23 ديسمبر، 2024 5:01 ص

التفاعل الأقوامي ومحددات مفهوم الهوية العراقية

التفاعل الأقوامي ومحددات مفهوم الهوية العراقية

الهوية القومية لأي شعب من الشعوب تتشكل من تداخل مجموعة القسمات الثقافية والحضارية الغالبة على أفراده ، والتي تميزه عن بقية شعوب العالم في الإطار الإنساني الجامع. وتتمخض الهوية أو الشخصية القومية عن عملية تاريخية طويلة ومعقدة نتيجة تفاعل مجموعة عوامل بعضها غير مادي مثل اللغة والثقافة والتجربة التاريخية المشتركة ، وبعضها مادي مثل الجغرافية والاقتصاد ، تؤدي إلى صهر مجموعات بشرية معينة ضمن كيان قومي موحد . وثمة مؤشرات ينبغي الوقوف عندها قبل التطرق إلى تفاصيل موضوعنا .. وهي:-
1- العنصر (اللون والعرق والسلالة والدم والخصائص الوراثية) ليس من ضمن العوامل التي تحدد الانتماء القومي ، لأن النقاء العنصري لاوجود له في العصر الحديث ، ولأن قيمة الفرد كأنسان أو هويته الجماعية لاتتأثران بأصله السلالي.
2- الدين لايدخل في تكوين القومية ، كونه علاقة روحيه بين الإنسان وخالقه ، غير أنه يدخل في جانب منها كونه ثقافة وقيماً ومُثلاً ، لأن هذه النواحي لايمكن عزلها عن العصر أو المجتمع الذي نزلت عليه أو نشأت فيه الديانات ، وبالتالي عن شخصية المجتمع ، فمهما كان اختلاف الديانات بين المواطنين المنتمين لقومية معينة أو مدى التزامهم بتعاليمها الروحية ، فإنهم يتأثرون بالعناصر الثقافية ذات المنشأ الديني التي يمثلها كيانهم القومي والتي قد يكون مصدرها أكثر من ديانة كماهو الحال في العراق، حيث تبقى بعض الآثار الثقافية المسيحية في ممارسات بعض المسلمين ، كما دخلت بعض المؤثرات الإسلامية في عقيلة وسلوك غير المسلمين.
3- عملية التكوين القومي في أية منطقة من مناطق العالم لاتنتهي بنهاية عصر أو حقبة زمنية معينة وإنما تظل في حالة صيرورة دائمة ، بحكم كونها ظاهرة بشرية مرتبطة بالإنسان وتفاعلة اللاإرادي مع البيئة المادية والمعنوية والمحيط الحضاري الذي يحتك به ، وقد تتسبب عوامل ذاتية أو خارجية في إبطاء سير عملية التفاعل القومي في منطقة معينة أو في توقفها المؤقت ، ولكنها لاتؤدي إلى إيقافها نهائياً ، حيث تستعيد معدل نشاطها الطبيعي بعد زوال تلك العوامل . وبنفس القدر فإن نشوء كيانات قومية جديدة نتيجة للاندماج بين تشكيلات قبلية ثقافية متجاورة ومتلاصقة في المناطق التي لم تمكنها ظروفها التاريخية من ذلك ، أمر وارد.
الملامح العراقية للقومية العربية
أدت مسيرة التكوين القومي التاريخية في العراق إلى دمج الموروثات الدينية والحضارية للأقوام العراقية القديمة التي سكنت ما اصطلح على تسميته ببلاد مابين النهرين ، في الخصائص القومية التي تميز العرب كقومية بمفهومها الحضاري/الثقافي المعاصر . يعني ذلك بالتحديد أن تلك الموروثات تظل باقية كتراث تاريخي يعتز به جميع العراقيين حتى لو انقضى تأثيره بشكل كلي تقريباً في الحياة المعاصرة لمعظمهم ، وبقيت بعض عناصره حية لدى البقية مختلفة في مداها كماً ونوعاً حسب ظروف وملابسات التشكل القومي في المناطق المختلفة . ويلاحظ أن هذا الوضع هو أحد عاملين أعطيا القومية العربية في العراق ملامح عراقية محلية . بمعنى ، أنها ملامح مقصورة عليها فقط . أما العامل الآخر فهو بعض خصوصيات كيفية التأثير الإسلامي.
