ليتني لم أكــــــــن رأيتك من قبل *** ولم ألق منــــــك عطف حنـــــون
آه لو لم تعوديني على العطف ***وآه لـــــو لــــــم أكـــــن أو تكــــــــوني
أيّها القــــــبر كــــــــن عليها رحيماً **** مثلمـــــــا ربت اليتــــــامى بليــــــــنِ

نعم وجد في جدته ما كان يتمناه من أمه، وتشرب الحب والحنان، فبثهما لزوجه وأولاده من بعد، وللناس أجمعين، وتمنى من الزمان، ما ليس يبلغه من نفسه…، فالزمان متقلب، و الدنيا دول، وحكم المنية في البرية جاري.
وإبان أيام جدته الأخيرة، تعرف الشاعر على الراعية البدوية (هويلة)، ولك أن تكبرها إلى (هالة)، لاسيما هي أكبر منه سناً، والحب أعمى لايعرف حدوداً، كان يلتقي بها خارج قريته بنشوة عارمة خادعة :

لأجلك أطـــــوي الربى شــــــارداً******أردد أنغامـــــي الضائعة
وأسكب في الناي قلبي الكئيب **فتغمره النشوة الخادعة
وكان لحونـــــاً دعتنــــــا الربــــــــى ******فقرت بأحلامها الرائعــة

ولكن لماذا النشوة خادعة ؟ !
لأن الحب من جانب واحد، هو العاشق الولهان، وهي التي تجري وراء إرضاء غرور أنوثتها، ألم تره يكرر المعنى مرة ثانية، وبصورة شعرية أخرى ؟! أقرأ وتمعن :

وكنت كذاك الطائر الخادع الذي ****يراه رعاة البهم في المرج هاويا
فيعدون بيــــــن العشب والزهر نحوه**** وإن قاربوه طـــار جذلان شاديا

المرأة الجميلة، تظهر زينتها، وتبدي تمنعها، وإذا حبت بصدق سلمت قلبها …..نبقى مع الحب والهيام، والعشق والغرام، وعلى مسرح تلك الأيام، فبعد (هويلة) راعية الأغنام، يشكل صاحبنا مع ( وفيقة) بنت الجيران، ويتعلق بشباكها الأزرق الذي لا يعلو عن الأرض سوى متر، تعلق الهائم بالسراب، والظمآن بالشراب :

العالم يفتح شباكه :
من ذاك الشباك الأزرق
يتوحد يجعل أشواكه
أزهار في دعة تعبق
شباك وفيقة في القرية
نشوان يطل على الساحة
كجليل تحلم بالمشية
ويسوع
يحرق ألواحه
هناك المساء أخضرار نحيل
من التوت والظل وألساقية
وفي الباب مد الأمير الجميل
ذراعيه يستقبل الآتية :

أميرتي الغالية
لقد طال منذ الشتاء انتظاري
ففيم التأني وفيم الصدود؟

ألم تر الشعراء في كل وادٍ يهيمون، يطلبون ما لا يستطيعون، يذكرني السياب بأبي نؤاس، وتعلقه بباب حبيبته، ومناجاتها:

أين الجواب ؟وأين رد رسائلي؟ **قالت ستنظر ردها من قابل
فمددت كفي ثم قلت تصدقوا *** قالت نعم بحجارةٍ وجنادل
إن كنت مسكيناً فجاوز بابنا *** وارجع فمالك عندنا من نائل
يا ناهر المسكين عند سؤاله *** الله عاتب في انتهار الســــــائل

لأبي نؤاس بابه، وللسياب شباكه، ولوفيقة اختيارها، تزوجت وفاتت، وبقي السياب ينتظر، ونذكرك أن مقاطع القصائدالتي ثبتناها عن هالة ووفيقة نظمها الشاعر في مراحل متقدمة، تأتي من بعد، وفترات متباينة بينها بعد.

10 – السياب في دار المعلمين العالية ….تسيره السياسية…و الرومانسية تسير معه حتى نهاية 1948 :

باع جده ما تبقى من أملاك العائلة، ودخلت سنة 1943، وهو صفر اليدين إلا ما قدر الله، وما سيقدر، فتخرج من الاعدادية- الفرع العلمي -(الثانوية) من البصرة، وتوجه إلى بغداد لتكملة دراسته العالية في دار المعلمين العالية (كلية التربية)، فرع اللغة العربية – ثم ينتقل إلى فرع اللغة الأنكليزية من بعد، لرغبته وقدرته في هذا المجال الحيوي لمستقبله الشعري الرائد والإنساني – وذلك في بداية تشرين الأول من السنة المذكورة، وعندها ذهبت وفيقة إلى حال سبيلها، وأصبحت هالة بأبعد منزل ، هكذا نراه يخاطب سعف النخيل :

مَن كنتُ أحذر أن تحجب طيفها *** عن ناظري نزلتْ بأبعد منزلِ
سيّان عندي اليوم قفر موحش ****وظلال روضٍ مستـــطاب المنهلِ

