يُولَدُ كلُّ إنسانٍ ويولدُ معه الأملُ بأنْ يحيا إنسانًا ، يمارسُ دورَهُ في بناء الحياةِ بعيدًا عن عالم الذُلِّ والعبوديَّةِ ، ويدبُّ فيه الشعورُ لتذوقِ طعمَ الحريةِ التي تنسجمُ مع ذاتهِ بوصفهِ إنسانًا ، وبين الحينِ والآخر تتعالى أصواتٌ تنادي بالحريةِ صدقًا أو ادعاءًا ، وهو أمرٌ طبيعي بعد أن قطعَ العراقُ شوطًا نحو مستقبل الانعتاق من الظلم وامتهان الكرامة.
ولكن حينما تكممُ الأفواهُ عن البوحِ بما تريد عبر سياسة التسقيطِ والإقصاءِ والتهميش ، وحينما تختلسُ الأقلامُ حروفهَا ويعود صدى كلماتِها إليها ولا من مجيب ، وحينما يرجعُ الجلادُ بسياطه لعهده القديم فأيُّ طعمٍ للحريةِ أبقوا لها .
تتسارعُ الأحداثُ وتتسابقُ الفصولُ وتهوي بنا نحو نهايةٍ يُرادُ لها أن تكونَ هكذا ، فبعد أن جثا النظام المقبور على صدر الإنسانيةِ وأهلك الحرث والنسلَ ، والتحقتْ حريةُ الفكرِ بالمليك الأعلى ، عاد الحلمُ لنا مجددًا يُربِّت على أعتاب بلدي بالحريةِ الموعودة ، ويومًا بعد يوم تزدادُ قناعتي أن الحريةَ أمستْ حبرًا على ورق ، إذ إنّ وجودَها إنما يتحقق ويتمثلُ حينما تكون خياراتُ اتخاذ القرار المناسب مفتوحةً أمام مَن ينشدها في سبيل إقامةِ حقٍّ أو دحضِ باطلٍ أو بناءِ إنسانٍ أو تحرير وطن ، ألا أن الحال وما نحن عليه اليوم لا يتيحُ لنا أكثر من خيارٍ واحد ، إذ هي خياراتٌ من نسج الخيال وما هي في حقيقة وجودها سوى الاتجاه إلى نهايةٍ واحدة ، فحينما تسوقُنا الأحداثُ نحو مسلسل الخنوع والاستسلام والشعور بانهزامية الذات ، نحو خياراتٍ كلها أوصدتْ أبوابَها ولم يعُد هناك إلا خيار واحد بحسب ما رسموه وخططوا له ، إذن هذا نقضٌ للحريةِ المزعومة ، وهو ما يعني أن الحريةَ لا حريةَ فيها ، لأن سياسة خلط الأوراق حتى الوصول إلى حالة الفوضى العارمة في كلِّ أبعادها قائمةً على قدمٍ وساق بدءًا من مواقع التواصل الاجتماعي التي تنطلق فيها النفس بكل انفلات توهمًا منها في ممارسة وجودها وصولاً إلى كيان المؤسسات الحكومية التي يعيث فيها الفاسدون ، علاوةً على ذلك ما آل إليه عالم الذهن بعد أن أضحى مزدحمًا في ظلِّ نتاج حرية الأقلام المأجورة التي باعت ضميرها تحت مسمى الحريةِ بثمنٍ بخس ، وما أفرزته من إسفافاتٍ وصراعاتٍ لهو أشدُ وحشةً من ظلمة القبر ، ومن ثمَّ فأن هذه الحرية إما أن تكون حريةً تُفضي بنا إلى طريقٍ مسدود لا خيار معه ، أو أنها خلاقةٌ للفوضى بكل أبعادها .
ويبقى الأمل يحدو بنا لحريةٍ تجددُ احترامَ الإنسانِ للإنسان ، تقول الكلمةُ في ظلِّها ما تريد من دون ظلمٍ للآخر أو إخفاءٍ للحقيقة ، حريةٌ نبني معها وطنًا لايميِّزُ بين أبنائه على أساسٍ طائفيٍّ أو عرقيٍّ أو حزبيّ ، وإنما وطنٌ يضم الجميع ويحيون فيه بسلام ، وما يتحقق كلُّ هذا إلا إذا سادت عقولَنا ونفوسَنا وسلوكَنا حريَّةُ مَن لايعتدي على حريات الآخرين ، حريةُ النظام التي تحتضنُ الوعي والأخلاق