1- لعب الإسلام دوراً محورياً في ولادة القومية العربية في مهدها الأول بالجزيرة العربية ، لأنه أكمل تبلور لغة الحضارة العربية وآدابها ، وفجر قدرة شعبها على صنع حضارة ساهمت مساهمة رئيسية في حضارة العالم الصناعي، حاملاً رسالة سماوية إلى شعوب العالم أجمع.
بهذا المعنى يصبح لمصطلح الحضارة العربية – الإسلامية أساس علمي وغير متناقض ، في الوقت نفسه، مع عروبة المسيحيين والعرب من غير المسلمين عموماً، لأنه لايستتبع وحده أسلوب ومغزى عبادة الإله ولايفرض تفرقة من أي نوع عليهم.
على أن هذا الارتباط بين القومية والدين اتخذ مدى أكثر قوة في العراق ، لأن التلازم بينهما لم يكن محصوراً في مجال التكوين الأصلي للقومية العربية وإنما تعدى ذلك إلى ملابسات تحول العروبة إلى قومية للتشكيلات البشرية الثقافية القديمة في وسط العراق وجنوبه على وجه الخصوص ، ذلك لأن الفترة الحاسمة في التحول الاستعرابي تسبب فيها وصول الموجات البشرية العربية الرئيسية التي دخلت العراق بعد ظهور الإسلام ، في عملية سلمية طويلة الأمد ، وأعطت نتائجها كامتداد لتأثيرات سبقت نزول الإسلام بل والديانات السماوية نفسها.
2- المصدر الثاني للملامح المحلية العراقية للقومية العربية ، هو الطابع الخاص للإرث الثقافي والحضاري السابق للاستعراب . فحضارات العراق القديمة كانت حلقة في سلسلة حضارات متعددة متزامنة ومتفاعلة شملت الجزيرة العربية ومنطقة الشام ووادي النيل ، والحضارة المروية بالذات كانت امتداداً للحضارة الفرعونية ، إلاّ أنها في طورها الثاني كانت ذات خصائص محلية مميزة في جانبها المادي وغير المادي.
3- الدور الأهم الذي لعبه التحول الديني إلى الإسلام في إنجاز التحول القومي إلى العروبة ، مع حيوية بعض مكونات حضارات ماقبل التعريب ، أسبغ على البنية الثقافية لبعض المجموعات السكانية في العراق الجنوبي طابعاً إسلاميا أكثر بروزاً من طابعها العربي بالمقارنة لأغلبية سكان الوسط وبعض مناطق الشمال العراقي ، فنجد في بعض الجهات مثل مناطق الشمال العراقي ، أن التحول الاستعرابي ظل جزئياً أو سطحياً في نواحي معينة أهمها الجانب اللغوي ، بمعنى أن اللهجة المحلية المستخدمة في الحياة وسعت ذخيرتها اللغوية والتعبيرية بالاستعارة من اللغة العربية ، بينما أصبحت هذه اللغة – أي العربية – هي لغة الممارسة الدينية ، ولغة العلوم والآداب والحياة العصرية . وهذا الوضع هو الذي يشدد على الدور الأهم للمكون الإسلامي الثقافي للحضارة العربية في التعريب المتفاوت لسكان هذه المناطق ماضياً وحاضراً وربما مستقبلاً . ومن ثم بروزه الأوضح في تكوينها القومي . كما أن التطلع للانتساب إلى لغة القرآن وحضارته ورموزه العظيمة الذي يعبر عن نفسه في إيجاد نسب عربي ، كما يظهر في التاريخ الشفاهي والفولكلوري يكتسب أهمية أكبر كمؤشر لعملية استعراب سكان هذه المناطق بالمقارنة لأغلبية سكان الوسط والجنوب ذوي الانتماء العربي الحضاري الأوضح في كافة الجوانب.
