18 ديسمبر، 2024 5:54 م

مطر ناعم وغزير ينهمر على بيوت القرية وأهلها الذين على ما يبدو استيقظوا لأداء فريضة الصلاة كعبادة ورثوها من الآباء والأجداد شأنهم شأن باقي أهل القرى المجاورة .كان خدام المسجد يسيرون في صف مستقيم مصطحبين معهم جثمان الملا عدنان الذي يبدو انه فارق الحياة في ساعة متأخرة من الليل لينقلوه كما هو مكسواً بثيابه حتى بيت الشيخ وهناك غسلوه واعتنوا به وأقاموا له الصلاة المصحوبة بالتأبينات على عجلٍ لإعانته على الانتقال الى العالم الآخر متمماً واجباته الدينية ! والموت كما يليق بالمرء ان يموت .

كان لهذا الرجل حظوة في القرية فقد كان محبوباً من الجميع لطيف المشعر لا يتوانى عن تقديم المساعدة و العون حتى في أحلك ظروفه المادية والصحية فضلاً عن إصراره الدائب على حل النزاعات العشائرية بأيسر الطرق وبأقل الخسائر ولهذا كان لرحيله فاجعة استفاق على دويها جميع من في القرية و وجهائها الذين تبعوه حتى مثواه .

وضع نعشه على محمل وحمل ملتفاً بغطاء أبيض وخلفه سار جميع أهل البلدة في صفوف عديدة كانت رؤوس الذين في المقدمة عارية بسبب حرارة الطقس فيما الآخرون ارتدوا قبعات لإخفاء صلعاتهم !. وأمام الجميع سار الشيخ وهو يتلو صلاة الموتى مراراً والى جانبه مساعده الذي كان يردد كل ما يقوله شيخه بصوت خفيض , أما شقيق الملا المرحوم فكان يسير وحده بمسافة من الموكب واهن العزيمة خار الساقين كمن يواصل مع نفسه حلماً مضنياً يحاول عبثاً الخروج منه من يراه يحسب بأنه لم ينم ليله وما الاحمرار الذي طغى خديه إلا دليل على غزارة الدموع التي أهرقها طوال فترة استيقاظه . استمر المشيعون في المسير مع راياتهم وشمعوهم مرددين التراتيل التي تعبر الطريق و تخفت مع جلبة الخطى , كانت المقبرة لا زالت بعيدة عنهم ولهذا توقفوا مرتين من شدة الإعياء بحيث كادوا يعجزون عن حمل الميت الى مثواه . انعطفوا يميناً ليسلكواً طريقاً مختصرة عبر الأسيجة المزهرة والجين ممراتٍ عديدة بين الحقول , كانوا يصعدون على مهل وحصباء الطريق تتدحرج تحت أقدامهم ثم تسقط في الوهاد ويتلاشى صداها في المهاوي المسكوة بنبات الخلنج . وفجأة سمع صراخ فتوقف الموكب كان شقيق الملا المرحوم يطلق الصرخات المكتومة كهبات دخان متتالية شعر بأن قواه بكل ما فيها قد وهنت عندما أراد الوقوف للحاق بالموكب الذي كان يبعد عنه مسافة قصيرة لكنه سرعان ما خر من جديد على كومة الحشائش كمن يصارع مرضاً عضال

ليأتي إليه إثنان من المشيعين يحملوه على أكتافهم رغم ان هذه المهمة لم تكن تختلف في شدتها عن الذين كانوا يحملون نعش المرحوم .

وصلوا أخيراً الى المقبرة التي كانت محاطة بجدار أبيض وأشجار السرو الخضراء وسياج أسود محاط بأحجار كبيرة يكسو العشب معظمها . حفروا قبر الملا بالقرب من قبر معلم مدرسة القرية القديم , وفيما كان ينزل النعش ويرش الماء المقدس كان وجه شقيقه يزداد شحوباً كلما حفر الدفانون أكثر . كانت دموعه ترافق كل رفش تراب يرمى على الجثمان وظل على هذه الحال يتمعن بما تبقى من بياض الكفن قبل ان يشتمل بالتراب وجعل فيما بعد يشتم الحاضرين ويلعنهم فكأنه كان يريد ان يتمدد مكان شقيقه ويتابع نومه !, غادر جميع من في الموكب المقبرة بعد مواساة شقيق الملا التي كانت تتفاوت في درجات الشفقة و الاهتمام أما هو فظل وحيداً حتى غروب الشمس منثني الركبتين لا يفارق نظره القبر عندها لم يعرف مصيره في القرية منذ ذلك اليوم ولم يعد إليها مطلقاً . مرت الشهور تلو الشهور … و لم يلحظه أحد انقسمت الروايات حوله بين من تقول بأنه رمى بنفسه من فوق جبل شاهق نحو مياه البحر وأخرى تقول بأنه ترك القرية نحو أرض بعيدة مجهولة , ظل لغزه عالقاً الى اليوم فلا أحد يعلم ان كان بحكم الأحياء أم الأموات عندها لم يكن أمام أهل القرية خيار غير إدراجه في لائحة المفقودين على أمل ان يعود إليهم من جديد رغم ان هذه الأمنية لا زالت غير منطقية في قرارة نفوسهم ! .