يلفت نظري دوماً وانا اقرأ في مقدمة ابن خلدون كلمة (طبائع)، فهو يوردها في مواطن عدة تثير الاهتمام.
والطبائع المقصودة ـ على اختلاف ميادينها ـ يمكن ان تعرّف بمعاني عدة، منها الخصائص والسمات، أو السلوك بين المكتسب والموروث، وما يجُبِلَ عليه المرء ويتصف به، ومن ذلك كله جاء اسم (علم الطباع) والذي يدور حول وصف الشخصية وقراءتها، مما سيكون لنا معه وقفة تفصيلية لاحقة.
وأهمية الموضوع لدّي لا تتعلق بولع شخصي قديم بقراءة الشخصيات وتكوينهم، او محاولة رسم صورة قلمية عنهم فحسب، وإنما لما المسه من التنوع اللامحدود لشخصيات الإنسان، وعدم الانتباه إلى هذا الجانب، ومحاولة تعميم السلوك الواحد للمظاهر والظواهر المختلفة.. حتى بات الداء والدواء يكمنان في طبائع الناس والأشياء على حدٍ سواء.
كلما قلت انك فهمت الناس فاجأوك بما لا يخطر على بال، وكلما شعرت انك امتلكت زمام مبادرة التعامل معهم وصلتك رسالة عملية مفادها ان ذلك ما زال مبكراً، بل من الملفت كذلك انك ترى الاجيال الماضية مكررة في أجيالها اللاحقة، شكلاً وطباعاً وسلوكيات، وسمات تمتد لتشمل المجتمعات كافة دون مبالغة، وليس من باب الانتقاص او التنمر ـ الذي غدا قيداً معاصراً لتفكيك تلك الظواهر ـ القول بان شعباً ما سمته الكسل، وآخر ضيق التعامل، وثالث البخل حتى في المشاعر، ولنا في تراثنا نصيب، فقد كان لرواد الرحلات قديماً وقفات مهمة في وصف الشعوب، فإذا ما وضعنا تأثيرات النفس البشرية على حيادية الوصف جانباً امكننا النظر ملياً في ما قالوه واستفدنا في دراسة تطور المجتمعات.
لذلك نقول إذا كان رضا الناس كافة غاية لا تدرك في اشارة واضحة إلى ذلك التنوع والتمايز، فإن محاولة إدراك سماتهم وطباعهم مهمة ضرورية لا تعطّلها استحالة الارضاء، كونها تمثل مفاتيح التعامل والمعالجة للمشاكل المستعصية، وفي ذلك تبرز قيمة وأهمية علم الاجتماع والنفس سوية وضرورة دراسته، فليس ممكناً محاولة تطبيق النظريات والأفكار والمشاريع دون إدراك البيئة التي تنفذ فيها، مثلما أن امتلاك قاعدة البيانات الدقيقة عن شخص او مجتمع ما يمنحنا القدرة للولوج إلى عوالمهم بل ومحاولة التعديل والتصحيح التي تبقى متاحة مهما احتاجت من جهد ووقت.
نعم ليست المسألة هينة او يسيرة ولكنها واقع ولازم، وهو أمر يحتاجه الفرد البسيط في تعامله اليومي اولاً، ويحتاجه كذلك الحاكم في ادارة البلاد، بل هي تمنح المرء ــ اذا درس الامر بشكل شامل ومتوازن يجمع بين الفراسة والقوانين العلمية وغيرها ــ القدرة على استشراف نهايات فعل ما، وأين سيصل بالمرء والبلد المطاف.
تلك طبائع الأشياء.. فادركوها.. وافهموها.. وامتلكوا بها تشخيص الداء ومعرفة الدواء.