مكتوبات التناوب السردي :(التانكي) رواية عالية ممدوح
(رجل يبول على الحائط،أباغتهم وألتفت،أنظر وأقف ../83- عالية ممدوح/ حبات النفتالين )
رواية التانكي: للروائية العراقية عالية ممدوح: يمكن قراءتها ضمن سرديات أخفاق المشروع التحرر الوطني، وبمواجهات ذلك هناك كتلة مؤتلفة في عزلتها المبصرة، والرواية تقتنص وميض لحظة عراقية فارهة ومحلوم بها في الوقت نفسه، وبشهادة العم مختار(كانت الحياة الجديدة تفتح الستارة عنهم وعنا../89)..ثم تتوارى اللحظة وتخرمها الحكومة، فيهبط وميض تلك اللحظة في قاع الذاكرة العراقية ويصير البول العراقي: شخصية رئيسة، تستحق التناول السردي، بول الخائف المقموع، العائش تحت طائلة التهديد وتنفيذه، ويعدنا هلال :(أعيدُ الاعتبار للبول، وأجعله عملا سرديا، وأترك له عنوانا معقولا،فالبول العراقي ومنذ اللحظات الأولى، وهذا كلام بلا تواريخ،وإلى اليوم بلا تاريخ،أيضا،هو الذي يستّرد مكانته الشاهقة، كما لو كنّا نروي ملاذات النفط الآمنة مثلاَ، فالأثنان لا يرويان العطش، والأثنان لا ينتشلاني من الغرق../120) هي رواية المصائر المجهولة : تصفية سامي والإدعاء أنه مات منتحرا وكذلك نقمة الوعي لدى عفاف أيوب..لا أحد في بحثه متيقن من مصير عفاف (لاندري إن كانت ما تزال موجودة، وتحتضر،أو أنها مجرّد مختفية /39)..
(*)
الفعل المضاد للعسف، تهمسه كومونة مؤقتة، وهي مزيج من ترجمة قصائد ديلان توماس والأغاني الأجنبية للصعاليك الأحرار يستلهمون من لهجتها البسيطة والواضحة المحرضة ضد الضد/ ص117 وهناك جانب حيوي فعّال، أعني ثورية فن العمارة يجسدها المثقف المعمار معاذ الآلوسي في تشييد الفضاء الرحب الذي أطلق عليه تسمية المكعب، وحتى نفهم هذا الصرح ونزداد وعيا بالرواية، لا بد من قراءة سرديات المهندس العراقي البارع في شعرنة فن العمارة أشهد ُ على ذلك بعد إطلاعي على كتابيه (نوستوس) و(ذروموس)..وما يخص الرواية هو الفصل المعنون(دور المكعب : وعواطف بغدادبة ) في هذا الفصل رسالة من معاذ الآلوسي إلى الروائية العراقية عالية ممدوح في ص248.
