كما في شباط المبارك 2011، حين لجأت الحكومة الى توجيه الشكر ـ ليس من كل قلبها ـ للمتظاهرين، والى ترشيق الوزارات، والى بث جلسات مجلس الوزراء، والى اعلان مناورة الـ 100 يوم، نراها اليوم، حكومتنا ذاتها، تعيد السيناريو ذاته، وبعرض تمثيلي، تشكل لجنة حكماء وتطلق سراح 11 سجينة وحدثين خلال عطلة الميلاد والاربعين، تصوروا في العطلة!!، وتقرر نقل سجينات إلى محافظاتهن، وحتى عملت على إطلاق سـراح سجينات متهمات بجنـايـات، وإطلقت سراح ألف معتقل، مع اعتذار علني من نائب رئيس الوزراء، الذي أعلن ـ أيضا ـ الإفراج بكفالة ضامنة عن ألف معتقل آخر.
كما أفصحت الحكومة عن عودة 30 ألف بعثي إلى وظائفهم، واحالة 37 ألف رجل أمن قمعي إلى التقاعد، وان المشمولين بهذه الدعوة من: الامن العام، المخابرات، الامن الخاص، الحمايات الخاصة، الامن القومي، الامن العسكري، والاستخبارات العسكرية.
ما يعني، أن حكومتنا العتيدة لاتخطو خطوة واحدة باتجاه العدالة وسيادة القانون واشاعة الحريات الا رغما، فمتى ما كان ضغط شعبي عليها نراها تذعن بل وتتمسكن وتتذلل وتتنازل بشكل لا ينسجم مع هيبتها، وطبعا لأننا نعرف البير وغطاه فانها تتفنن للحفاظ على الكرسي كي لا يطير ذات اليمين أو ذات الشمال.
ان حكومتنا فقدت ثقة الناس بها، حتى صار الكثير يترحم على الماضي رغم سواده، وصار الكثير يقسم بأغلظ الايمان أنه لن يذهب الى شط الحبر البنفسجي ثانية، ويوما بعد يوم بدأت الحكومة تفقد حتى حبّ الناس واحترامهم لها، بسبب تردي الخدمات وعلى الاغلب انعدامها، وبسبب شحة البطاقة التموينية والتآمر الحكومي عليها، وبسبب البطالة ورسوم التعيين التي بلغت دفترا امريكيا للدرجة الوظيفية الواحدة، وبسبب عجز أهل العقد والحلّ من حلّ العقدة السياسية التي لا تحتاج منهم ـ وهم علية القوم ـ سوى احترام الدستور وتقديم التنازلات والقليل من حبّ العراق.
ولأن حتى هذا القليل لم يعد متوفرا لديهم تجاه العراق، فلا يسعنا الا أن نستنجد بالرصافي، فعن أستاذنا حسن العاني، عن مصدره، أن شاعرنا معروف الرصافي كان على خصومة مع الوزير توفيق السويدي، وقد عمد أصدقاء الطرفين الى مصالحتهما، فأقام أحد الاخيار من ذوي الجاه واليسار والطرافة وليمة كبيرة، دعا إليها الرصافي والسويدي مع كبار شخصيات بغداد، وفي أثناء الجلسة وتبادل الأحاديث، قال أحد المدعوين مخاطبا السويدي عن قصد: معالي الوزير، شلون حال الدنيا والأصدقاء وياك؟، فردّ عليه السويدي غامزا: (الدنيا مو خوش دنيا، بس المهم الواحد يسوي “معروف” ويشمره بالشط).
ونطق مفردة (معروف) بصوت عال بحيث سمعها الرصافي، فأدرك الرصافي أنه المعني بهذا المثل الشعبي، وأن السويدي يستفزه قاصدا، فبلعها الرصافي وسكت، وأجبر نفسه على عدم الردّ لانه في وليمة صلح، ولكن فجأة التفت الشخص عينه، ووجّه السؤال ذاته الى الرصافي، قائلا له: أفندينا، انته شلون حال الدنيا وياك؟،، فما كان من الرصافي إلا أن يقتنص الفرصة، فعدّل سدارته وأجاب باسترخاء: (عمي الدنيا خوش دنيا….. بس “توفيقنا” طايح حظه).