4- يعني ذلك أن اللغة العربية والحضارة العربية–الإسلامية نفسهما تغتنيان بالعناصر الحية التي تلبي احتياجات التطور في ثقافات وموروثات المناطق المذكورة . ويؤكد هذا بدوره ، أن مايشير إليه الواقع المتحرك للتكون القومي في وسط وجنوب العراق من طابع عربي/إسلامي جامع له ، لايتنافى مع البقاء الدائم أو المؤقت لعناصر ثقافية أخرى ، كما يؤكد أن التمايزات الثقافية القائمة حالياً في شمال العراق تعكس تبايناً درجياً وليس نوعياً.
تطور الحالة القومية في شمال العراق
لاينطبق هذا الاستنتاج عند المقارنة مع الوضع في شمال العراق ، حيث يرقى عدم التجانس القومي مع وسط وجنوب العراق إلى المستوى النوعي ، بسبب عدم إمكانية إطلاق الصفة القومية / العربية / الإسلامية أو غيرها عليه ، نظراً لبقاء حالته القومية في طور التبلور حتى الآن ، وذلك بالرغم من مظاهر التداخل مع الحالة القومية الأكثر تبلوراً في الوسط والجنوب.
يعتبر الشمال العراقي هذا شبيه بمناطق العالم القطبية والاستوائية ذات الثقافات الدينية والاجتماعية المتكاملة ضمن وحداتها القبلية ، وفوق القبلية ، والتي ساهمت عوامل ذاتية وموضوعية متعددة ، من بينها المناخ في إضعاف حلقة التفاعل الحضاري والثقافي بينها وبين المجتمعات الأخرى من حولها ، ومكنتها بالتالي من الاحتفاظ بمكوناتها الثقافية المحلية دون تحوير كبير.
وأضيفت لذلك في العصور الحديثة الظاهرة الاستعمارية التي عمقت حالة التخلف المادي وأيقظت التعقيدات والحساسيات الموروثة من عصور الإقطاع وما سبقها بشكل سمّم مناخ التفاعل الصحي بينها وبين بقية شعوب العالم.
تفاعل هذين العاملين المرتبطين بالظاهرة الاستعمارية مع العزلة المفروضة جغرافياً ، خفض من معدل الانتقال إلى مرحلة التبلور القومي في مناطق العراق الشمالية مثلما هو الحال في مناطق العالم ذات الوضع المشابه، لذلك فإن حركة التفاعل بين التكوينات الثقافية واللغوية شمال العراق التي يجمع بينها ، مع وجود أقليات مسيحية وإسلامية ، المعتقد الديني القائم هو نفسه على أساس قومي / قبلي ، لم تستقر حتى الآن على أرضية ثقافية / حضارية مشتركة وواضحة المعالم ذات لغة مشتركة ، بحيث يمكن قياس مدى تماثلها أو اختلافها مع الشخصية العربية الإسلامية في بقية أنحاء العراق.
نفس العوامل التي أثرت سلباً على مسيرة التبلور القومي في شمال العراق مضافاً إليها العلاقة الوثيقة بين حدود انتشار التأثير العربي الإسلامي والبيئة الجبلية وشبه السهلية ، أبقت علاقة التفاعل الحضاري والثقافي بين التكوينات الثقافية واللغوية الشمالية ، وذلك التأثير في حدها الأدنى ، بالرغم من أشكال التبادل الثقافي التي أدت لولادة أداة تواصل لغوي شعبي في الشمال مثل عرب الموصل ومنطقة الجزيرة وغيرها من المظاهر الثقافية والسلوكية المشتركة مع وسط وجنوب العراق.
