22 ديسمبر، 2024 10:36 م

الذاكرة المشتركة والمصالحة الوطنية في زمن التسويات التاريخية ….

الذاكرة المشتركة والمصالحة الوطنية في زمن التسويات التاريخية ….

(الله اشحلو الفرهود يا أسلام يا ريته يعود كل سنة وكل عام )
بهذه الاهزوجة هتفت الجموع المتمردة في ١ حزيران عام ١٩٤١ معلنة بدء حملة قتل واغتصاب ونهب للمكون اليهودي في العراق !!!! خلال سويعات ثقيلة ساخنة في الطقس والاحداث بقرت بُطُون النساء الحوامل وقتل ما وقع تحت النظر من الأطفال والشيوخ واغتصبت النساء ونهبت المحلات والبيوت معلنة بدء حملة التهجير !!! 
هكذا انقطع حبل التاريخ لمكوّن قديم يرجع وجوده إلى عهد الإمبراطورية الآشورية الأخيرة 911-612 ق.م، بعد عدة حملات قام بها الآشوريون على فلسطين ونقلوا على اثرها اليهود إلى العراق. خسر العراق جزءا هاما من جهازه العصبي.. خسر الاديب شاؤول حداد صاحب جريدة “البرهان والمؤرخ أبنير يعقوب والمفكر مير بصري والوزير ساسون حسقيل أول وزير للمالية الذي مكن العراق من استرجاع واردات النفط بالباون الذهبي، بدلاً من العملة الورقية والطبيب جاكي عبود أخصائي الأمراض العصبية المشهور الذي احبه مجانين العراق وعقلاؤهم .. رحل اليهود وخفتت تدريجيا إضواؤهم الفنية التي جسدها فنانوهم الكبار مثل المطربات سليمة مراد وسلطانة يوسف وقراء المقام يوسف حوريش وسلمان موشي وحسقيل قصاب وسليم شبث وغيرهم…اجدبت ارض العراق .. نزف العراق !!

ولكنه لم ينزف لأول مرة ولا اخر مرة… فقد نزف قبل ذلك حين سقط أولاده الآشوريون خلال عهد رشيد عالي الكيلاني عام ١٩٣٣ في مجزرة راح ضحيتها مابين بين ٦٠٠ الى ٣٠٠٠ قتيل اشوري ونزف بعدها في حلبجة وسبايكر وتلعفر والموصل وغيرها .
قافلة الظلم العراقي لا تعرف القفز على المذاهب والأديان والقوميات وتتوقف متى شاءت في محطات الشيعة والكورد واليزيديين وغيرهم حين تتناوب على قيادتها حكومات جاهلة مستبدة وتطرف ديني واجتماعي أهوج !

هل يمكن ان تخرج مصالحة اجتماعية او تسوية من بين هذا الحطام ؟؟
لا يترك بطبيعة الحال هذا الآرث الثقيل من المظالم والمصائب مجتمعنا بلا اثر على سلوكه ومستقبل أجياله ..فقد زاد التوحش بجميع ألوانه وتصحرت الحياة وتعاظم الكبت ومدت الثارات والاحقاد جذورها عميقا في النفوس وتريفت المدن وانحسر التسامح …. 
مع هذا الارث الثقيل لا يمكن ان تنجح المصالحات الوطنية مع كل ما تحتويه من نوايا سياسية طيبة ( ان وجدت ) او ميزانيات مرصودة ( ان لم يشملها الفساد ) دون ان تشمل مصالحة المجتمع مع ذاته ومع الماضي !!!
وبمعنى اخر، لا يمكن العبور الى مجتمع المكونات المتآخية دون “ذاكرة وطنية” ينهل من مشتركاتها الجميع .. والجميع بلا استثناء !!!! 
هنا مربط الفرس .. هنا الذاكرة الوطنية …
الذاكرة الوطنية هي التي تفك شفرات انفصام الشخصية الوطنية .. الشخصية التي تتجلى مظاهرها في انفلات العنف مع ظهور اول ملامح ضعف الدولة او سقوطها ( الفرهود – الحواسم – تحول الجيران المختلفين طائفيا او دينيا او عرقيا الى أعداء كما حدث في ديالى والموصل وتلعفر وغيرها الخ ).
الذاكرة المعالجة لانفصام الشخصية العراقية التي تفزع حين توصف باليهودية من جهة وتشعر من جهة اخرى بحنين جارف عندما يمر عليها طيف العهود السالفة التي اختلط فيها اليهودي مع النصراني مع الشيعي وغيرهم!!!
الذاكرة بادواتها المتنوعة التي يصنعها الفلم الوثائقي او النصب الجامع او المتحف الوطني الناطق بالاحداث الذي يتجول بين أروقته العراقيون بمختلف أعمارهم وديانتهم ومذاهبهم ليجدوا فيه صورة الطبيب اليهودي مع تمثال الشاعر الشيعي قريبا من التاجر الفيلي والكاتب السني لتغرس بمجملها في وعيهم الكامن صورة عراقية موحدة متكاملة!! 
والذاكرة الوطنية هنا ليست بالضبط التاريخ بل محطات منه تجتمع فيها ألوان الطيف العراقي وتمتزج بين ثناياها المشاعر والعقلانية لتصنع منجزا تعيش عليه الأجيال !!!منجز عابر للمكونات والأزمنة وسابك للحمة الوطنية كمنجز “ذاكرة ألطف” الذي مزج العواطف والعقلانية والتاريخ واورثها للاجيال المتتالية سابكا الشيعة في قالب ولائهم الفطري !!
الذاكرة التي توثق الأحداث والمواقف والمنجزات والشخوص وتوظفها كلقاح وقائي اصلاحي يعتمده قادة السياسة والدين والمجتمع .. إصلاح علاقة المجتمع مع الماضي والصلح مع الذات ….. وهي بالتأكيد التي تجعل مصائب الاشوريين واليهود والشيعة والكورد والشبك وغيرهم عوامل دفع نحو المستقبل بدلا من ان تكون عوامل جذب نحو الماضي الملغوم والأفكار المتطرفة …..
الصلح مع الماضي يعني الاعتراف بالاخطاء والتعويض وتسويق كل ذلك تربويا واعلاميا والذهاب في النهاية الى التسويات السياسية بخطى واثقة !التسويات المتحررة من عقد الذنب او المظلومية والمستندة على الانسان كرأسمال متزايد والناظرة الى المستقبل رغم التحديات .. ….