2- البابائية
فرقة صوفية تنسب الى (بابا اسحاق) الكفرسودي التركماني، وقد كثر أتباع البابائية في الاناضول إبان القرنين السادس والسابع الهجريين/ الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، خاصة في شرق الاناضول و وسطه، حيث تقطن القبائل التركمانية في المناطق الجبلية الوعرة البعيدة عن النفوذ السياسي والديني للحكومة السلجوقية، ويذكر فؤاد كوبريلي زاده أسباب تمرد هذه القبائل ويعرفنا بملامح حياتهم الدينية: “إن إسلام هؤلاء التركمان لم يكن سنيا خالصاً كإسلام أتراك المدن ولكنه كان ملفقا من التقاليد الوثنية التركية القديمة(=الشامانية) ومن عقائد غلاة الشيعة … وكان مشايخ هؤلاء التركمان وباباواتهم – كما كانوا يلقبون – يتعرضون بسبب قيافتهم العجيبة وعاداتهم المنافية للشرع، وحياتهم المنحلة التي تذكر بشامانات الترك القدماء – لحملات شديدة من الصوفيين السنيين، ولكنهم كانوا مع هذا هم المنظمين والمسيطرين على الحياة الروحية في القرن وبين العشائر ويرجع أصل هذه الحركات إلى الطرق القلندرية واليسوية؛ لما في الاولى من غرابة وبدع وشيعية”.
زادت الهوة اتساعا بين هذه العشائر وكافة المسلمين، وساعد على اتساعها التقاء أهداف الصليبيين والارمن والمغول في بث الفرقة بين المسلمين حتى يتسنى طردهم من الاناضول، وأى فرقة اشد من أن يتشرذم المسلمون الى فرق وشيع يغتال بعضها بعضاً، إذ كانت حصن كيفا وآمد وماردين(=واقعة في جنوب شرق تركيا الحالية) معقلاً من معاقل الخوارج الذين ظلت بقاياهم أثناء حكم الاراتقة وخاصة في المناطقة الجبلية، وكانت ماردين ودياربكر وبلاد الارمن الواقعة بين حدود تركيا و روسيا الحالية من معاقل اليزيدية، ونتيجة لذلك كاد المسلمون في الاناضول أن يلقوا نفس مصير المسلمين في الاندلس؛ فبينما كانوا يخوضون حرباً ضد الفناء على يد الصلبيين كان اتباع هذه الفرق من جانب والباطنية من جانب آخر يقيمون المذابح الجماعية للمسلمين السنة بالاتفاق مع الارمن.
أما أخطر تلك الحركات قاطبة، فتلك التي عرفت باسم البابائية. وقد اطلت برأسها في أُخريات حكم سلاجقة الروم، بزعامة (بابا اسحق 638 هـ / 1240م). وقد أشارت المصادر المعاصرة مرة الى (بابا اسحاق) بوصفه زعيماً للحركة، ومرة الى (بابا الياس) باعتباره كذلك، فابن العبري(ت683هـ/1286م)، وكان في ملطية سنة 640هـ/1242-1243م ذكر أن بابا اسحاق كان رسولاً لشيخ الطريقة، وسماه بابا فقط – الى التركمان في الحدود السورية التركية ومدينة ملطية. بينما جاء ذكر (بابا الياس) صراحة في مصدر آخر، غير أن تاريخ ابن بيبي(ت670هـ/1272م) تجعل بابا اسحاق رئيساً للحركة، وبابا الياس شريكاً له بعد قتل اسحاق والعفو عنه.
ومهما يكن من أمر فقد كان بابا اسحاق صوفياُ خراسانياً نزح من هناك بعد استيلاء جنكيز خان على بلاده وبدأت شهرته في بلاد الروم سنة628هـ/1231م. وقد سمي رئيس الحركة نفسه ببابا أو بابا رسول الله (=إدعى النبوة)، وصرح البعض من أتباعه الغلاة فيه أنه كان ( رسول الله)، وإن كان سبط ابن الجوزي أشار الى أن شعار أتباعه كان:” لا اله إلا الله البابا ولي الله “، ونقل فؤاد كوبرلو انه سمي نفسه (أمير المؤمنين)، و واضح من لقبه أنه كانَ من زعماء الصوفية الغالية من التركمان.
وكانت انطلاقته من إقليم كفرسود في جبال طوروس وبدأ يدعو لنفسه في جنوب طوروس الشرقية وآماسية وفي كل النواحي المحيطة بهما، وكان اتباعه يرتدون القلانس الحمراء ( كما فعله القزلباشية فيما ما بعد) و أردية سوداء.
