19 ديسمبر، 2024 1:05 ص

اربعة َ أعوام  دُفنتُني تلك القرية البئيسة ُفي قاعها المُدقع المنسي، تغيّرَ فيها لونُ اهابي ، واستوطن التراخوما عيني . وبوسعي / لو تذكرتُ ايامَ كلّ تلك السنوات الأربع / أنْ اكتب عن كلّ يوم كتاباً .
……………………………….
عدتُ اليها / الى مدينتي/ كياناً رثّاً وأنا في السابعة ، كان لونُها غير تلك التي عرفتها ، الآن شبّ وعيي ، ففي القرية تعرّفتُ السهلَ والجبلَ والنهر والبئر والعين َيشعشعُ بالماء النمير، والصحو والمطر والعاصفة / تتلوى عالية مُحمّلة أطناناً من الحصى والرمل مُكتسحة الطرق والاكواخ وتُدمّر / والقرّ والحرّ يُصلي يافوخي ، والصراصر والعقارب والأفاعي والفئران والجرذان واليرابيع والذئب والثعلب وابن آوى والضبع والدب …و…و… هناك كلُّ ما سأقرأ عنه لاحقاً في المدرسة عايشتُه. عرفتُ كيف ومن اين يجيء الخبز واللبنُ والجبنُ واللحم . ومَنْ يحرثُ الأرض ويلقي في تضاريسها الحبّ ، وكيف ينمو الزرع بعد هطول المزن . ثمّ يرتفع ويُسنبلُ ويصفرُّ يابساً ثم يُحصدُ ويُذرى ويُفصل القمحُ والشعير عن القشّ . وكيف يُحلبُ الغنم والبقر ويُصنّعُ اللبنُ ويُستخرجُ منه الزبد والجبن . ثمة َتسلقتُ صخور الجبل ونزلتُ الى قيعان الآبار . وعرفتُ ان مياه البئر جارية مثل الساقية والنهر ، لكنْ تحت أديم الأرض . بل كانت ثمة مجار توصل بئراً بأخرى ثمّ تنفلتُ خارجاً لتكون نُهيراً يلتقي بآخر ليكون نهراً . فهل ستُعلمني كتبُ المدرسة ما علّمتني القريةُ ؟ لكنّ اقراني ممَنْ هم في سنّي يعرفون أكثر مني عن المدينة وشوارعها ، وثمة فيها لغزٌ عملاق يشرئبُ على المدينة . أعني قلعتها المكتظة بالكنائس والمساجد والمدارس والبيوت الحجرية الأثريّة ، والممرات الضيقة . وفي وقت متأخر ، ربّما في الخامس الأبتدائي تجرأت همتي على اقتحامها . بل صرتُ طالباً في احدى مدارسها المسائية . وحفظتُ عن ظهر قلب اسماء بناتها ممّنْ يُضارعنني في العمر . نتبادلُ النظر والكلمات والأعجاب . وغدت ابنيتُها المهجورة طيّ رغباتي اصعد الى سطوحها المُطلة على نهر الخاصة وجسره الحجري وسائر أرجاء المدينة الواقع في حيّز النظر . هذا اللغزُ العصي بات صديقي اقطع دروبه من مبتدأ الجسر مُرتقياً الدرجات الأسمنتية البالغة اثنتين وسبعين درجة . بل اجلس أحياناً على الدرجة السابعة أو العاشرة ، ومن مكاني اراقب الجسر يعبره المُشاةُ والعربات والباصاتُ الخشبية والشاحنات الصغيرة . ولأنّه ضيّقٌ فيتسعُ لعربة او سيارة واحدة . وثمة شرطيا مرور ينظمان عملية السير . بينما النزول في الطرف الثاني من القلعة بلا درجات ، بل منحدرٌ اسمنتي يسعفك على دخول السوق الكبير . وبوسعك الذهاب الى الميمنة حيث القيصرية والسوق او الذهاب الى الميسرة داخلاً في سوق السراجين والحدادين والحلوجية صعوداً الى آخر حسين وامام قاسم ….كنتُ احياناً ادور حول القلعة اجري مع نهر الخاصة ثم التفّ يميناً حتى  آخر حسين والج الشارع الطويل المزجحم بدكاكين الحلوجية والحدادين والسراجين ومبتدأ السوق الكبير وارى احدى فوهات القيصرية الأربع المطلة على الشارع القادم منه . ثمّ التفُّ يميناً موغلاً في ازدحام السوق الكبير . وأكاد احفظُ اسماء اصحاب جميع الدكاكين والأزقة الخارجة الى محلات المصلى والشورجة والجاي . هنا القلبُ التجاري النابض للصوب الكبير من كركوك ، ففيه دكاكين البقالين والجزارين والبزازين والمشتغلين بالنحاس وبيع التبوغ ، وكذا المكتبة ُ العصرية التي دلني عليها معلمُ العربية اليهودي نيسان شوقي لأستعير منه كتباً أقرأها واعيدها في اليوم الثاني لقاء عشرة فلوس هي يوميتي اتلقاها من ابي كلّ صباح . واذ انا اقطع السوق نحو نهر الخاصة تنهمر من حنجرتي التحيات على اصحاب الدكاكين واولادهم الألى هم زملائي في المدرسة او في المحلة . وحين اصل الى نهر الخاصة اقف لدن السياج الحجري الواطيء ناظراٌ في السيول الغرينية الجارية بعنف بعد سقوط المطر . ثمّ اصعد تجاه القلعة وعلى ميمنتي المخازن التجارية التي يعرفني اصحابها مثل ابنائهم ، وارنو من حيث امشي الى سوق الصفارين داخل الزقاق على ميمنتي وارى فوهة قيصرية الخياطين وعلاوي الحبوب . وقبالة مقهى مصطفى قلاي اعبر الرصيف نحوه وارى ابي جالساً يحسو رشفات من استكانة الشاي . ويطلب اليّ ان احمل بعض الرسائل الى الشيخ رشيد صاحب فندق / رأس الجسر/ فوق المقهى والدكاكين المجاورة له . ارتقي بضع درجات والجُ باب الفندق على ميمنتي. ساقطع حديثي هنا بعد رحلة حول القلعة استغرقت زهاء ساعة ونيّفٍ .
