23 ديسمبر، 2024 6:22 ص

منذ صبيحة اليوم الدامي في الرابع عشر من تموز عام ألف وتسعمئة وثمانٍ وخمسين وحتى اليوم , تحول المواطن العراقي إلى رقم في حسابات الكراسي والمتسلطين على مصير البلاد والعباد , ففي ذلك اليوم سقطت قيمة الإنسان العراقي وأصبحت أقل من الصفر بكثير جدا , ومنه إنطلقت مسيرات الإعدامات والإعتقالات والتنكيلات والتفاعلات الدامية ما بين أبناء العراق.

فعلى مدى ستين عاما أُعدِم مئات الآلاف من العراقيين , وغُيّب عشرات الآلاف في متاهات المعتقلات وزنازين التعذيب الموحشات , وسُحقت الإرادة الوطنية وألغيت المواطنة , وتحولت الوطنية إلى مقاييس فردية وتحزبية وفئوية , وضاعت المعايير والأخلاق , فأمضت البلاد عقودها الستة على مذهب الإستباحة والإستحواذ , وهي تدين بعقيدة الإستلاب والقهر والحكم بالحاجات والإستثمار بالمشكلات.

فما حلّت الأنظمة الجمهورية أية مشكلة بل تنامت أثناءها المشكلات وتعاظمت الخطوب والويلات , وأصيب العراق بأفدح الخسائر وتكالبت عليه التداعيات وتراكمت في أروقته الملمات.

ومن الواضح أن ديدن جميع الأنظمة هو الحكم المطلق والإستبداد , وبأنها على حق دائما , وأي معارض يتم وصفه بما يسوّغ إفناءه والقضاء عليه , والمسميات معروفة ومتجددة , كالعميل والخائن والمندس والمتواطئ , والتابع والمتآمر والمتحزب, ولكل نظام قاموسه وطوابير من الذين يجيدون إبتكار التوصيفات , كما هي الحال اليوم , إذ لا تزال إسطوانة أعوان النظام السابق تدور , وأن نظام الحكم ممتاز وما هؤلاء المتظاهرون إلا من الحزب البائد , ومن الإرهابيين , ومن هذه المجموعة أو تلك , والقائمة طويلة وخطابات ذوي العاهات الكرسوية ذاتها , لم تتغير منذ ستين عاما.

فلا جديد بالأمر , لأن المواطن يعيش تحت وصايات متنوعة دينية وفئوية وطائفية وإستحواذية , وما شئت من التسميات التي يعج بها الواقع , الذي إنتخبَ الذين سرقوه وقهروه وما إستشعر ما يقوم به من فعل خطير , مما عزز فسادهم وقهرهم له.

واليوم يتظاهر الناس , وكعادة التظاهرات السابقة لن يجنيَ العراقيون شيئا , بل سيزداد الفساد والقهر والحرمان , مادام المواطن مُستعبد بالعمائم المتاجرة بالدين وبالفئويات والتحزبيات , وقد إرتضى لنفسه أن يكون بضاعة في مزادات الكراسي اللعينة.

ومادام المواطن يستهين بقيمته وحقوقه الإنسانية , ويعيش بلا كهرباء ولا ماء صالح للشرب وبلا خدمات صحية معاصرة , فأنه يعطي الضوء الأخضر لإمتهانه من قبل الفاسدين المستحوذين على السلطة والعابثين بالمال العام.

فهل وجدتم شعبا في الدنيا يقبل أن يعيش بلا كهرباء لخمسة عشر عاما , ويأنس لدوي المولدات ويساهم في إثراء المتاجرين بها والمتعاقدين مع شركاتها , والتي أصبح العراق من أكبر دول الدنيا إستيرادا لمنتوجاتها , والدولة تتفاخر برهن المواطن وقهره بالحاجات , وهو يستلطف العوز والحرمان , وهم يعيشون في قصور فخمة ويزينون عروشهم ويشترون الأملاك في أصقاع الدنيا , وعوائلهم تعيش في بذخ وإسراف , والشعب في نكد وإملاق.

لو أن الكهرباء إنقطعت في أية مدينة في الدول المتقدمة لبضعة ساعات لأقيمت الدنيا ولم تقعد , ولأطيح بالمسؤولين , ولثار أبناء المدينة بعنفوان مطلق , أما العراقيون فأنهم بالكهرباء مُستعبدون ومحكومون , وبالحرمان مرهونون , ويتحملون ويرتضون الإمتهان , وينتخبون جلاديهم والفاسدين فيهم , ومن ثم يتظاهرون , وبتظاهرهم يعيدون ذات الحالة التي تنتهي إلى إنكسار وعدم , وسيردد الفاسدون ذات المصطلحات كالمندسين والإرهابين وأزلام النظام السابق والمتآمرين والمغفلين , وغيرها التي سيتم إبداعها وإشاعتها بين الناس المقهورين بحياتهم , والمحرومين من أبسط حقوق الحيوان!!

وستأتيكم العمائم واللحى بتصريحاتها الفاسدة وفتواها الرائدة وستقود الجموع كالنعاج إلى صمت القبور , وهكذا يبقى ناعور التظاهرات يدور , ويفور التنور , ولا خبز يُرتجى , بل دخان يعمي العيون!!

تلك تظاهرات العراقيين الخائبة منذ عقدٍ ونصف , فعقب التظاهرات والإنتخابات هناك وعيد شديد وإتهامات وتهديد وتشريد!!

فما هي قيمة المواطن العراقي , وما هو تأثير صوته , ومَن يُصغي لأنينه وحسراته؟!!

أملنا أن تكون تظاهرات تموز ألفين وثمانية عشر , حدا فاصلا وقولا فيصلا , تعيد للمواطن العراقي قيمته وكرامته , وتأخذ البلاد إلى ميادين العلاء والرقاء!!

وقل: “إذا الشعب يوما أراد الحياة….فلا بد أن يستعيدَ الظفَر”!!