أهداني الأخ الشاعر عبد الباسط إغبارية من أم الفحم مشكورًا، ديوانه “تلك السيدة، ذلك البيت”، الصادر هذا العام 2021 عن دار الرعاة في رام اللـه، وجسور ثقافية في عمان. جاء الديوان في 116 صفحة من الحجم المتوسط، بطباعة أنيقة وتصميم بديع، ويضم بين طياته مجموعة من النصوص السردية واللوحات النثرية والقصائد والومضات الشعرية والرباعيات، التي تذكرنا برباعيات الخيام، ورباعيات الشاعر المهجري إلياس فرحات، ويهديه إلى “كل من يجد في هذه النصوص حرفًا، أو كلمة، أو سطرًا أو قصائد تنوب عنه، منه وإليه”.
ولا أخفي عليكم ما أن بدأت بقراءة نصوص هذا الديوان لم أتركه حتى فرغت منه بجلسة واحدة، فقد لمست شفافية الكلمة ونقاء الحرف وصدق الإحساس والجمالية التعبيرية والفنية. ولعلني اتفق بما قاله الاديب المغربي محمد بنميلود في التقدمة: “الورق مشتل والشاعر فلاح. بعد عرق وكد تزهر القصائد وتثمر، كذلك هي قصائد اغبارية التي تعرش مكانها بهدوء ورصانة في الشعرية العربية الحديثة، وهل من سر وراء ذلك سوى خصوبة اللغة الأنثى أمام معول الشاعر، اللغة المرأة والأرض المرأة، الحب الذي لولاه لظل كل شيء قاحلًا: أنا منذ صار قلبي قابلا كل صورة شسّعته المحبة بأكثر من سؤال.. من سحنتك أتهجأ فصول أميّتي وأنا كاتبك المفهوم بشتى اللغات.. إنه الشعر الذي حين يتحول إلى خفقات قلب ينتصر رغم الغيوم الداكنة والفيضان الذي تراه يهطل الآن باردًا على المخيمات والمنافي”.
وخلال جولة في نصوص الديوان نستشف إعجاب بشعرية مبدعة، مرتبطة وملتصقة بالمكان الفلسطيني والفحماوي، اشتغلت على نصوصها بدأب وجهد عميقين، تميزت بإيقاعها وصوتها العالي تجاه الحياة، مشحونًا بإيقاعات تصحبها استعارات لغوية متفجرة، وتأخذ من معين يحفظ للإبداع النثري والشعري السردي سبكه ونسجه، وأخيلته، وإيقاعه، وصفاء ديباجته. وتمضي كتاباته في دائريتين متداخلتين، الدائرة الأولى الحس الوطني والطبقي، والدائرة الثانية الحنين للماضي والتعلق بالمكان، حيث يكثر من ذكر الأمكنة في نصوصه الإبداعية، الي يتغنى من خلالها بالوطن والتراب الفلسطيني والإنسان والتاريخ والجغرافيا، وسنابل القمح، ويتوق للماضي الجميل، وتضاريس الطفولة العالية، وذكريات الصبا والشباب، وصيد ديوك السمن والطيور، والتجوال في الروابي الخضراء بين أشجار السريس والبطم والزرد.
ويظهر المكان واضحًا في نصوص الديوان، حيث تتعمق هوية عبد الباسط التاريخية الكنعانية الفلسطينية، ومن خلالها يترسخ انتماءه للأرض الطيبة والوطن الغالي وارصفة مدينته أم الفحم، واستحضار قرى الوطن المهجرة والمدمرة التي لم يبقَ منها سوى أطلالها، ولنقرأ هذه القصيدة التي استوحاها من زيارة برفقة الأستاذ أحمد محمود إغبارية لقريتي “صبارين” و”أم الشوف” الفلسطينيتين المهجرتين، حيث يقول:
تقول الأساطير إنّ
المطر كان يُفرح أجدادنا الفلّاحينَ
المحاشرينَ الأفقَ على ما خلف الأفق،
أصحاب الأرض بدلالة أعينهم النازيّة المُنتزّعةِ من سحنات
الصقور والذئاب البريّة.
وإنهّم كانوا يغافلون الغيماتِ وينسلّون الى مهاجع الشموس
يخصبونها ويغمّرون منها حزم الأشعة ليحيكوا منها أسمار
الليل وأقواس قزح.