(*)
الكومونة المؤقتة، ويوتوبيا المكعب، تكالب ضدهما : النباحون والمفترسون، نحن الرابضون في الخراب العراقي،من صرخة الميلاد، والمغروسون الآن في لافتات إنتفاضة تشرين 2019، نرى وطننا من خلال عينيّ عفاف التي ترى نفسها(مربوطة اليدين من الخلف ووجهي نحو الحائط، والجدار ممتلىء بثقوب من الرصاص../130)
(*)
نزهتي نزهتان : واحدة فيما تسرده المؤلفة/ مستعاداً من زمن آفل وهو متسرب في ذواكرنا التي تخثر فيها دمنا جراء ظلام العراق المصنّع عسكريا وعشائريا وطائفيا، ونزهتي الثانية تلملمها قراءتي المنتجة من مسرودات فرشاة عفاف أيوب فتاة تجاوزت عقدها الثاني بثلاث سنوات،ثم عاشت في باريس ثلاثة عشر عاماً،إلى أن غمرها بياض المشفى وحين رفعت رأسها قليلاً عن الوسادة :(أبصرت السماء ووجها مقبلاً عليها،ليس واحداً كلهم ظهروا،لم يتقاعس أحد في ذلك الضرب من بياض الغيوم الآتية من وراء النافذة ../261).. هذا المشهد الجماعي، هو مفتتح الرواية وخاتمتها حين تبدأ الرواية بصورة فوتو، يبدأ تحريكها كما جرى، والصورة هنا لحظة يتواجد فيها الزمكان والكائن البشري، هنا نلاحظ أن السارد الأول هو أيوب والد عفاف يحتل نصف الصفحة الأولى من الرواية ص13.. ثم يتراجع إلى مكانه في الألبوم، وهو يعلن أنه أوكل شؤون قضية عفاف إلى الأستاذ صميم وهكذا يعرفنا السارد الأول على السارد الثاني، ويخبرنا ..الثاني : (معاذ أوكل لي خطة تدوين هذه المخطوطة ../15).. وسيتعرف القارىء إلى طرب زوجة صميم، وإلى مرشدها الهندسي المعمار معاذ الآلوسي، وعمها مختار، لا أدري لماذا يذكرني بشخصية سكوبي، في (جوستين) الكتاب الأول من رباعية لورنس داريل!!
(*)
ترى قراءتي المنتجة أنني أمام رواية أقرب ما تكون مسرواية، أعني رواية ممسرحة، فالشخوص يخبروننا أنهم يشتغلون مخطوطة سردية ولكل شخص وظيفته السردية في التشارك/ التناوب السردي في تجميع سيرة عفاف أيوب في(هذه المخطوطة أو سمها ما تشاء/ 14) السارد المختلف مع الكل هو العم مختار، فهو إذا أشتغل في أدوات عمل جديدة،فلن يصبح هناك أي عائق أمام نفسه، وتغدو روايته الموازية عنها تجاوزا لروايتنا../16)..و بشهادة صميم (ستكتسب هذه التدوينات أهمية خاصة وستأخذ مكانها حتى ولو بعد حين )، لكن هل لصميم القدرة الكاملة في التحكم بسيرورة سرد الشخصية المحورية عفاف أيوب؟ لنسمع صميم وهو يعترف للطبيب كارل فالينو (التأليف لم يبق تحت إمرتي، صار التأليف عدواً يقف عند حدود دماغي، وهو يعدد الخسائر والبلى،لم أتفرغ لسلطته وصرامته..لم أجد أفضل من تقنيات المكر والسّكر،مع حالات الانضباط السردي،كما هو في النظام السردي، وهو يفتح لي طرقا سرية في البحث عن نوع اللامبالاة المطلفة /36) وصميم في اشتغاله السردي الذي يجعله يتموقع بدرجة سارد عليم بنسبة 70% يعترف للدكتور(دائما أخرج عن النصّ،فأودّ إعادة ترتيب بعض الوقائع، وجلب الآنسة إلينا ثانية ../37) ومهمتهم الرئيسة هي القيام(بتحضير الخلفيات الفاجعة في الرسم والفن، في السياسة../39) وبشهادة صميم وهو