هذا النوع من الرصيد الايجابي في علاقة التلاقح بين شمال ووسط وجنوب العراق الذي يتخطى سلبيات علاقات الماضي ، هو الذي سيرفع معدل التفاعل إلى حده الأقصى مستقبلاً مدعوماً بعوامل أخرى … أهم هذه العوامل :- علاقات التعايش والجوار القديمة ، ووحدة التجربة التاريخية المشتركة ضد الطبيعة والغزو الأجنبي في العصر الحديث ، ووحدة مصلحة الجماهير الشعبية في تحرير إرادتها من التخلف بالتنمية الجذرية المتوازية والمستقلة عن الضغوط الإمبريالية والاستغلال الداخلي.
الشروط المطلوبة لسير هذه العملية هي نفسها الشروط المطلوبة لتمازج الثقافات الشمالية نفسها وتبلور اتجاهات ودرجة تمازجها مع الوجود العربي/الإسلامي في الوسط والجنوب ، وهو توفر مناخ صحي للتفاعل بين كافة الإطراف يقوم على احترام الثقافات ، مهما كان وزنها العددي والسياسي ، ورعايتها ، كما يقتضي ذلك ديمقراطية سياسية تعددية مرتبطة بتطور محسوس نحو ديمقراطية اقتصادية اجتماعية تزيل التخلف في إشكاله المادية والمفاهيمية والنفسية والتي تقف وراء ظواهر الاستعلاء والدونية القومية.
الوحدة الوطنية العراقية
كذلك ، فإن توفر مقومات جو التفاعل الخصب ضروري لتعميق وتوسيع أرضية الوحدة الوطنية بأسرع مما ظل يحدث حتى الآن . لقد تحقق القدر الحالي من التشكيل الحضاري العربي/الإسلامي في الوسط العراقي وجنوبه مهما كان الرأي حول مدى شموله وتواصله مع حالة التطور القومي في الشمال ، مهما كان الرأي حول درجتها الحالية واتجاهاتها المستقبلية بصورة لاتخلو من عناصر الصراع والتنافس بين الأقوام المختلفة وفي اتجاه معاكس لمرامي التخطيط الخارجي (التفتيتي/الطائفي) الذي تعمد عرقلة تلك التطورات الطبيعية . غير أن محركات التوحيد الوطني التي أرساها انتشار الثقافة العربية/الإسلامية في الوسط والجنوب وتعايشها مع الثقافات الشمالية في إطار الأخوة الدينية والعلاقات المصيرية التاريخية بين مختلف فئات الشعب ، تظل قادرة على الفعل في اتجاه تمتين الوحدة الوطنية خاصة في ظل الوعي المتنامي والظروف السياسية والاقتصادية المواتية.
ومع الحرص الفائق على تهيئة كافة الشروط الضرورية لتقوية فعل عوامل ترسيخ الوحدة الوطنية وتنقيتها من سلبيات عهود التخلف والسيطرة الاستعمارية وسياسات الأنظمة الدكتاتورية ، ينبغي الحرص على عدم الخلط بين حقائق وضع التكوين القومي في العراق وآفاقه المستقبلية ، وبين الخلافات السياسية والفكرية ، فإذا كانت بعض الأحزاب والتيارات الفكرية الموجودة الآن في الساحة العراقية تعتبر نفسها أفضل تجسيد ممكن للتلاحم المصيري بين العرب وغير العرب وبالتالي أفضل ضمان ممكن للثورة الاجتماعية والاقتصادية والوحدة الوطنية ، إلاّ أنه يجب وضع خط واضح بين حق الاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى في الاختلاف الديمقراطي، مع تلك الأحزاب والتيارات وادعاءاتها حول هذه المسألة وغيرها ، وبين أوضاع التكوين القومي في العراق التي تسعى لتجسيدها في فكرها وعملها ، ودور هذه الأوضاع في ترسيخ الوحدة الوطنية وتمتينها.
