18 ديسمبر، 2024 9:07 م

الجندي المكلف بالرثاء … “الى جواد الحطاب”

الجندي المكلف بالرثاء … “الى جواد الحطاب”

الجندي المكلّف بالرثاء
“إلى جواد الحطاب”
القنوات العراقية تفقد رموز اشاراتها الافقية والعمودية، بينما يكتفي الشعراء الراحلون الى هناك… بقصائد رثاء باردة ليس باستطاعتها اسقاط دمعة واحدة خلف جنازاتهم، جميع ارقام الاحبة مغلقة، الهواتف التي تحبها مطفأة بعد رحيل اصحابها، النايات تشغر بانفاسها إلى السماء، والتراب يملأ رئات العالم، الجميع ينتظرون موتهم… وانت الجندي المكلّف برثائهم… وكأنك لن تموت!!..
الوجوه التي يفز قلبك حين يراها، تمشي في الجانب الآخر من الشارع حين تمشي، وحين تصعد في ناقلة الركاب… يصادف ان يكون مقعدك بظهر امراة تجلس خلفك… تحدثها عن قهوتك المرّة التي لاتفارق شفتيك… وعن حزنك لفراقها… وعن ذكريات روحك معها… وكيف انتظرتها قبل حضورها… وكيف فارقتها… وحين تصل الحافلة الى نهايتها تجد انها نزلت قبلك وتركتك وحيدا تقلّب عينيك في الوجوه كما يتقلب الجمر في اليدين….
وحدك الان تسير، لايصحبك سوى ظلك، الجميع منشغل به عنك، الجميع منشغل برأس المال وانت منشغل بقطاف رؤوس الافكار، وحدك تحمل مشنقة بيديك، وخلف ظهرك صليب يحمل اصابع جسدك، والاصدقاء متهيؤون لحملك الى الأعلى…ينتظرون ترقيتهم باصعادك الى هناك حيث يتساوى صعود قدميك الى رؤوسهم… لماذا وجوه الآخرين اصبحت غربتك؟ ايها المنعزل مثل قطرة زيت في إناء بوسع دجلة… لماذا وحدك اخترت ان تسير وحدك في هذه المقبرة؟ .
تدور حول نفسك مثل خرزات مسبحة، كل خرزة بوجه، وكل وجه باستغفار واحد، لماذا تستغفر بعدد وجوه قاتليك؟ الاصدقاء ذنوب تستوجب الاستغفار عنها! … وما ذنب اصابعك وانت تتعبها بعدِّهم وتسقطُهم واحداً… واحداً… وتقول رب اغفر لي لأنهم اصدقائي… وكأنك تجمعهم في مقبرة وسعها المسبحة وعرضها يداك…
روحك صفصافة تنبت الظل على سواك، بينما هامتك مكشوفة للشمس…دمك هذا المحبرة التي تنتظر ان يشربها قلمك الحبر لتسقط على بياضك بالحروف… اعلم انك ستبني عمارات سكنية تلم اوجاع الساكنين فيها…بعضها سوف تمطره الخضرة… والآخر شواهد قبور.
روزنامة ايامك تتثاقل كل شهر بثلاثين صليبا معقوفا فوق خشبتك، والساعات رقاصات تتقاطع فوق رصيف حياتك، إشارات المرور الى حيث قبرك تتناقص حيث لايبقى في النهاية غير اسم إشارة يرشدك الى حيث غفوتك الاخيرة..
مثل اعرابي، بعبائتك التي ترفرف خلف ظهرك مثل راية مكسورة الخاطر، وبعقال رشيق مثل خصر راقصة، وبشطفة اعددتها لمسح دموعك، تسير وحدك في ساحة الطيران، حمامات فائق حسن تطير فوق رأسك، بينما عمال البناء في المسطر يتجمعون حول الطُوس وكأنهم على موعد مع مقاول الخبزة، ساحة الطيران معرض الفن الوحيد الذي يعرض الوان الجص والبورگ بشكل لوحات على قمصان العمّالة…وساحة الطيران هي المعرض الصوتي الوحيد الذي ترسم فيه الهورنات لوحة سروالية حول مؤخرة الساحة، بائعو السجائر يعرضون عليك فرصة تدخين رخيصة، تعبر الشارع ولا تلاحقك غير شتائم السواق لانك ساهمت بتعطيل فرصتهم في وصولهم لحجز السرة، الجميع يحمل شهادة الدكتوراه في ضرب السرة، المتسولون يقايضونك بين ان تعطي لهم بعض النقود اليتيمة في جيبك، أمام الكف عن شتمك لانك مررت بالزمن الخطيئة والمكان الخطأ.. تجرُّ خيباتك خلف ظهرك وتسترها بالعباءة… اين ذهبت القبيلة؟ لم تبصر خيمة يسندها وتد عربي قحٌّ وبعض رماحٍ غافية في الشمس؟
وهم الكبار والضخام، يبتكرون الاحجام ليظهروا كل ماسواهم صغيرا، ونحن نكبر بالاحلام، كل ما تمسه أيادينا يستطيل خضرة، بينما الرمال تسيل بين ايدي الكبار، لقد صبغوا عالمنا بالاسود ونحن نبتكر البياض في المآتم ونعلم ان
الناس فئتان؛ نحن من تسكن رؤوسنا العصافير، وهم من تسكن رؤوسهم الأساطير، لهذا نحن اكثر حقيقة منهم…
لم يبق في أيدينا غير الشعر، من يملك الشعر يملك العالم، عالم من دون شعر غابة يتنطع فيها الساقطون من البنفسج، القصيدة نون نسوتنا، ونحن من يزن الصوت بالتفاعيل، المتحرك يدفع بالساكن من أيامنا، ونحن ننتظر اليوم الذي نفيق فيه من سكرتنا الاخيرة.