انتهز (بابا اسحق) فرصة انشغال السلطان السلجوقي كيخسرو الثاني ( 634 – 644 هـ/1236-1246م ) بقتال الصليبين، ” فأمر أتباعه و كانوا كثيرين بين التركمان فثاروا في مناطق كفرسود ومرعش، وكان هؤلاء الاتباع مهيئين قبل صدور أمره بالثورة لأنهم كانوا يعلمون أنه سيعلن الجهاد – على حد قوله – في يوم ما ، وانقضت جموعهم على المدن والقرى ومعهم النساء والاطفال وقطعان الماشية يحدوهم الطمع في الغنائم والرغبة في الجنة – كما أوهمهم بابا إسحق-، وبددوا شمل الجيوش السلجوقية التي خرجت للقائهم واستطاعوا ان يسيطروا على مناطق ملطية وطوقات وآماسيا الواقعة في أواسط الاناضول، واخيراً استطاع السلطان السلجوقي أن يقمع هذا العصيان قمعاً داميا”.
والمؤرخ السرياني ابن العبري نص على أن بابا إلياس وزميله بابا إسحاق أسرا وقتلا، أما المؤرخ التركي فؤاد كوبرولو فقد ذكر أن السلطان غياث الدين عفا عن بابا إلياس.
بيد أن اخماد فتنة بابا اسحق لا يعني القضاء على البابائية كتيار اجتماعي و سياسي خطير، بل استمر نشاط الباباوات خفية؛ يعاود الظهور كلما سنحت الفرصة الى ذلك.
وبعد فشل الحركة استطاع أحد أتباع بابا إلياس(= نورة الصوفي)، أن يتقرب الى السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباذ(616-634هـ/1219-1237م) بزهده وتصوفه الذين تعلمهما من بابا اسحاق وبابا الياس، ثم صاهره واستطاع أن يفوز بإمارة منه، وورث نورة الصوفي ابنه (قرمان) الذي حقق الحلم القديم بتأسيس دولة مستقلة عرفت بالدولة القرمانية، وكانت في الواقع امتداداً سياسياً للحركة التركمانية المذكورة.
وبخصوص العناصر الفكرية للحركة البابائية فإن الباحثين يشيرون الى أنها نابعة من التشيع الباطني الذي نقله (بابا إلياس) من موطنه في خراسان، وقد بدأ منها فرارهم أمام الجيش المغولي إلى بلاد الروم. ويحسن أن نشير كذلك إلى أن حلب وأطرافها كانت موبوءة بالعقيدة الإسماعيلية ومليئة بالأسماعيليين وكذلك بأصحاب الغلو من الشيعة، ويقترن بهذا انه حتى الملك الأفضل (= أبو الحسن علي ) بن صلاح الدين الأيوبي المتوفى عام 622هـ / 1225 م، الذي كان يحكم مدينة سميساط(= بلد بابا إسحق الأول)، كان معروفاً بالتشيع مشهوراً به.
وكيفما كان الأمر فإن الإجماع يكاد ينعقد على أن الحركة البابائية كانت ذات اتصال وثيق بالتشيع الغالي، ” وبذلك تبدو هذه الدعوة شيعية الجوهر واتخذت لها المظهر الصوفي الذي كان سائغاً في المجتمع التركي وسائر العالم الإسلامي بإعتباره المظهر المقبول للايثار الأخلاقي والشكل المثالي للمسلم والزعيم”.
على أنه تجب الإشارة إلى أن الغرض الأول والأخير من هذه الحركة كان تحقيق هدف سياسي محدد هو إعلاء شأن التركمان وإقرارهم في بلادهم الجديدة بعد إكتساح التتار لأوطانهم وتأسيس دولة لهم تحت قيادة الزعماء الروحين الجدد . وينبغي أن يذكر هنا أيضاً أن الاضطراب الديني والسياسي والاقتصادي كان عاملاً أساساً في تقبل الناس لهذه الحركة واقتناعهم بحقيقتها و وجاهتها وأن فشلها عاد بالحال إلى سابق عهدها. ومن المهم أن يسجل هنا أن السلاجقة لم يتمتعوا بانتصارهم على البابائيين سوى سنتين أتى على بنيانهم بعدها سيل التتار الذي تدفق نحو الغرب، وقد أصبحت الحركة البابائية الاساس للحركة الدانشمندية، الاساس المتين الذي قامت عليه الحركة الاخرى المهمة – الطريقة البكتاشية.
المصادر والمراجع والهوامش