في حالة المجتمعات المستقرة سياسياً وأجتماعياً بمعنى أن جيلاً قد تربى على المُثل الأنسانية العليا والأخلاق الحميدة يسلّم مؤسسات الدولة والوطن عامةً الى جيل آخر تربى على قيم المؤسسة السياسية والأجتماعية التي سبقته , لكن في مجتمع كالعراق للأسف قد ترعرع على المُثل الدموية المنخفضة وكثير من الأمراض الأجتماعية التي زرعها البعث في مدارك الناس وممارساتهم – فبناء العراق الآن يكون بتهيئة المجتمع وأعادة هيكلته وفق معايّر أنسانية مدنية تختلف عن أفكار البعث المتخلفة – والجائع والخائف والمشرّد والعاطل عن العمل من الصعب أقناعه وحمله على أن يتحلّى بالمواطنة الصالحة أولاً تحقيق رغباته أو حاجاته الأساسية كي يتقبل فكرة المواطن الصالح .
لأن فكرة المواطنة هو عقد أخلاقي بين الفرد وكيانه السياسي وجميع ما يتعلق بهذا الكيان من مؤسسات أقتصادية وأمنية وأجتماعية , وهذه الشراكة لاتُبنى بشعارات سياسية ووعود أنتخابية بل تتغذى وتترعرع عندما تجد الضروف المواتية للخصوبة والنماء .
ومهما ناضل السياسي لأقناع جماهيره على أحترام وأ لتزام بنود القانون أن لم تجد الجماهير أن تلك القوانين قد وفّرة وحمت مصالحهم وأمنهم الجنائي والأقتصادي – ستكون على قطيعة مع تلك القوانين وباحثة دوماً عن مصدر آخر لحمايتها وحماية مصالحها , ومن هذه الجزئية نجد في المجتمعات المضطربة سياسياً أو تلك التي تحكمها ديكتاتوريات نجد زعامات قبلية أو دينية تتحولق حولها مجاميع لتحمي نفسها ومصالحها , والعراق المثال الأوضح على تفشي ظاهرة الألتزام بقانون القبيلة والولاء لها يتقدم على مفهوم الوطن والمواطنة . ويخيّل للبعض أن المجتمع العراقي يعود لأصول قبلية عشائرية أو دينية أي يصنّف على أنه مجتمع ( عشائري متديّن ) !
رغم الدور الأيجابي الذي لعبته الزعامة العشائرية في حفظ النوع والأمن والدولة عموماً – وللقبيلة الأثر البالغ في حماية الدولة العراقية من الأنهيار في أتون حرب أهلية عنيفة . نعود الى أصل الأشياء لتثبيت هذا الرأي . القانون يقف على عمودين العقاب والثواب ! من يتعامل وفق القانون سيكون محميّاً ويحضى بفرصة عمل ومساحة كبيرة من الحرية , ومن يخالف القانون سيقع في تبعات قانونية قد تكون غرامات مالية أو سجن أو حتى عقوبة القتل .
فحقيقة أتباع القانون ليس التمدّن بل الخوف من العقوبة , وهذه الحالة الغريزية تتطوّر تلقائياً كلما أستمر الفرد بخوفه حتى تتحول الى مَلَكة وثقافة فرد ثم ثقافة مجتمع ! هذه النمطية تكون في الدول التي تملك قانوناً , أمّا دولة كالعراق فالقانون مجسد برئيس الدولة , لأنها أنظمة ديكتاتورية فرديّة , فليس ثمّة قانوناً وضع لحماية المجتمع ومؤسساته , بل هنالك أنظمة وقوانين وضعت لتأبيد سلطة الحكم الأستبدادي وتقويته , فلا تهتم تلك القوانين بالمجتمع والعمل على تطويره أجتماعياً وأقتصادياً , لأن القاعدة تكون معكوسة فالمجتمع يعمل لأجل السلطة وليس كما في الدول الديمقراطية _ الأقلية السياسية تعمل لأجل الأغلبية المجتمعيّة .
وهذه الحالة السياسية الشاذة تولّد تململ أجتماعي لأن الذات الأنسانية السوية لاتتغذى على النمط الأستبدادية التي لاتلبي حاجات المجتمع وتطلعاتهم وهمّها الوحيد هو البقاء ماسكة ومتحكمة في السلطة والثروة .
