بين ماضٍ وحضورٍ في زمانٍ ثمّ آتٍ , أنت تحياها بآنِ
فتعلّمْ كيف تدريها لترقى واطلق الفِعل بأعقاب الثواني
أبعاد الزمن الثلاثة قوائم وجودنا الذاتي والموضوعي , وخارطة مسيرتنا فوق التراب. فالزمن صوت يدوي في أعماق لا وعينا ويزمجر في دياجير خيالنا ويزعزع نفوسنا. ويمكن قياس دور المجتمعات في التفاعلات الحضارية من خلال ما فيها من كثافة هذه الأبعاد الثلاثة.
فالمجتمع العربي عموما مسكون بالماضي وخصوصا المجتمع العراقي الذي تسيّد عليه البعد الماضوي بإستبداد مرير حتى يكاد أن يلغي الحاضر والمستقبل , وقد شهدنا سلوكيات تترجم هذه الهيمنة الماضوية وتعبّر عنها بشراسة فائقة, دفعت إلى التواصل بوحشية قاسية وغير مسبوقة, لأن الحاضر قد أغتيل والمستقبل قد غاب. ولذلك تدحرجت الحياة إلى حيث وعيها وطبيعتها وطاقاتها الموجهة لمسيرتها.
ولايزال المجتمع يعاني من ثقل الماضي وأفكاره وتصوراته وأجنداته وإرادته , وبإنقطاع شديد عن الأبعاد الزمنية الأخرى. وقد أدت مسيرة السنوات التسعة الماضية إلى إعتقال العقل في صناديق ظلماء ودفعت به إلى الهوس بالباليات ومجالسة الأجداث , والسعي لإحياء الأحداث التي ليس له فيها ناقة ولا جمل , وأخذ يتصرف وكأنه المسؤول عنها والذي عليه أن ينتقم لها ويغير واقعها وتداعياتها وأسبابها. وقد لا حظنا طغيان الكتابات والأفكار التي تعبّر عن ذلك الهوس الخطابي والنفسي الذي تسبب في تعقيدات سلوكية وتداعيات غير مبررة.
ولا يمكن فهم تلك السلوكيات إلا بالإنقطاع عن بعدي الزمن الآخرين والإندساس في بُعد الماضي وحسب , والمراوحة في لحظة زمنية وعدم القدرة على إمتلاك طاقات مبارحتها. فالزمن الذي نريد أن نعيشه نحققه في دنيانا الداخلية أولا , وهذا أهم أسباب تواصل التداعيات في البلاد.
ومن الجانب الآخر , هناك مجتمعات تعيش حاضرها وتعمل بجد وإجتهاد لكي تواجه مشكلاتها المستجدة لكي تعزز قدرات وثوبها نحو المستقبل. ومَن يتابع خطابات وكتابات المجتمعات المتقدمة , يجد أنها تعيش المستقبل في أعماقها وتنطلق من رؤيتها المستقبلية للتفاعل مع الحاضر القائم والفاعل في أيامها. أي أنها تسير وفقا لهدى خارطتها المستقبلية المذخورة في دنيا أبنائها جميعا. وبسبب ذلك فأن ما تقوم به يشير إلى التوثب والإبداع والإبتكار والتجدد المتلاحق في ميادين الحياة كافة.
وما تراه من سلوك وإشارات يتحرك نحو الهدف المرسوم في أفق النظر القادم , وبهذا يتحقق الإستبصار المستقبلي , والشروع ببناء قواعده المعاصرة.
ولا يمكن العثور على خطابات ومناهج ماضوية كما هو حاصل في مجتمعنا الزاخر بآليات التدحرج إلى الوراء والتكلم بلسان “مضى وما إنقضى”. فالمجتمع المتقدم لا يتقيد بأصفاد ماضوية وإنما يتعلم ويتنبه وينطلق نحو المستقبل , ولا يسمح لأحد أن يكون معتقلا في سجون البارحة.
والبارحة في المجتمعات المتقدمة لا تتجاوز فترة حكم لرئيس سابق أو ربما حدث حصل قبل أسبوع أو يوم , وإن حصل شذوذ عن هذه القاعدة فأنه من الأخطاء الفادحة والنوادر. والبارحة عندنا تقاس بالقرون العديدة.
والخلاصة أن المجتمعات عليها أن تعي في أي بعد زمني تعيش , وعليها أن تتنبه إلى أن لا تكون أسيرة للماضي , لأن في ذلك تحطيم لوجودها الإيجابي وإطلاق لطاقاتها السلبية وقدراتها التدميرية للذات والموضوع. والمجتمعات الحية هي التي تعيش مستقبلها في دنياها وتجسده في محيطها وبهذا تكون وتتفوق.
لا تساقيها جراحا يا عظامي وتبصّرْ بحياةٍ للعصامي
كلُّ ما كان تراه لا يُداني فلماذا تتداعى في الظلام