“تحكم البلاد من قبل الفئة الغبية التي لا تفهم ولن تفهم… ولذلك نحن دوما في حالات حرب” !!!!
كان لعواقب الحرب العالمية الأولى تأثير كبير على حال وحياة وتطور أوروبا والعالم وما زال لها أثرا لا يمحى في قلوب وعقول معاصريها والعارفين والدارسين عنها في بيان أفكار الحرب والسلام، والحياة والموت، وتنويع الأعداء والحلفاء، وإضافة إلى انهيار أربعة إمبراطوريات هي القيصرية الروسية والألمانية والنمساوية المجرية والعثمانية، وتشكيل تسع دول جديدة في أوروبا فإن عددا كبيرا من الجنود القتلى والجرحى والضباط والمدنيين والعديد من مبتوري الأرجل ومقطوعي الأيدي وفاقدي النظر والسمع والمنطق والعقل بسببية القصف المستمر وقوائم طويلة وعديدة من الإمراض البدنية والنفسية والروحية، وهي بكل ذلك تركت لأجيال المستقبل مذبحة ذاتية التدمير.
كان التأثير الأكثر إيلاما على الأشخاص الذين شاركوا في المعارك مباشرة فلفترة طويلة كانوا جالسين في الخنادق تحت نيران العدو المتواصلة وبتلك السنوات التي أفرطت وأضيعت في الهجمات القاتلة والهجمات مضادة فقدت أوروبا جيلا كاملا من شبابها، ولم يتمكن الأشخاص الذين عادوا من الحرب على التكيف مع حياة سلمية عادية جديدة فالمسألة لم تنحصر بالخوف الوحيد من حقيقة أنهم كانوا قادرين على العيش بحسب معرفتهم وخبرتهم الجبهات العسكرية، وإنما أيضا بسببية الاضطرابات الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي وقعت في الدول الأوروبية بحلول نهاية عام 1918م. كانت قد اودت تلك الحرب بحياة الملايين وحطمت أربع إمبراطوريات وحذفت وغيرت برسم جذري معالم الخارطة السياسية في أوروبا وأحضرت الأسلحة العالمية الجديدة كالدبابات والغازات السامة، واستولت على مصير الكثير من الشباب من أوروبا وبعد أنتهاء المعارك أعادت افراز “الجيل الضائع” المشلول والمرهق.
كان لتلك الحرب طابع خاص ميزها عن الحروب الأخرى، وبادئ ذي بدء كانت حرب الخنادق التي دفنت بموجبها الجنود في الأرض والتي تبين أنها تعطي الأولوية للدفاع على الهجوم، وثانيا كان استخدام الدبابات فيها ذو طبيعة دفاعية لا هجومية، وثالثا الطريقة الموحدة التي اتسمت بها تلك الحرب، ورابعا إن استخدام الأسلحة المحظورة لاسيما غاز الكلور الحربي الكيميائي سيبقى إلى الأبد واحدا من أكثر الصفحات المخزية في تاريخ البشرية. وخلال تلك الحرب شهد العالم معارك دموية ووحشية لم يرها من قبل وقتل فيها مئات الآلاف والملايين من الجنود والضباط والمدنيين، لدرجة أن كل شخص كان يعد نفسه جوهر الحرب الانتحارية. وأصبح انهيار الإمبراطوريات الأربعة وتشكيل الدول الجديدة والعزلة الدولية لروسيا وإذلال ألمانيا التي أُلقي عليها باللوم في قيام وحدوث واستمرار الحرب الأساس لنظام عالمي جديد تم تشكيله على أساس مؤتمر فرساي 1919م، وبموجبه ازداد حجم النظام الدولي وحل مبدأ الأمن الجماعي بديلا عن مبدأ توازن القوى، وكان على منظمة عصبة الأمم العاجزة أن تصبح أداة للحفاظ على السلام والنظام والاستقرار في ضوء وجود ذلك الكم الكبير من التناقضات التي أعرب عنها إحجام الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لإعطاء روسيا وألمانيا مكانهما الصحيح في النظام العالمي الجديد.
بعد انتهاء الحرب توقع العديد من السياسيين والصحفيين إن السلام سيكون هو الوضع الدائم على كوكب الأرض إلى الأبد، وكان ذلك هو الوهم الاكبر فبعد مذبحة انتحارية استمرت 4 سنوات لم تنته معاناة أوروبا، وفي السنوات 1918-1919 م انتشر بأوروبا وباء الإنفلونزا الإسبانية والذي أودى بحياة 90 مليون شخص من أولئك الذين لم تتمكن نيران الحرب الوحشية من قتلهم فلقوا حتفهم من جراء مرض قاتل والذي يمكننا أن نطلق عليه بحق “طاعون القرن العشرين”. وبعد الحرب تم سحق وإذلال ألمانيا والتي كانت قد فقدت مكانتها كقوة عظمى وكانت الدولة الوحيدة التي حملت المسؤولية الأخلاقية للحرب، والى الآن لا زالت هي الملامة عليها! وأصيب المشاعر الوطنية الألمانية بالألم والتحطيم ولذلك كان لابد عاجلا أو آجلا إن تكون هناك ملامسة لنقاط الألم في المجتمع الألماني من شأنها أن تدفع البلاد لسياسة مراجعة “وضع فرساي.” وكان أيضا قد تم عزل روسيا والتي حملت اسم الاتحاد السوفياتي التي طالما اعتبرت قوتها من قبل الاوروبيين والامريكان بأنها خطرًا في شكل “فيضان أحمر” يمكن لها أن تغرق العالم وعد خطرها انذاك اشد من الخطريين الفاشي والنازي، وفي إيطاليا التي تلقت وعد مزيف بمنحها بعض الاراضي فتسبب عدم تطبيقه بغضب شعبي كبير وكان يُنظر لخداعهم على أنه إهانة وطنية لابد من الانتقام جرائها. وكما كانت قد أثرت المشاكل على المناخ الاجتماعي السياسي في ألمانيا وتزايد انعدام الأمن والبطالة والجريمة فشكل تفاقم عدم المساواة الاجتماعية ازمة كبيرة وهكذا تم ظهور مستنبت لتشكيل الأحزاب الراديكالية التي تلعب على مشاعر الألمان التي كانت قد مزقتها السلطة، وكل ذلك كان مؤديا إلى رمي العالم القديم والعالم بأسره إلى حرب عالمية جديدة أكثر تدميراً وقسوة.
