18 ديسمبر، 2024 11:08 م

الدين مجموعة من العقائد الثابتة والمفاهيم الهلامية التي تطرح تصورا متعاليا للحياة عبر ربطها لأصول ماورائية غير خاضعة لمتغيرات الزمان والمكان بنص مقدس لا يمكن تغييره وتحرم مواجهته او محاكمته. فيما يشير التدين الى مجموع الاجتهادات التي يبتكرها الفرد او الجماعة في حراكهم لانزال ذلك الثابت المتعالي وتجسيده في فعل مرئي يمكن رصده وتحسسه فضلا عن تحركه في متغير زماني ومكاني مجسد.
واذا كان الدين يطرح المقدس بقيمته الاعتبارية الرمزية المفتوحة بطريقة غامضة وغائمة لكي يظل متوهجا في اطار التأويل فان التدين يوفر فرصة لاختبار المقدس والخوض فيه سواء من خلال تجسيد ابعاده التجريدية في حركة معلنة او من خلال اختراع نائب عنه يمكن له معايشته او استحضاره رمزيا في ذلك الوعي الأولي. الانسان الواعي الذي توصل الى معرفة معنى القول (بوجود الله) يفهم ماهية الغاية من ممارسة الدين والتي تنحصر في ثلاث غايات يمكن أن يسعى الشخص المتدين لتحقيقها، وتتمثل هذه الغايات في : أولا : تقديم العبادة والطاعة التي ينبغي تقديمها لله لأن الإيمان في الفهم النهائي هو عبارة عن الطاعة غير المشروطة. ثانيا : تحقيق الخلاص لذاته والفوز بالسعادة الأبدية عن طريق هذا الإيمان. ثالثا : مساعدة الآخرين لتحقيق خلاصهم عن طريق نشر هذا الإيمان. وبناء على ذلك فإن الإنسان الواعي حين يتحصل على وسائل معرفية عقلانية كافية لإعادة فهم المقدس لا يكتفي بما لديه من تصورات هلامية في معايشته للمقدس بل يعمد الى إيجاد علاقة مؤنسنة بالمقدس تعينه على أن يسلك سلوكا إنسانيا مستنيرا عندما يريد نشر هذا الإيمان بين الناس وهو يحتاج في سبيل تحقيق غايته تلك على الاقل إلى انسجام عقلي مع معتقده أي موقف عقلاني يقتضي وجود ترابط منطقي لصحة تعاليم دينه من أجل أن يكون اتباعه لذلك الدين وممارسته له في سبيل تحقيق غاياته منطقيا. هنا يصير الايمان بتلك التعاليم مرنا متسامحا ويستطيع المؤمن المتسامح ان يرى الاخر المختلف شرطا لوجوده ولو بشروط ذرائعية تكون الغاية منها ادامة الهيمنة لسلطة الدين الرسمي السائد سعيا لسد المساحات الفارغة التي تحتمها احتمالات صراع تعاليم الاديان المختلفة.
فيما يلجأ المتدين الجاهل الذي لا يملك وسائل معرفية عقلانية تعينه في البحث عن إيجاد طريقة ما لاكتشاف المقدس وتجربته للتطرف في بدائله لأنه يشعر بفراغ وجودي مخيف يؤدي حتما الى نقص في توكيد الذات فيكون بحاجة ماسة لامتلاك المقدس رمزيا ليتماهى معه سعيا وراء سد هذا النقص المقلق وهو الامر الذي يفسر لنا كيف يتطرف الانسان الجاهل المتدين في اختراع وسائل متوحشة في طريق تدينه وهو بذلك وهروبا من عقدة النقص يلقي بنفسه في وحل التطرف الإيديولوجي العقائدي دون وعي به و كل ايديولوجيا في حقيقتها (عقيدة) تكتسب قداستها من مشروعيتها الاحادية في نظر الدعاة اليها حتى ليغدو الايمان بها والدعوة اليها واجبا اخلاقيا ، ومن هوامشها الوجدانية التي تجعل الاتباع وغالبيتهم من الجهلة ينظرون اليها بوصفها حلا اوحدا نهائيا لا يمكن دحضه فتشتبك في تكوينها عناصر عقلية هامشية تكون في أدنى درجاتها من التأثير وعناصر عاطفية تكون هي الاصل والاساس وفي أعلى درجاتها تأثيرا وامتزاج العناصر العقلية مع العناصر العاطفية ينتج سلوك الافراد والجماعات التابعة التي تنتمي الى هذه الايديولوجيا ويتغلب في النهاية عند الجهلة من المتدينين النزوع العاطفي على النزوع العقلي فيكون السلوك بوهيميا يعمد الى ردم المسافة مع الاخر بأسباب غير عقلانية وغير منطقية فيغدو الاخر حينئذ مجالا عدوانيا حتميا لحركة الاتباع في الترويج والدعوة لنشر الإيمان بالمعتقد فيسود العنف ليفسح الطريق أمام الإكراه إذ لا طريق غيره لإجبار المختلف بعد أن يعجز الإقناع الإيديولوجي في تنفيذ مهمته. والكارثة أن المجتمعات المؤدلجة تزداد انغلاق مع ترسخ سلطتها السياسية القائمة على العقيدة.