مضت السنين متسارعة تركض كإمرأة تحاول اللحاق بصغيرها وهو يلعب في شارع مكتظ بالمارة والسيارات والضوضاء ، تركتنا تلك السنين نهشا لذكريات موجعة فكل ماهو جميل حين يمضي يتحول الى نصل حاد يمزق الروح والوجدان ويهوي في الأحشاء فلا يبقي للعقل من مجال ولا للذاكرة ان تعود الى زمنها الجميل البعيد الذي كنا فيه صغارا ولم نكن نملك الكثير سوى السعادة ولم تتفتح آفاقنا على القلق والخوف والألم الممض والمتداعي .
حين غنى عبد الحليم حافظ آخر أغنياته قبل وفاته ( قارئة الفنجان ) كانت الرومانسية في اشدها تناطح الوجع المكبوت والمتجدد فبرغم كل ماكان يواجهنا من حروب وإحتياج الا ان نوع الفرح كان مختلفا وشكل الحياة كان مبهجا والناس اكثر طيبة وأقل رغبة في تحقيق المصالح كماهو الحال اليوم حين تموت الانسانية وتتصارع وحشية البشر مع سكينتهم فتغلبها ولانعود ، نحن قادرين الآن سوى ان نسابق الزمن من أجل ان نعيش ونجتهد لنكسب المال ونصل الى مراتب عليا تبعدنا عن انسانيتنا وتظهرنا كوحوش كاسرة تهاجم بضراوة فتفتك بالضعيف وتتملق القوي والممسك بأسباب السلطة والنفوذ والجبروت .
لم نكن نتصور مضي الحياة بهذه السرعة لنعيش اليوم بطريقة بدائية حتى وان بدت في قمة التكنلوجيا والتطور في أسباب المدنية فظهورنا بهذا الشكل البشع لم نتمكن من تجاوزه بتلك النهضة العلمية التي تربعت على صدورنا وقتلت فينا الطموح والسعادة فقد تحولنا الى آلات من اللحم مقابل آلات الحديد والفولاذ والحواسيب ورقائق الكمبيوتر في حين ان دواخلنا مشبعة بالسموم والهموم وتملأ عقولنا المتعبة وننشغل بالتفاهات الكريهة والمليئة بالاوهام والرغبات الكريهة البشعة .
نحن اليوم أولاد الأمس المنفصلين عنه والعاقون له والمتسلطون عليه فلا يجمعنا به سوى الذكريات التي تذبحنا، فأين تلك الأيام والأحلام ولذة ألغرام وأين ألفنون ألراقية والأغنيات الحافلة بالنشوة أين زهو أم كلثوم وروعة العندليب وعبد الوهاب وفريد الاطرش ونجاة الصغيرة وفيروز ومحرم فوآد وأين شباب أحمد رمزي ومحمود ياسين ورشدي أباظة ونور الشريف وسعاد حسني وأجيال من ألفنانين ألراقين كعماد حمدي ويحي شاهين وعبدالله غيث وأخوه حمدي والعمالقة الكبار وأين زهو ناظم الغزالي وزهور حسين ولميعة توفيق وسليمة مراد وعفيفة أسكندر واحلام وهبي وداخل حسن وعبادي العماري وحضيري ابو عزيز وياس خضر وحسين نعمة وسعدون جابر وأجيال يوسف العاني وفيصل الياسري وسليم البصري وقائد النعماني وسامي قفطان وحمودي الحارثي وطه سالم وعز الدين طابو .
ما مضى لن يعود .. وزمان كان الحب كده .. أصبح اليوم الحب مش كده .