18 ديسمبر، 2024 6:09 م

الجري نحو السراب

الجري نحو السراب

مضت ثلاث ساعات على رحلتها الطويلة التي كانت فيها تقاوم نعاسها بهامش بسيط من اليقظة وتستلسم بين الفينة والأخرى لشتى ذكريات كانت تنازع داخلها قبل الانطفاء…
سنين طوال على رحيل أبيها حينما كان جندياً برتبة رقيب في إحدى جبهات “النورماندي ” إبان الحرب العالمية الثانية الأقارب الاصدقاء … الجميع سلموا بأن الأخير في حكم الأموات وهذا يعني بأنه احتمال عودته مستحيل منطقياً .
وبالرغم من كل هذه التأكيدات الجازمة إلا ان الأمل كان ولا زال يلتمع في عيني هذه الفتاة الشابة فالمدينة التي تقصدها في القطار اليوم كانت تمثل نقطة رجوع والدها في كل مرة قبل أن يعود فيها إليها وإلى والدتها سالماً .
ما زال القطار يسير بها في ليلة مقمرة يقطع المسافات الطويلة ذهاباً دون أن يترك لها في الدقائق والثواني فسحة من الهواجس والتأملات التي لا تنتهي … لتقنعها فيما بعد لها بأن والدها ما زال حي يرزق سيعود إليها في يوم من الأيام بل تعدى الأمر الاقناع بالنسبة لها !.
وبعد انتظار لساعات وصلت إلى المحطة المنشودة في وقت سبق الفجر بقليل , كان الإرهاق بادياً عليها, ترجلت من على متن القطار وتمشت قليلاً وذهنها مازال يرسخ فيها لها فكرة أن أبيها حي , كانت تحدق في كل اتجاه بإيماءات فضولية ولكن المفاجأة كانت كبيرة الوقع عليها استولى عليها شيء من الذعر … جميع المارة الذين يعبرون أمامها يحملون وجه أبيها بملامح باردة وبعينين تنظر إلى الأمام دون ان تلتفت إليها تسمرت في مكانها فاغرة الفاه … ترقبهم بعينيها دون ان تنبس بكلمة لم يسبق لأن ما حدث لها اليوم حلماً أو خيالاً بل واقعاً محض أو مشهداً فضيعاً لم تتعرض له في حياتها يشبه الى حدٍ ما الحفلات التنكرية الشعبية التي تقام في الأعياد الرجال النساء الأطفال كانوا جميعهم بوجه أبيها , وبعد سويعات من هذا المشهد أدارت وجها وهرولت مغمضة العينين محاولة بذلك تناسي كل ما كنت تفكر فيه عن
أبيها فشمس الصباح ستنبلج و لم يكن أمامها في تلك اللحظات غير أن تلقي وراء ظهرها عبء ما حدث لها لتسلم مضطرة بأن الهلوسات التي تعرضت لها في هذه الليلة كانت مجرد حلم يشبه من حلم عودة أبيها الذي استسلمت له حينما كانت على متن القطار وهي عائدة من عملها …!