في الحلم مطرٌ، لكنْ أسودُ يتنزّلُ من غيمة بلون الظلمة . هي تجري ، لا على قدمين ، بل تُحلقُ عالية ً وليس بجناحين مثل الطيور . أهربُ من دوشها العنيف ، ويهرب مَنْ كانوا معي ، وتطولنا زخات قويّة حتى نجد سقفاً سائباً امام الدكاكين نحتمي به . تمضي الغيمة ُ بقعة ًكالحة عاتمة لتسوّط أمكنة اخرى وآخرين مثلي . ولو لم تكنْ سمعتُها مقرونة بالخير لشتمتها ولعنتها . ثمة الى جواري مقهى ينطوي على تخوت وزبائن ورائحة الشاي . لم تستسغ نفسي الجلوسَ فيها . بقيتُ واقفاً وقبالتي فسحة ٌ أشبهُ بالحظيرة . ولجها فتى برفقة كبش سمين . ترك رفيقه وولج المقهى . كنتُ اتملى في الزاوية بقرة ساعة مخاضها ، ظلت واقفة تئنُ وتعصرُ ، واندلق الصغير مُغطّىً بسوائل مشيمية ، سقط خلف امّه التي التفّتْ نحوها تلعقُ بلسانها السوائل التي تغشاه ، اجملُ ما فيه اصراره على الوقوف على قوائمه الأربع ، نهض وسقط ثم تكررت عملية النهوض والسقوط حتى حالفه النجاح وامُّه ما زالت تمسحُه بلسانها . فجأة ً ومن دون أن يدلّه احدٌ على ضروعها تسرّب نحوها ، رافعاً فمَه يستقبل احدى الحلمات الطويلة  . والأجملُ الأجملُ فيه عيناه البارقتان الواسعتان . الهي ما اغنى هذه اللحظات وناظراي يستقبلان حياة فتيّة تنضم الى اسراب الحياة . قال صاحب البقرة مازحاً وهو يُطل من فتحة دكانه عليّ : اتريدُ شراء الصغير / نعم أرغب في ذلك ، لكنّي محضُ عابر لا بيت لي هنا / عدْ بعد عام سيكون جاهزاً ، وقد تجد بيتاً / هززتُ رأسي : / هذا مستحيل ، فأنا عابر أزمنة احلامي ولا أدري الى أين ستأخذني المصادفات …..
عندئذ ٍ اقفل الحلمُ بابه وصرتُ في مكان آخر
 ……………………
بيتُنا واسعٌ من طبقتين ، وفي احدى غرفه العلوية كنتُ افككُ قنفة بنيّة قديمة اروم النظر فيما تنطوي عليه طيّاطُها . قمنا أنا وزوجي بالعمل ، فتبدّت لنا اوراقٌ قديمة ، نقودٌ ورقية مهترئة ، واخرى معدنية . وكذا ابر ودبابيس وازرار . اخيراً جمعنا شتات ما قمنا به ونزلنا نرميها في برميل القمامة الكبير قبالة بابنا . عندئذ عنّ رجل يقولُ انه من اصدقاء الطفولة : / انا كنعان ، الا تتذكّرني ؟ / بلى لكنك تغيرتَ وصرتَ شخصاً آخر / وكذلك انت ، فلستَ ذلك الذي كنتُ أعرفه / فكيف عرفتني ؟ / اسمك على القطعة البرونزية على الباب ، قلتُ سأجرّبُ حظي / تفضّلْ اذن نحتس ِ فنجان قهوة ونتحدّثُ خلال جلستنا / اثناء ذلك اخرج من حقيبته نسخ مخطوطات قديمة ذات اوراق صفر بالية .، اراني ثلاثة ، قرأتُ عنواناتها واسماء مؤلفيها ومَنْ قام بتدوينها بخط النسخ الجميل / ينبغي أن تُصوّرها وتُسلّمها الى جهة تراثية ./ قمتُ بتصويرها ، وسافعل بنصيحتك / طوى كنعانُ الكتب ، اعادها الى الحقيبة ومضى ولم يُكملْ شرب قهوته . وفيما أنا اودّعه وقفتْ امرأة ُ قبالتي : / الهي ، اهذا انت َ ؛؛ من امنياتي ان التقي طلبتي الألى درّستُهم في الإبتدائية / اانت ِ الست فوزية ؟/ أجل ، ومَنْ تراني اكون ؟ / لقد كبرتِ ، لكنْ ما زال ألقُ عينيك ووميضهما لم يأفلا بعدُ ، تفضلي نحتس ِ فنجان قهوة ونتحدّثْ /  ولجتْ معلمتي بابَ بيتنا وقبل ان نصل الى صالة الجلوس اختفتْ واختفيتُ . كنتُ اودّ لو تدلّني على بقايا صور ايامنا الماضيات . وتُحدّثني عن طفولتي ونشاطي .
