البشر في المجتمعات المتقدمة لا يهتمون بتأريخ بضعة أسابيع أو أيام سبقت , فآليات التفكير المتحكمة برؤاهم تتفاعل بأبجديات اليوم وغد , ولا يمكنها أن تفهم أو تستوعب أبجديات البارحة , لأن الشعور السائد والإحساس القائد أن الحياة تيار يجري بسرعة ولا وقت للنظر للوراء.
والبشر في المجتمعات المتأخرة متخندق في ما مضى وما إنقضى , فتجد الناس يحدثونك عما حصل قبل آلاف السنين , وكأنه شغلهم الشاغل وهمهم الماثل الذي لا يفارقهم ولو لبرهة , فلا معنى عندهم لليوم وللغد وإنما هي البارحة والبارحة وحسب.
ولهذا تجد وسائل الإعلام والصحف تزدحم بالكتابات المسطورة بأقلام البارحة التي لا تعرف المُبارحة , وتتمترس في التقهقر والسكون والقنوط والإنكسارات والخسران المقيم.
فأبناء المجتمعات المتأخرة لا يعرفون آليات التفكير المتصل بالآتي , ومن الصعب تأهيلهم لوعي وإدراك ذلك , مثلما يصعب على أبناء المجتمعات المتقدمة فهم البارحة , والتي يعتبرونها مضيعة للوقت وعبثا وسفها وقد يسخرون من الذي يبديها أمامهم.
يحصل هذا يوميا أمامي فأتأمله بإمعان وروية , وأكتشف العلة القائمة في مجتمعاتنا , ولماذا لا تعرف الخطو إلى الأمام , فيتضح أنها مصفّدة بقيود ماضوية ثقيلة , تمنعها من الحركة والخطو بضعة خطوات في سبيل قد يوصلها إلى بر الأمان , ويمنحها قدرات التواكب والتعاصر والإنطلاق.
فمجتمعاتنا لا يمكنها أن تزيح ركام الماضي وأثاقله المتراكمة , التي تدمر العقول والنفوس وتبعث اليأس وتؤازر القهر والحرمان والتظلم , والإندحار بالقاسيات والتمتع بالويلات الجسام.
ولهذا فأن المجتمعات المتأخرة لكي تتقدم عليها أن تزيح هواء التأريخ الفاسد , وتتنفس هواءً نقيا فواحا بالأمل والجد والإجتهاد , وغني بأوكسجين الحياة لا بثاني أوكيد الضياع والفناء , وما تعفن في أقبية الأجداث.
وليس صعبا أو مستحيلا أن ينطلق أبناء المجتمع نحو بناء الحاضر والتطلع للمستقبل , عندما تتوثب الإرادة ويتنور العقل وتتكاتف الأيادي.