الانتماء العربي / الإسلامي
الإسلام كمعتقد روحي عباداتي وتكوين ثقافي وتراث تاريخي يشمل بطريقة أو بأخرى كافة جوانب الحياة الإنسانية ، هو دين الأغلبية العظمى من العراقيين ، وهو يدخل كمكون للشخصية العربية داخل العراق وخارجه في جوانبه الثقافية والتراثية بصرف النظر عن المعتقد الديني للعربي ، كما أنه يشكل بتلك الصفة صلة شبه قومية متنامية تختلف في قوتها من بلد لآخر ومن مجموعة سكانية لأخرى في نفس البلد بين العرب والمسلمين من غير العرب.
وقد طرحت تصورات معينة – لامجال لذكرها هنا – وتقييم مدى دوافعها ، كقضية إقامة دولة دينية على أساس تفسير معين لنصوص الإسلام بقوة على المسرح السياسي العراقي بعد 9/نيسان ، غير أن هذه القضية لاتزال محل خلاف حتى بين المسلمين أنفسهم ، مما يدل على أن الجوانب الاقتصادية والسياسية والقانونية وغيرها من الجوانب التي يقوم عليها نظام الدولة الدينية ، هي اجتهاد نظري سياسي وليست جزءاً أصيلاً وطبيعياً من الانتماء للعقيدة الإسلامية . على هذا الأساس لايمكن اعتبار تصورات بعض القوى السياسية لماهو تنظيم اقتصادي وسياسي وقانوني إسلامي للمجتمع كجزء من العقيدة الإسلامية مما يجعلها غير صالحة لاتفاق دستوري حتى بين المسلمين أنفسهم.
ويعتبر الإصرار على تلك التصورات تجاه غير المسلمين مدعاة لتعطيل الاتفاق الوطني الدستوري لانطوائه على تهديدات خطيرة على الديمقراطية والوحدة الوطنية ، لاترتبط بأية دعوة سياسية أخرى مهما كان نوع ادعاءاتها ، وذلك لأن هذه الدعوات الأخرى لاتخلع على ممارساتها ونظرياتها قداسة من أي نوع ، مما يجعلها قادرة على الأخذ والعطاء الديمقراطي إلى آخر المدى ، كما أنها لاتقوم على تصور لحكومة دينية.
وهذا لاينطبق على الدعوة السياسية الفكرية ذات الطابع الديني التي لاتستطيع تجاوز حدوداً معينة في تفاعلها مع الأطراف السياسية الأخرى ، إلاّ بخرق هذا الادعاء الديني الذي تعتبره مقدساً وغير قابل للمس به.
ومن جهة أخرى ، فإن رسوخ العقيدة الدينية النابع من قداستها ، إسلامية كانت أو غير إسلامية ، يحرك ردود فعل متساوية في قوتها لدى كافة أصحاب الديانات الأخرى بصرف النظر عما إذا كان الادعاء بعدم شمولية تعاليمها صحيحاً أم لا ، مشكلاً خطراً ماثلاً ومدمراً على الوحدة الوطنية ، علماً بأن هذا النوع من ردود الأفعال لاعلاقة له بتوفير أو عدم توفير مناخ خال من الإحساس بالاضطهاد الديني أو القومي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فهي تظل قائمة حتى إذا توفر هذا المناخ ، لأن التفرقة السياسية والإنسانية التي تترتب على التفسير الحرفي للإسلام وأركان الدولة الدينية التي تنتج عنه ، معروفة لدى الجميع ومتوقعة من قبلهم مهما كانت قناعة البعض بعكس ذلك.