لكن ما الذي كان قد حدث حقا للناس الذين عانوا كل المصاعب والعذاب في الحرب العالمية الأولى؟ كيف غيّر الطفل، البالغ من العمر أربعة أعوام وشهد تلك الحرب، فكرته عن الحياة والموت؟ وماذا واجه الجنود في الجبهات؟ وكيف أثرت الحرب على نفسياتهم وافكارهم وما تأثير ذلك على تشكيل رؤيتهم لما بعد الحرب؟ وبعد الحرب تم تشخيص معظم أوروبا والعالم بأسره بـمسمى “الجيل الضائع” ، أو انه أجيال “الشباب المرير”، لأنه تم إرسال الشباب والفتيات في سن الـ18 مباشرة من مقاعد المدرسة إلى جبهات الحروب من دون معرفة ما كان ينتظرهم هناك، ففي البداية بدا أن الحرب لن تستمر طويلا وهم سينتصرون ويفوزا بزهوة المجد وتم التطوع والقبول في الوحدات العسكرية وتم إرسالهم إلى الحرب كمغامرة قصيرة ومذهلة ولم يكن أحد يعرف أنهم بذلك يشتركوا في المعركة الأكثر دموية ووحشية في التاريخ العالمي حتى ذلك الحين وليتعرضوا لتجربة المعاناة الرهيبة من هجمات الغازات السامة وللموت في الخنادق تحت النار، وأدرك الكثيرون أن كل شيء تم تدريسه لهم في المدرسة عن قصص المعارك الكبرى وعن بطولات الأبطال الشجعان وعن حب وطنهم كان كذباَ ولا ينعكس ذلك على أرض الواقع!! ومفهوم الحرب والبطولة والتبارز في أكثر الألوان الزاهية من العصور الوسطى كلها اكاذيب فالحرب تسلب من الناس الإحساس بالجمال وتجبرهم على دفع الاهتمام فقط بما هو ضروري من أجل البقاء على قيد الحياة، وفي الروايات المكرسة للحرب العالمية الأولى يتم إيلاء اهتمام خاص لكيفية تعبير الجنود البسطاء بأنفسهم عن أسباب الصراعات العسكرية، وإن البحث عن إجابة لهذا السؤال قد كان مصحوبا بسوء فهم فكيف أن شعبًا واحدًا يعاني من معاناة لا تُصدق من الألم والخوف من فقدان الأصدقاء والأقارب فتدفعه دولة أخرى على ذات الطريق ولذلك ينظر بوضوح حين تنشأ الحروب مرارًا وتكرارًا على أنه لا يمكن للمرء أن يختبر تمامًا كيف يعاني الآخر إن لم يمر بذات المعاناة !!
لم يكن أحد يفهم حتى ما كانت عليه الحرب، وفي المعارك كان الجنود قبل كل شيء يفكرون كيف لا يموتون؟ وكيف يساعدون رفاقهم على تجنب ذلك المصير؟ والخطاب لم يكن في تلك الحرب يدور حول الفتوحات المجيدة بل عن كيفية البقاء على قيد الحياة لمدة اطول، وان الخوف من الحرب لم يترك الجنود بعد عودتهم إلى ديارهم فأولئك الذين تمكنوا من البقاء وهم يتألمون من جروحهم لم يكن يمكنهم نسيان المشاعر التي كان عليهم تحملها والكثير منهم حتى بعد الحرب لم يشعروا أنهم على قيد الحياة، وأدركوا تمام الإدراك أنه حتى الحياة السلمية كان من الصعب عليهم التكيف معها، وعكست الأغاني التي كانوا يرددوها في الحرب وبعدها عن اليأس والاستياء من مصيرهم. وفي الحرب لم يعاني الرجال لوحدهم فقد عانت النساء أكثر منهم حين فقدنا الأزواج والإخوة والآباء والأبناء في ساحات القتال وعملن في المستشفيات والشركات وساهمن بقوة في العمل في المؤخرة أولاً وقبل كل شيء في مصانع الصناعات الكيميائية والاسلحة وكل شيئ وعرضن حياتهن وصحتهن للخطر. وعلى كل حال فأن الحرب العالمية الأولى كانت قد اوجعت وحطمت الجميع من كان منهزما أو كان منتصرا، فقد وقع عبء ثقيل على كاهل الرجال والنساء وكان معظمهم من لم يستطع التكيف مع العودة للحياة وبقي الكثيرين منهم مشوهين ومنهم من اختار الانتحار أو فقد عقله تماما واصيب بالجنون النفسي أو الفكري، وأيضا كانت هناك حالات صادمة للعائدين من الحرب جراء إصابتهم بنوبات هستيرية من مجرد مشاهدة زي عسكري!! كانت الحرب العالمية الأولى أقوى من الناس لدرجة إن “الآلاف والآلاف من العائدين ندموا على أنهم لم يموتوا مع الذين ماتوا فيها !!!