يخاطب الدكتور كارل فالينو (ها نحن نتفاوض معك، ونتناوب على إدارة السرد، ولا علم لنا من سيدخل ولا يخرج،ومن يحضر لدقائق ويغيب، ومن يعرض علينا الفظاعات لإخافتنا، ومن يريد العيش معنا../22) وتتوزع أدوار السردية كالتالي يسرد الدكتور قسما من الملف الطبي وسيعرج على الملف الفني، أما الشخوص فسيتناولون الجانب الحميمي .. ومن المتوقع أثناء الاشتغال الجمعي على المخطوطة سيتسع الفضاء النصي بمؤثرية المتغيرات الزمنية وبشهادة العم مختار(من الجائز أن فريق العمل المتكوّن من :صميم وطرب ومعاذ سيضيف عناوين حديثة لهذا المخطوطة الذي نشتغل جميعا عليه. فنحن اليوم في العام 2011 وفي آب 2010 سحبت المارينز قواتها من العراق../72) والزمن الروائي يتنقل بسرعة البرق، (والفصول تتداخل فيها اللقطات القريبة والبعيدة كأننا موتى../117)
هاهي عفاف تحّدث معاذ الآلوسي عن نفسها(أستاذ،أنا مادة خام موجودة،وأتحرك ما بين هنا وهناك، الأرض والسماء، نحن الآن في العام 1973 وفي هذه اللحظة الراهنة والحرب بين العرب والدولة العبرية بدأت ..وكأننا نحن مواد الحرب،الحروب جميعا../48) هكذا تخاطب عفاف معاذاً، وهكذا ترى طرب عفافاً وهي تخاطب الدكتور كارل فالينو (أنا أعتقد أن الرجال الذين تعرّفت وأغرمت بهم حاولوا إرادتها بالدرجة الأولى، وتخصصوا،ربما بعلمهم أو دونه في أذيتها وبالتالي في أهتزاز شخصيتها /51) هذا الحكم الانحيازي، يصور عفاف محض متلق سالب للذكورة. ومعاذ يرى اللامرئي بين عفاف وصميم زوج طرب (عفاف لا تظهر أعجابها بصميم علانية، من الجائز أن صميم يجسد لها ضمير الغائب الذي تقدّر أن تشير إليه ببعض الألفاظ../55) من موقعي كقارىء منتج أرى أن هذه الفئة المثقفة في الرواية تستلذ أغترابها/ تأوربها وهي في عراق الإستبداد، ولا تتقدم خطوة . ومثلما يوجد يوتوبيا المكعب،بالتجاور يوجد الجرداغ، في البصرة الجرداغ يعني مخازن التمور وتنضيدها حسب أنواعها، وتجهيزها للبيع، وجمعها : جراديغ. في الرواية، تصنفه المؤلفة عالية ممدوح،على لسان العم مختار أيوب،تصنيفا مصريا(الجرادغ فهو يعادل الشاليه عندكم/ 84)!! والجرداغ، في الرواية منتبذ أختياري،مطوّق بكثافة شجرية، ولا يجاوره سوى الخلاء، هو (مخصص للرجال، لسحر الأطاليب، والعرق العراقي) ..المكان يكون مأهولا : الخميس والجمعة، يلتقي فيه خليط بشري من حكومة متقاعدة وحكومة في دوام كامل، الكل هنا محكوم بالعرق، ورقص الغجريات، وكلهم من أصدقاء ليل مخمور، يتحررون من عبودياتهم بالغناء والصراخ، وتكون السياسة: طلاء ألسنهم، هذا الطلاء المؤدي إلى التشاتم بينهم والعراك، وبالنسبة للعم مختار هو المكان الوحيد الذي يعيش فيه من أجله ليله ِ الخاص،خلافا للجرداغ تكون العلاقة في البيت،حيث الصمت والتجاهل (أفتح غرفتي إلى آخرها، فلا أسمع سعالاً، لا من مكيّة ولا فتحية،فكل واحدة منهما لم تعد تتودد ليس لي، ولكن للأخرى، فلا نميل للاعتراض على أي واحد منّا إلا بالتجاهل الهادىء الذي يرسّخ فكرة أنتفاء المبادرات كشركاء../88) ..
