16 سبتمبر، 2024 9:53 م
Search
Close this search box.

التقلب بين العادي والاستثنائي :مجنون ليس كباقي المجانين

التقلب بين العادي والاستثنائي :مجنون ليس كباقي المجانين

فصة ةصيرة تتحدث عن نوع من أنواع الفشل الذي يلون العقول والسلوك

برفيسور في الترجمة الإعلامية\نجف \جمهورية العراق

قلت ما في جعبتك ياهذا؟

فرد علي: في دنيانا هذه ما يحير العقل ويثير الشجون ويجعلك تشكر الخالق على ثبات عقلك واتزان افعالك وحفظك من كل ما يلوث الطبع الإنساني والسلوك ويظهرك بين الناس بطبيعتك الإنسانية المعتادة. دعني احدثك عن رجل كامل متكامل ظاهريا مرة  ومرة اخرى تراه شيء غير عادي :

من ريف من ارياف البلدة كان يقبل علينا رجل حسن الهندام ممتلىء القوام لطيف غير مؤذ للعوام في ساعات بعيد الظهيرة ويجلس على مقاعد المقهى المهجورة في هذا الوقت من النهار لوحده بملابس شتوية نظيفة دون مبالاة لحرارة تموز المفرطة وسموم رياح الظهيرة التي يقترن بها شهري تموز وآب وعلامة بارزة من علاماتهما. كان يجلس صامتا ونظره شاخصا باتجاه المارة ملفتا انظار الناس اليه الذين يستغربون هذا النوع من السلوك غير السوي. ويتساءلون مالذي حدى بهذا المخلوق كي يختار هذا جحيم تموز ولايجلس داخل المقهى المبردويختلط بالناس ويشرب الماء  بفصوص الثلج بعد عناءه و قطع هذه المسافة الطويلة بين سكنى القروين وبيوت البلدة المتواضعة. سلوكه هذا جعل بعض الأطفال يحيطون به ويستفزونه بالعابهم وقفزاتهم واصواتهم فيما ينهرهم المارة والبالغون في المقهى.

ومرة أخرى يأتي نفس هذا الرجل بمظهر مهيب وبقوامه الجذاب وجسده المتعافي ووجهه الشامي الشكل وشاربيه الاسودين ذوات الشعر المصصف برتابة رائعة وتفوح منه عطورفرنسية لامثيل  وفي يده اليمنى مسبحة صفراءوفي يده اليسرى ساعة سويسرية راقية ومذهبة ويجلس على القنفة جلسة معتبرة ويتلفظ بالفاظ مؤدبة وجميلة تخللها ابيات رائعة لشعراء العرب  من أمثال قيس مجنون ليلى وعنترة وأبو فراس الحمداني وابيات من الشعر الشعبي المعروفة وكانه في مجلس ديوان عشيرة . ويقدم له الماء البارد والشاي المعد على الفحم ويتشكر بكل احتراممن عامل المقهى بعد القيام بالواجب ويشارك الجالسين باحاديثهم ويبادلهم اللطائف والمزح. وفي الجلسة التي كان جزء منها كان وضعه طبيعي جدا ولا يثير الاستغراب اطلاقا ولم يتعرف عليه أطفال الامس بل بقي مهابا. بعض الجالسين تعرف على حالته  واستذكرها كما كان هناك شخص اخر يبدو انه يعرفه وكان يناديه أبو جاسم أي ان اسمه محمد وهذا هو الحال في بلدتنا كل من اسمه محمدا ينادى عليه بكنيتهابو جاسم.

وبقي الرجل الذي يعرفه معرفة عامة بقى محافظا على السر وحذرا ومقلا في  حديثه تجنبا لافتضاح الامر ولانشغال الجالسين بامور حديثهم او لتجنب اغضاب الزائر الجديد واتساع رقعة تسرب الاسرار وحصول ما لم يحمد عقباه.  وعندما سمع احد المشاركين يناديه باسمه اخرج علبة السجائر من جيبه وكما هي العادة اخذ يقدم السجائر الى الجالسين واحد تلو الاخر فمنهم من امتنع شاكرا ومنهم من كان من المدخنين. وعندما هو سمع البعض من الجالسين ينطق بأسماء بعض الشيوخ,

قال: والنعم هؤلاء شيوخنا رفعة رؤوسنا وكلنا لهم فداء. فهم صانعوا مجدنا وحضارتنا.

