18 ديسمبر، 2024 8:14 م

الخلافة واﻷختيار

الخلافة واﻷختيار

إن ظاهرة الاختيار مقدمة ضرورية وأساسية في جعل الخلافة للإنسان، وهذا الجعل كان سبباً ﻹعتراض الملائكة أو إشكالهم!!
كما جاء في سورة البقرة ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )) (البقرة:30)

والذي نفهمه من هذا الحوار أن هذا الاعتراض كان من قبل الملائكة بمقدار علمهم القاصر!!! وإن كان هذا الاعتراض له منشأ انتزاع كما يُعبّرون في علم أصول الفقه، وهذا المنشأ هو أن الإنسان قد يخطأ في الاختيار فيتجه نحو مصلحته الشخصية وفق ما يظهر له وليس وفقاً للمصلحة الواقعية والنفع الحقيقي…

يضاف الى ذلك الاختيار الذي يكون تحت توجيه وإلحاح النفس الأمارة وشهواتها كما لو يختار الإنسان الزنا أو شرب الخمر أو الاختلاس او السرقة او القتل مع إدراكه لقبحها ومفسدتها ولكنه اختار خضوعاً لسطوة النفس الأمارة…

بل يتعدى الأمر أكثر من ذلك بسبب هذه الاختيارات الخاطئة وبالتالي تتدهور علاقة الإنسان بأخيه الإنسان فالحروب والجرائم والظلم والاضطهاد والتعسف كلها شواهد لتدهور هذه العلاقة نتيجة لهذه الاختيارات الخاطئة…

فالإفساد في الأرض وسفك الدماء هي نتائج لظاهرة الاختيار ومن هنا جاء اعتراض الملائكة لأنهم انتزعوا هذه الحقائق من واقع الإنسان فكيف يكون في الأرض خليفة؟

ولكن ليس من حق الملائكة الاعتراض وهذا ما أستنكره عليهم السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) في أحد خطب الجمعة وهذا يدل بوضوح إلى درجة اليقين والتسليم عند السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) وأيضاً قوة القلب في إعلان هذا الاستنكار وليس غريباً عنه وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم…

وجواب الله على الملائكة نفهم منه أن اعتراضكم على هذا الجعل هو بمقدار علمكم القاصر، ومن هنا يمكن أن نتعلم درساً مهماً وخصوصاً في مجال الاعتراض والإشكال سواء كان في طلب العلم أو في الحياة الاجتماعية…

إن الاعتراض قد ينشأ عن علم ولكن هذا العلم هو بمقدار المعترض والمستشكل وبالتالي لابد من إفساح المجال وإعطاء الفرصة إلى المعترض عليه في الدفاع عن نفسه….

فإذا كان المعترض عليه أكثر علماً من المعترض(المستشكل) في نفس المسالة فينبغي الاستماع إلى الجواب، وقد يكون هذا الجواب مكملاً لعلم المعترض، فقد تكون القضية بين المعترض والمعترض عليه هي تفاوت في العلم لا أكثر ولا اقل….

وقد ضرب لنا القرآن أروع مثال في قصة موسى مع العبد الصالح فقد اعترض موسى(ع) على العبد الصالح (ع) ثلاثة اعتراضات، بالرغم من أن العبد الصالح قد نبّه سيدنا موسى(ع) بأنه سوف لن يستطيع معه صبراً والعلة في ذلك كما أشار العبد الصالح(ع) ((وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)):(الكهف:68)

وهذا يؤكد أن الكثير من الاعتراضات ناشئة عن قصور في العلم….
إن الله أشار إلى الملائكة بأنه يعلم ما لا يعلمون وهل هذه الإشارة هي مجرد تذكير لهم لشيء هم يعتقدون به أم تعليم لهم ؟
بالتأكيد انه تذكير لهم وإلا يلزم منهم الجهل في المعتقد أي أنهم يجهلون بأن الله اعلم منهم وهو مخالف ﻹيمانهم بالله…

فالملائكة تجهل الحكمة الإلهية في جعل اﻹنسان خليفة في الأرض وهي اعترضت على ضوء المعطيات المنتزعة من اختيار الإنسان ما هو خطأ أو مصلحة ظاهرية تبتعد عن المصالح الواقعية…
فالملائكة تجهل حقيقة الإنسان أو أنها لا تدرك ما جعله الله لهذا الخليفة من قابلية و استعداد تؤهله للخلافة…

ولذا جاء في سورة البقرة ((وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )) (البقرة:31) .
ولذلك صح هنا القول أن العبادة تدخل كقانون مقوّم لظاهرة الاختيار لان الله جعل الدين قانونا تتكامل فيه ظاهرة الاختيار وهذا الدين يتم تبليغه عن طريق النبوة…

وهذا القانون مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعاد فالإنسان المختار حينما يختار سفك الدماء أو الفساد في الأرض أو يختار العمل المخالف للشريعة فيكون مستحقاً للعذاب والعقاب…

فظاهرة الاختيار ليست جزافية تترك للإنسان أن يختار ما يشاء حتى لو يقتل الناس جميعاً وإنما يبقى مختاراً لأنه سوف يختار بدون أن يجبر أو يفسد!!!!

وتأريخ الإنسانية مليء بالقصص والحوادث التي هي عبارة عن اختيارات عشوائية من قبل الإنسان دون الرجوع إلى مرشد أو موجه أو قانون تنمو فيه ظاهرة الاختيار….

وعلى العكس من ذلك فإن تأريخ الانسانية تحفل بالكثير من القصص والمواقف التي من وراءها اختيارات رشيدة وصائبة ﻷنها خضعت لقانونها الذي تتكامل معه