ومن هنا سيبدأ المجتمع في البحث عن بدائل لحمايته وحماية مصالحه لأن الفرد كائن أجتماعي ومن هنا ولدت فكرة اللجوء الى التكور حول الذات لصنع أقطاعيات قبلية كبدائل عن النظم الأستبدادية المنشغلة في سلطتها ونفوذها . فالنظرية القائمة هي – في حالة وجود أنظمة ديمقراطية تنكمش سلطة الزعيم العشائري أو القائد الحزبي لأنه ليس من حاجة لوجودهم في حالة وجود القانون الجيد – وتكون النتيجة عكسية في حالة الأنظمة الأستبدادية الفردية .
وبعد سقوط النظام البعثي الديكتاتوري الفردي – طفت على السطح مشايخ دينية وزعامات حزبية وقيادات سياسية أجتمع حولهم كل من يبحث عن عمل أو مال أو جاه أو لأجل الحماية ! وسبب ذالك عاملين – الأول عدم وجود حصانة أخلاقية لوجود حكم ظالم فاسد عمل على تفسيخ مفهوم المواطنة الصحيحة لفترة عقود وهو يعمل بتركيز ونشاط لأجل ترسيخ هذه الثقافة الضحلة في المجتمع . والسبب الثاني . السبيل الوحيد للحصول على فرصة عمل أو الشعور بالأمن هو لابد من اللجوء لتلك الزعامات والمشايخ التي نصّبت نفسها كبديل عن القانون .
ولبناء مجتمع عراقي يقترب من المثالية هو التخلّص من الموروث السيئ في السياسة وهو عدم أستبدال القوانين بأشخاص ينصبون أنفسهم بدائل عنه .
ورفض فكرة أن الحزب السياسي هو التجسيد الواقعي لطموحات الفرد ! فأن وجّهنا سؤالاً لأي من أتباع حزب عمار الحكيم مثلاً – ماهي الطموحات التي كانت في نفسك فأتى حزب عمار الحكيم ليجسدها واقعاً يتحرك أمامك ؟ الجواب سيكون يكفي أن الزعيم ينتمي (قهريّاً) الى أسم يمثّل رمزية أحترمها ! رغم أن هذا المسكين الذي قبل أن يكون مواطناً لحزب وليس مواطناً ينتمي لدولة – أنه يستطيع أن يحترم نسب زعيمه كما الكل تحترمه لكن من خارج دائرة العبودية المطلقة والصنمية في التفكير .
وهذا المعنى يتمدد على كافة الأحزاب الوراثية التي نصّبت نفسها كبدائل عن القانون بل تعدّت الى ماوراء القانون فوصل الأنقياد الى تلك الزعامات الى صلب العقيدة الدينية فتحوّل هذا المثال السياسي أو الحزبي الى تمثال يُسبح بحمده !
ونخلص الى القول أن العراق هو جغرافية أجتمعت عليها ولاءأت حزبية وعشائرية – ففي الشمال منه يتحكم آل برزان في السلطة والثروة والقرار السياسي فنجد نيجرفان البرزاني رئيساً للحكومة وقوباد الطالباني نائباً له , وهما الأثنان ينتميان الى مؤسسي الحزب الديمقراطي الكردستاني والآخر الحزب الوطني الكردستاني ! وفي المحافظات التي تتديّن بالمذهب السني نجد آل النجيفي يمثلان السلطة الدينية والسياسية لتلك الأقوام . وفي الوسط والجنوب حزب عمار الحكيم وتيار مقتدى الصدر .
فأي حكومة تستطيع وسط هذا الصخب الحزبي أن تسمع الناس قانونها ودستورها وأطرها الديمقراطية ؟
العراق بحاجة الى ثورة لطرد تلك النمطيات وأستبدالها بدولة تكنوقرط ومؤسسات برغماتية – لتحرك هذا الكساد الذهني والنفسي الذي أحاط بالمجتمع من جراء تلك النمط التكرارية في الحكم .
والحل الأمثل والأقرب الى التعقّل هو العودة الى نتائج الأنتخابات التي أنتجت قراءة واعية لما يريده الفرد الذي أنهكته حكومة الأستبداد البعثي والآن تستنزف أمنه وثروته حكومة المقبولية الوطنية التي هي تجسيداً واضحاً لحكومة الأقطاعيات الحزبية ..
( لابد أن أنوه الى أن كل الرموز الحزبية السابقة قبل سقوط البعث هي محل أحترامنا وتقديرنا لأنها قد قدّمت الكثير لأجل الأنسان العراقي )