(*)
هلال شقيق عفاف مدعو للمشاركة السردية، الآخرون طلبوا منه :قراءة مشاركاتهم السردية، لا من أجل تصحيحها، بل من أجل (التورط بتدشين الفصل الذي لا أعرف ترتيبه /102) لكن المشكلة لدى هلال أن لغته العربية فقدت معظم ملابسها الأسلوبية، فكيف تكون كتابته وخزانة ملابسه لا تحتوي(إلا فانيلا ممزقة، ولباس داخلي خبأته في جانب من الخزانة،بسبب لونه المصفّر في كل نسيجه../102) هلال يحاول تفتيت محمور السرد، منتقلا من محور السرد: عفاف إلى الأطراف التي تنامى المحور منها وسبب نقلة هلال السردية، أن الساردين قبله (لم يشيروا لأسباب الأخوة الموجعة بين الأشقاء..) ما يكتبه هلال هو ضربٌ من الأمالي (عفاف هي التي تقودني من ذراعها..) ثم ينتقل هلال للحديث عن شارع التانكي، ينشغل بتوصيف التانكي نفسه /103، ثم ينتقل سرده من البراني إلى الجواني / البيت والتركيز على الخالة فتحية ..ومن الجواني نصل إلى سرد مخبوء مخزون في ذاكرة فتحية (نضع في حجرها سرنا،فتصونه إلى يوم الدين..) وسرد مقفل في صندوق بيبي فاطم تتوسلها عفاف:(بيبي الله يخليك،خلينا نفتح صناديق عرسك وثيابك العتيقة،ونشوف صور الزفاف والقنادر.هل كانت مرتفعة عن الأرض كما في أيامنا، وكم كان عُلوها؟…/113)
(*)
ملاذ مختار: الجرداغ
ملاذ عفاف : باريس .
معاذ الآلوسي : المكّعب
هلال : غرفته و يوتوبيا مؤجلة : خيمة داخل فضاء منطقة الكريعات .
(*)
عفاف في ربيع عمرها، لكن وعيها المصدوم بدولة المستبد، يصيبها بشيخوخة مبكرة، وهي شيخوخة غير مزودة بحكمة عمر الشيوخ (هي صامتة لم تنتبه لأي أحد، لا وقتذاك ولا الآن،فلا تريد أن يكون سنها أربعة عشر عاماً،هذا الرقم جائر،فهو لم يحرّك ساكناً،وهي تُبصر سنّها في المرآة،فترى نفسها عجوزاً تتهالك أمام حشرجات الآنسة والآنسات داخلها.لم ترتوِ من الرابعة عشرة،ولم تتنعّم برائحة الأنثى التي بلغت وجاءها الحيض قبل عامين ../234)
(*)
كلتاهما : المؤلفة عاليا ممدوح وعفاف أيوب : تستحضران ماضيا يتقدم حاضرنا بمؤثريته في مستقبلنا المهدد بالغموضات، كلاهما تعزفان ماضيا يخاطبنا بضمير الغائب.المؤلفة تشتغل على أشرس سنة عراقية 1979..(كانت الجبهة الوطنية ما بين حزب البعث والحزب الشيوعي تتفكك وتحت ضوء ساطع كيف يحصل الانهيار، ياترى؟ في أية ساعة، تم ذلك،ومتى كتبَ وحدد تاريخ التفكيك؟ فالحزبان ثملان، أحد الحزبين توقّف حيضه، والثاني تعرّض للخصاء/ 215). لو سألنا عفاف أيوب :لماذا أخترت ِ باريس حصريا سيكون جوابها نظيفا :(أريد تنظيف حواسيّ جميعها،فلو بقيتُ هنا، لعميت ُ وأختفيت ُ!/ 24) ربما سنكتشف السبب من خلال اللحظة التي تستعيدها عفاف في متنزه الزوراء تجسد ما جرى ويجري لحد الآن، حين يتوجهان هي ويونس إلى الزوراء، فتطلب منه أن يعانقها أمام الحيوانات الحبيسة في أقفاصها، في مثل هذه اللحظة الحيوانية، وهنا تخاطب يونس بمرارة :(ترى ماذا يعني هذا المكان في هذه الساعة يا يونس؟ ومَن نكون إلا هذه الحديقة ونحن نتلقى الخراء؟/ 231)
(*)
حين أنتهيتُ من قراءتي الأخيرة، تساءلت قراءتي المنتجة : عفاف أيوب : لمن تكون هي أقرب : للتانكي أم للمكعب ؟
*عالية ممدوح: التانكي/ دار المتوسط / ميلانو – إيطاليا/ 2019