من كان يحسب أن يمد بعمرهِ حُكْمٌ أقيم على أساسٍ هاري؟
الجواهري
متى يتأهب العراق لدفن ظلال الحاضر وطرد شبح الماضي؟
يشير المعنى البيّن إلى معنى كامن لما يجري في فرو المثقف العقائدي المستعاد وهو يستدرج البراغيث إليه وهذا الاستدراج هو ضرورة يراد بها الاحتيال على الأوضاع الثقافية القائمة في (العراق الجديد) ويجب أن نلاحظ أن هذا الاستدراج لا يمكنه أن يُميّز بين التنويعات الثقافية العراقية المختلفة وما يُجذرهما معاً في صراعات تحجبها لغتهم العمومية والخصوصية والعابرة ولا تنيرها إلا بنية طائفية واضحة أو عنصرية عقائدية صارخة . إذن، الاستدراج القادم هو إغفال مميز أو كلمة بمعنى واحد لا تكتسب فحواها إلا كأثر داخل العقل الثقافي الهزيل لتلك البراغيث الموتورة التي لا تُحتمل، البراغيث هنا تُستخدم كأفيون لجزء من العلة لكي يركن المعلول إلى وهم تبرير الهزيمة والجهل وفي كلتا الحالتين لا تكتشف البراغيث حقيقة الأشياء، نتيجة لغبائها، إلا بعد أن تسحق بالاقدام من قبل المثقف العقائدي الجديد .
يتكىء المثقف العقائدي الجديد على موروثه السياسي القديم ليلعب لعبته الأخيرة في ثقافة العراق فيحلّ، كما يعتقد، بشكل نهائي مشاكله المستعصية التي عالجها ويعالجها، بسبب حماقاته، بشكل خاطىء فالعقائدي يرى ما لايراه من لم يكن عقائدياً أو دليلاً أو متملقاً له أو خائفاً منه، إذ هو يخترق الباطل إلى الحق، الجوهر إلى الظاهر، الحياة إلى الموت أو المعرفة إلى الجهل وبهذا سيحفر فوق ثقافة العراق قبره ليتأهب لدفن نفسه ومن وفد بمعيته من الوجوه واللصوص والادلاء والمتلونين .
يتكىء المثقف العقائدي الجديد على طائفته وحزبه وقبيلته ليكون منتصراً، وطريقه إلى النصر الثقافي مناسبة يدلّل فيها على طرقه المتنوعه إلى الموت وانتصاره في الموت مقدمة لموت جديد لاحق، لأن الموت، من وجهة نظره العقائدية، درجة عليا ترفع القاتل إلى مصاف الملائكة أما القتيل فسيركن في بلاط الشياطين بعد أن جُردّ من كل صفات البشر ففي عالم اليوم لا يتم التمييز بين الحجر وبين البشر أو بين المعرفة والجهل .
هناك من سيهرب، من ثقافته المزورة، أو من سيحاول أن يجد إلى الهروب سبيلاً وعليه سينطوي على الهارب سر الهروب الذي يجعله مشرداً أو مطلوباً ثقافياً وهنا أيضاً سيؤكد لنا الهارب من خلال هروبه أن ثمة مواجهة ثقافية جديدة ستحدث بين هارب ثقافي مزور يسعى إلى الخلاص ومجتمع ثقافي حر يسعى إلى القصاص الثقافي منه ومن احقداده وسرقاته وعقائده وبهذا سيمسي الثقافي الحر ضامناً للانتصار على العقائدي، وهذه النماذج الهامشية الهاربة والتي ستهرب لاحقاً سلتفظها الحياة الثقافية الحقيقية مثلما يلفظها الإنسان العراقي الحقيقي وفي نهاية المطاف ستخذلهم الشجاعة حتى على الانتحار وستكتشف الأيام القادمة وجوههم العقائدية المقيتة .
إذا كانت الثقافة الحرة، بكل أشكالها، واقعاً قائماً ماثلاً، له ضحايا سالت دماؤهم وتقطّعت أشلاؤهم في الشارع الثقافي بالسلاح الطائفي والسلطوي أو العقائدي كما سالت وتقطّعت دماء وأشلاء ضحايا أخرى داخل السجون أوالمنافي، هؤلاء الضحايا الابرياء ينتسبون إلى الثقافة الحرة ومداها النزيه، ما هو مصيرهم؟ هذا هو السؤال الذي نطرحه اليوم هنا، أن جوابنا عن هذا السؤال يتعارض مع قول المبررين من جهة أو الساخطين من جهة ثانية، إن الصراع العقائدي يدور في جوهره على أرض العراق وليس خارج حدوده بين من يريدون عراقاً ثقافياً وبين من يريدون عراقا متخلفاً وهذا هو جوهر ما تتأهب إليه العقائد الجديدة في قادم الأيام كي لا تتعرض للدفن والهزيمة، وهذه الحالة تتجلى في مظاهر عديدة تتعلق بتناقضات المشهد الثقافي العراقي الراهن وتقلبات من يمارس الكتابة الموسمية المتقلبة أو المبنية على شرط العلاقات الخاصة .
يبدو أن المفارقة التأريخية هي التي ستجعلنا ندرك المأساة أو نستعيدها ثانية بوصفها صيرورة تأريخية أستمرت وما زالت مستمرة في الوعي الجمعي بفضل انفتاح الدلالة والمعنى الدرامي وما تحمله من مضامين سياسية واجتماعية وفكرية ويبدو أن العقائدي قد نسي في لجة الحماسة أن لواقعة الحرية معنى ثابتاً مكتملاً صاغه الثقافي المتحرر .
الحماسة العقائدية الجديدة ما تزال بعيدة عن أي تطبيق سياسي أو ثقافي أو اجتماعي ممكن وقد قدمت التجارب السابقة واللاحقة أغنى العبر على الفشل الخلاّق، نكاية بالفوضى الخلاقة، بسبب ميلها إلى اتخاذ العنف، بكل أشكاله، مرجعاً وأسلوباً يعلو على أية نسقية حوارية إنسانية متمدنة قادرة على مدّ الجميع بوعي حضاري متماسك لحقائق ما يجري في البلاد، نقول في نهاية الكلام، أن الآوان آن لإعادة وعي الفارق بين الحقيقة ونقيضها أو الثقافة ونقيضها وهذه حاجة باتت ماسة لدفن العقائد والتخلص من مافيا العلاقات الخاصة .