ماهية العراقية
إن أهم الجوانب التي يمكن استنتاجها من التعريف والشرح الواردين أعلاه لمعاني الانتماء العربي والإسلامي، هو انعدام التناقض بينها سواء كمواقع أو كإمكانية . وأكثر من ذلك فإن التقدم على الطريق الصحيح للوفاء بالتزامات إحدى تلك الدوائر يقوي بقية الدوائر ، فحركة الوحدة العربية ذات المحتوى الاجتماعي بمختلف أشكالها القائمة على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة القومية بين العرب وغير العرب بنفس الأسلوب والمحتوى اللذان تتطلع لتجسيدهما التجربة العراقية الآن في بعض تياراتها على الأقل ولاسيما تلك الرافضة للاحتلال الأمريكي. إمكانية لاحدود لها لتحقيق تنمية جذرية وشعبية بحكم كونها تحمل من حيث الاتجاه والثروة المادية والبشرية ، الشرط اللازم للقدرة على مواجهة كافة الضغوط الخارجية وامتداداتها الطبقية الفئوية السياسية الاستغلالية في الداخل ذات النزعة التفتيتية للعراق. لذلك ، فإنه مهما كانت الصيغة الدستورية التي سيحددها الإقناع الطوعي لكل فئات الشعب العراقي لتفاعل العراق مع هذه الحركة ، فإنها ستكون انعاكساً للتوافق الطبيعي بين الميل المشروع للعرب في العراق في الإفصاح عن مستلزمات انتمائهم القومي دون الاستناد على مفهوم الأغلبية ، والمصلحة المشتركة لكافة فئات الشعب عرب وغير عرب في التصفية النهائية للتخلف والتي تعتبر في الوقت نفسه ضرورة لاغنى عنها لازدهار كل الكيانات الثقافية الأقوامية مهما كان وزنها العددي ومن ثم اكتساب للخصائص القومية بتداخلها مع غيرها أو بمفردها.
بناءاً على تلك المحددات علمياً لمعاني الانتماء العربي والإسلامي وعدم تناقضها ثم حقائق التداخل والتساند المتبادل بين هذه الدوائر التي تجعل لكل دائرة نصيباً في الأخرى ، يعتبر العراق قطراً وشعباً منتمياً لها جميعاً . فهو عربي إسلامي. ولذلك ، فإن مصطلح (عراقي) يعني الانتماء إلى جنسية قانونية لكيان سياسي موحد يتساوى فيه المواطنون مساواة مطلقة وتتفاعل فيه نحو صياغة أكثر تبلوراً للعلاقة القومية الجامعة ، حضارة عربية/إسلامية وثقافات كردية وكلدوآشورية ضمن انتماء عراقي عربي سياسي يجمع العرب وغير العرب.
على هذا النحو تصبح ماهية (العراقية) و(الشخصية العراقية) بعيدة عن المفهوم الشكلي الرائج الذي يراها كمجرد تجميع لثقافات متعددة في حالة جمود ، أو يقدم صيغة توفيقية وسطية تحت ذلك المصطلح كحل سياسي مؤقت لمشكلة غير سياسية في المقام الأول ، وكلاهما يتجنبان المواجهة المباشرة للقضية المطروحة التي يثور حولها جدل شديد يوحي بأنها غير قابلة للحل العلمي القائم على التعريف الموضوعي لعناصرها ، ثم اشتقاق المصطلح المطلوب من هذا التعريف . والوقع هو أن قدراً كبيراً من هذا الخلاف والجدل يدور خارج الموضوع ، وهو ما يتضح إذا وضعت المشكلة على وجهها الصحيح باعتبارها مشكلة تحديد محتوى المصطلحات أولاً ، فمصطلحات (إسلامي) و(عربي) لاخلاف عليها كصفات للعراق وشعبه ، ولكن القدر الموجود من الخلاف هو في مغزى هذه المصطلحات وعلاقتها ببعضها البعض التي تجعل منها مصطلحاً واحداً (عربي/إسلامي) وهو خلاف في تقديرنا محدود المدى ويمكن إزالته إذا تجرد الجميع من المفاهيم المسبقة والشكوك ، وأدركوا انه ليس على صلة بالصفات التي تستخدم لتحديد هوية العراق.