فردعليه  كبير الجالسين أبو سيف: احسنت يا محمد واصبت كبد الحقيقة فهم قادة  ثورة تحررنا.

وبعد انتهاء الجلسة ونهوض محمد ومغادرة المكان قال احد الذين كانوا مجالسين له

احقا هذا هو نفس الرجل الذي فضل الجلوس في جحيمبلدتنا بالأمس؟

فكان لسان حال الجميع يقول باستدارة راس: ان لله في خلقه شؤون.

وفي مرة ثالثة قدم الرجل نفسه الى البلدة في فترة ما بين العصر والمغرب وكان الجو لطيفا ولكن هذه المرة بجلباب صيفي ابيض وهو محزما بحزام جميل مرتديا برجليه النظيقتين المقلمة اظافرهما نعله الأسود وغتره ناصعة البياض وحاملا على قمة رأسه جهازا راديو \مسجل مفتوح باعلى صوته  يسمعه الناس في اقصى البلدة يلعلع بصوت كوكب الشرق ام كلثوم باغانيها الغراميةوهو يسير بسرعة مثيرة استغراب البالغين منها. وجذب منظره هذا أيضا أطفال البلدة واخذوا يتبعونه اجواقااجواقا أينما ذهب ضاحكين فرحين لهذا النوع من التسليةالمجانية و غير المعهودة يتبرع بتقديمها هذا الرجل  معبرين عن اعجابهم بهذا الوضع مصفقين ومطلقين أصواتا فرح متنوعة. ومن بين هؤلاء الأطفال من كان عنيفا معه ورموه بالحجارة وكل ما تقع أيديهم عليه من مقذوفات وكان لايبالي  ويتخلص منها بسيره السريع. وقد دار دروب البلدة  بقناعة ورض  وبعض الناس من شفق على حاله واسف لشبابه ووسامة شكله ومحتوى عمله هذا وقد اسر الجميع بانفراده بهذا العمل الغريب غير مبال بما يدور برؤوس االناس. وهنا انتهى الراوي من روايته لظروف هذا الرجل.

وذات صدفة كنت مرة واقفا عند صديق صاحب متجر وكان بمعيتنا ذلك الرجل الذي تعرف على محمد في تلك الجلسة في المقهى وكان الرجل محتارا ولعن الحب والعشق والجنون وكيد النساء. فرأيته يهز برأسه

قلت: ما الخطب يا صاحبي اراك تهز يرأسك. خبرنا.

فقال: الحب معركة جبارة يا رجل والخاسرين فيها كثر. يوم بعد يوم تكثر ضحاياه وذلك الرجل  الذي ترونه بين الجين والأخر ما هو الا نفر من ذلك الرعيل رعيل مجنون ليلى. فقد قتلت حبيبة قلبه وتوأم روحه من عشيرة أخرى في نزاع مسلح كبير بين أبناء عمومتها وكان موتها الزلزال الذي ضرب عقل هذا الرجل فهدم اتزانه ودمر كيانه وهام بين اقرانه واخوانه ولا يستقر في مكانه وتراه متقلب الأحوال بين مستقر وجوال يلاحقه الأطفال مجنون بامتياز في بعض الأحوال واحيانا أخرى نشميوجنتلمان في الفعل والاقوال.

قلت لنفسي : اهكذا يتحكم الفشل في سلوكنا ويجعلنا نعمل اشياءا مابين السوية وغيرها ويلفت انتباه الحضور الى الفروق بين العادي والاستثنائي  ويجعلهم يشعرون بالرحمة والشفقة للمصابين ويتمنون ابتعاد الاحزان عنهم وعن غيرهم.

أحدث المقالات