حامت حوله قريته عند غربته، في مكان لم يألفه،، وجو لم يتعوّده، فأضحت الأيام أعواماً، والدقائق أياما، فضاقت عليه المدينة بأنوارها، والمدنية بأسوارها، فأراد الاتساع ليقتحمها بضحكة مصطنعة، ومجاملة مفتعلة، ومصافحة ثقيلة، ولكن عند سكون الليل، وصفاء الذهن، يسكب ما يختلج في نفسه من مشاعر الشوق والحنين لقريته، لرياض النخيل، وهدوء الحقول، والغدير الوسنان، والمروج الحسان، فإلى أبيات من قصيدته (تحية القرية) :

هدوء الحقول تلقى لديه الـ**نفس ما ترتجيه من غايات
فهو نور يهدي سفائن أفكاري ** إلى ما وراء بحر الحياة
فنرى المبدع المصـــــور فيما **حولها من جنـــــائن موثقــــــات

وإلى مطلع قصيدته العمودية الأخرى التي جاشت نفسه بها في هذه الفترة وهي تحت عنوان (أغنية السلوان) إليك منها، حنين الروح لروحائها، والأزهار لفراشاتها، والعيون لسحائبها :

تباعدنا فلا حزنٌ على ما ضاع مــــــــن قرب
وليس الحب إلا الرحلة استلت قوى القلب
نفضنا قطرات الوصل بيــــــن الورد والعشـــــــب
إذا ما اهتزت الزهرة ألقت بالنــــــــدى العــــــــذب
وتقضي وحشة الأيـــــــــام بالتحديق فـــــــي السحب

استمرار ألحال من المحال، بدأت بغداد تلج عالمه، وشرعت تصب رافدها في مجرى دمه، ففي دارها العلمية، أخذ شعره يجذب أنظار الفتيات، ومن ثم قلوبهن، اثنتان منهما كانتا تعاملانه بود ولطف، والقلوب سواقي، والود يظهر حسنه الود !! فتلك (الإقحوانة)، كما أراد لها السياب، مترجماً اسمها الأنكليزي، كانت تمتاز بالعذوبة والرقة، والعينين الوادعتين، والنغمة الحلوة، والغمازتين اللطيفتين، استعارت (الإقحوانة) الساحرة ديوانه المخطوط، وبقى تتداوله الحلوات فيما بينهن، وينام على أسرتهن، فطار طائره، وذهب به الخيال إلى مضاجعهن، وتصور كل واحدة منهن تناديه :
وإذا رأين الفوح والشكوى ****كل تقول من التي يهوى

وما درى، وربما درى وتناسى أن الذين يعشقون العبقرية، ليس بالضرورة يميلون إلى العبقري ويحبذونه، ولكنه حسد ديوانه على محظياته :

ديوان شعر ملؤه غزلُ *** بين العذارى بات ينتقلُ
أنفاسي الحرى تهيم على ** صفحاته والحب والأملُ
وستلتقي أنفاســـــــهن بها *** وترف فــــــي جنباته القــــبلُ

أما صاحبتها الجميلة الرائعة (لبيبة) – كما يرى – والتي أطلق عليها (ذات المنديل الأحمر) – سبق أن مر ذكرها ، فتكبره بسبع سنوات، وما الضير إذا كانت تمنحه الحنان المفقود :

أراها، فأنفض عنها السنين *** كما تنفض الريح برد الندى
فتغدو وعمري أخو عمرها *** ويستوقف المولــــــد المولــــــدا

ومرة كان شاعرنا يمشي في حرم الدار (الكلية)، وشاهدها تتحدث مع آخر، وعندما لمحته، سترت وجهها بعباءتها، أثار هذا المشهد أحاسيسة، وهيج مشاعره فنظم قصيدته (في الغروب)، وشبهها بشمس الغروب التي تعترضها سحابة قائلاً :

وهبت تحيتها لآخر غيـــــرهِ *** فبكى، وقــــــال لعلها لم تبصـــــرِ
وقد أكتفى لو أنصفته بنظــــــــرة ٍ** لكنهـــــا حرمته طيــــب المنظرِ
فتحجبت بسحابة من صحبها **وتسترت فصرخت:لا تتستري

تسترت، وشمس الأصيل ايضا أوشكت على الرحيل في لحظات وداع حاسمة، ومؤلمة، فصب لوعته وأشجانه بأجمل بيتين، تخيل الموفق، كما لو كان معك :

برب الهوى يا شمس لا تتعجلي ***لعلي أراها قبل ساع الترحلِ
ألا ليت عمر اليوم يزداد ساعة **ليزداد عمر الوصل نظرة معجلِ

لم يكن السياب وسيما ً، وهذا قدر الحياة، وموقف لها عليه، و الناس جبلت على حب المظهر، ولا تبالي بالجوهر، في الأمور الجمالية، وتنسى أن الإنسان لا يستر ما فيه إلا هذا الجلد، والنساء يغرهن الجمال لا الثناء ! ووصف هيئته بعض الباحثين للضرورة التاريخية، وللسياب موقف سجله على الحياة بأنه بقى خالدا معها، وهذا أمامكم ديوانه الذي حسده، تستطيعون قراءته في كل المكتبات والمواقع :

يا ليتني أصبحت ديواني *****لأفر من صدر إلى ثان
قد بت من حسد أقول له ****ياليت من تهواك تهواني
ألك الكؤوس ولي ثمالتها ***ولك الخلود، وأنني فاني ؟

كل من عليها فان، ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام، والذكر للإنسان عمر ثانٍ وثانِ !!