هذا المطر المتنشّق رهبة الأعالي
الصاعد من أعلى سماء إلى أطهر أرض،
يرتدّ حائرًا يبكي…
من يتعمّد متوضئًا بأعنابه الآن في “صبارين” و “أم الشوف”،
من…؟
أم تراه يهطل الآن باردًا على المخيّمات والمنافي..؟
مطرُ المنافي والمخيّمات بارد حتّى اللحد!
بارد حتّى اللحد!
والتركيز على المكان في نصوصه واشعاره يعطيه عمقًا وغزارة، وخصوبة انتمائية وطنية تتوسع من دائرة الانتماء في عمق الإنسان، خصوصًا الفلسطيني، وتقوي من أبنية الوعي الانتمائي لديه، وتشحذ في داخله مشاعر الوطنية، والعشق الصوفي الوجداني الذي يكشف العلاقة الاتحادية بينهما. واعترف لكم بأنني عشت مع كل نص من نصوص الديوان وسردياته الجميلة، ورحت أتساءل بيني وبين نفسي: من هو كاتب هذه النصوص هل هو عبد الباسط أم أنا عبدكم الفقير.؟! وهل استغفلني يراعي وتسلل وراء ظهري وراح يعانق آلهة الإبداع عند شاعرنا الجميل عبد الباسط إغبارية الذي كنت قرأت أول كتاباته في مجلة “الشراع” التي كانت تصدر في الأراضي المحتلة في الثمانينات من القرن الماضي، فقد تقاطعت الأحداث والمشاعر والمشاهد والذكريات ودروب الآلام في هذه اللوحات الماتعة والنصوص السردية الخلابة، مع الألوان والمواقف والتواريخ، إذ أنني مررت بشوارع وأرصفة وازقة أم الفحم وأعرف حاراتها وطلعة الميدان، كما وأعرف صبارين وأم الشوف التي شربت الماء من عينها.
وتكمن براعة عبد الباسط وتميزه من خلال امساكه باللغة وتوظيفه لها توظيفًا بارعًا يبرز من حلال جماليات نصوصه وقصيدته، بما فيها المكان. والتوحد بين اللغة وصدق الشعور والإحساس هو من شروط العمل الأدبي الناجح، واللغة هدف يرمي إليه، وينتقي منها ما هو جدير بإبداع مضامينه، ويرتاح له الذهن، وتدركه النفس. فلغته الشعرية تبتعد بالمفردات عن معانيها المعجمية إلى الإيحاء وابتداع العلائق والوشائج بين الإنسان والمكان.
ويمكن القول، أن ديوان عبد الباسط إغبارية يشكل إضافة نوعية للشعرية الفلسطينية والمشهد الأدبي الراهن، حيث أن نصوصه المتضمنة فيه تكشف عن نضج وعمق شعري في كتابة القصيدة النثرية السردية والشعرية، سواء على مستوى الشكل الذي اختاره بوعي كبير، من ناحية لغته الإيحائية الشفيفة، ومعجمه ذو الدلالات المنفتحة، ورموزه الشعرية المكثفة، وجمله السردية المنسقة، وإيقاعاته المتنوعة، وأسلوبه الكتابي البلاغي الذي ينزع في صياغتها وتركيبها وتأليفها منزعًا شعريًا حداثيًا، من خلال توهج استعاراتها وكثرة انزياحاتها، أو من ناحية المضامين والوجدانية والوطنية والإنسانية والوصفية والمكانية والزمانية، التي عبر عنها في هذه التجربة الإبداعية بشكل متميز، التي يرتاد فيها آفاقًا فلسطينية وإنسانية واضحة، وما يميزها من وشائج عميقة تجمع بين الطاقة الإبداعية المتمثلة فيه، والقدرة الشاعرية المتوهجة التي يمتلكها، أضف إلى ذلك الرؤى الشعرية العميقة وما تطفح به من أبعاد جمالية شفيفة. إنه ديوان يستحق أكثر من قراءة تبصرية، ومتابعة نقدية، ونرجو للشاعر عبد الباسط إغبارية مزيدًا من العطاء والإبداع والتوهج الشعري وبانتظار الإصدارات القادمة، وهي بلا شك قادمة.