في جهة اخرى كنتُ مع / ابو فاتن / فهوصديقٌ سلسٌ وثمين كالحريرالأصيل . ما جمعنا كان القراءة ، قرأ قصّة لي منشورة في مجلة ، جادلني في امور كثيرة ودلّني على هنات صغيرة ، لكنّه اطمأن الى جمالية بنائها ولغتها . انا اكتبُ عن احلامي ، وهو كلفٌ بالواقع الذي نتعايشُ فيه . لكنّه اشاد بما اكتب كوني انقل الى القاريء ما تنطوي عليه دروبُ الحلم وممراتُه المُلغزة . اثناء ذلك كنا نتناول شرائح البطاطة المشوية مع الجبن وعصير التفاح . وحين جاء صديقٌ آخرُ لا علاقة له بالثقافة . فتح ابو فاتن ذراعيه ،احتضن فضاء الحلم ثُمّ طواه واختفينا .
……………………
كما لو كنتُ مُدّثراً بسديم ضباب ، متكئاً الى حائط ، ارنو الى امامي .ثمة جدار عريض يتوسطه مستطيل اشبه ُ بفتحة حمام بيتي تكتظ بعدد من البنات الصغيرات يرقصنَ تحت مياه الدوش الساقطة بقوة ، يصرخن ويتراشقن بالماء . ما كنا عاريات ، بل يرتدين ثيابهنَ الملونة المشبعة بالبلل . وفيما أنا اتطلعُ الى هذا المرأى اقبلت خفيدتي فجلست على ميسرتي ورمت ذراعها اليمنى وراء رقبتي . وكانت اوصت صديقتها ان تجلب لي / سندويجاً / واقبلت لتجلسَ على ميمنتي . كان ما جلبته محض نصف صمون فارغ رطب وحسب .أين اللحم والخضارُ ؟ / سألتُ . ردّت ضاحكة : / اكلتها ، كنت جائعة / لم اقل شيئاً ، طلبتُ اليها ان تكمل اكل بقية الصمون / لا اريدها ، لقد شبعتُ . وتصدّت لها حفيدتي بعصبية : / لقد تناولنا انا وانتِ حصتنا ، فلمَ سطوت ِ على حصة جدي ؟ / لم تجب عن سؤالها ، بل كركرت وحسب . اغتاضت دينا ، نهضت واقفة وامسكت بشعرها : هيّا نذهبْ . ومضتا ..كان رذاذُ ماء الدوش يطشّ خارج فتحة المستطيل ، وتصلني ذرات مائية . قمتُ وغادرتُ مكاني . لكنّ الوضع بدأ يختلفُ . كنتُ اقفُ امام باب . ارتقيت اربع درجات توصلني الى فسحة ومنها ولجت الباب . كانت ديزي تنتظرني ، واختها الكبرى تقرأ في كتاب تسمعُ عدداً من الجالسين الألى اجهل مَنْ يكونون . قالت د يزي: / هي تقرأ إحدى قصصك علينا / العرسُ الحزين / انظرْهم فقد أخذوا يجهشون / قلتُ : / فيها قصصٌ اخرى مسكونة بالفرح ، فلمَ اختارت القصة الأخيرة ؟ / توقفت كراز عن القراءة : / لقد انتهت .. هي في نظري اجملها ، قرأتها مرّات ولا أكاد استطيع مفارقة اختك ، اردت صدّها عن الإنتحار واحراق نفسها ، لكنّها لم تسمع نصحي فمضت طواعية الى موتها / غشيني الكمدُ . اقبلت د يزي تُجاهي ، جلست قبالتي واخذت تقبّلُ جبيني وتمسحُ بأصابعها دمعي . اختفى الجميع ماعدانا أنا وديزي ، وكرازالتي اقتربت مني وتحدّثت بهمس : / القصّة هي حياة اخرى تجري خللَ صفحات الكتب ، احياناً نطلّ عليها عن بُعذ وحيناً ننغمسُ فيها ونعيش مع ابطالها /…
 شحُبَ المرأى وانطفأ . وذهب كلُّ أحد الى جهة ما …