وفي الاول من كانون الاول/ نوفمبر عام1968م وصل الضابط الإسرائيلي (اسحق عباوي) الى كردستان العراق، [ وهو ضابط برتبة رائد في وحدة الاحتياط التابعة للمظليين، وقد توجه الى كردستان كاعارة من الجيش للموساد، وقد ولد عبادي الذي كان الجميع يلقبونه (إيني) في سورية، وكان يتحدث اللغة العربية بصورة ممتازة]. ينظر: الموساد في العراق، ص223.
وفي كانون الاول/ نوفمبر عام1986م وصل الى كردستان العراق أيضاً الطبيب العسكري الاسرائيلي (الدكتور الكسندر بريشمان)، والذي سبق أن عمل ضابطاً في لواء جولاني وسلاح المظلات، وفي رسالة الى زوجته ذكر بريشمان: سامي، وهو محمد محمود عبدالرحمن، والذي يعتبر مقرباً لملا مصطفى البارزاني بصورة تشبه قرابة أبنائه، وقد تعلم سامي اللغة الفرنسية من الضابط الاسرائيلي الكسندر بريشمان،[
وقد كشف سامي عبدالرحمن النقاب للضابط الاسرائيلي اسحاق عبادي أن قيادة التمرد (= الحركة الكردية) قررت توجيه ضربة الى المنشآت النفطية العراقية في كركوك، وإن ذلك يرجع الى ثلاثة أسباب، وهي:
خلق تهديد لاصحاب شركة النفط البريطانية من أجل ارغامهم على ارسال أموال الى الأكراد لاتقاء شرهم في المستقبل، ومنعهم من تدمير المصانع.
اضعاف الاقتصاد العراقي الامر الذي سيؤدي الى اضعاف الضغط العراقي العسكري على الاكراد.
خلق أصداء واسعة لدى الرأي العام العالمي بالنسبة للقضية الكردية. ينظر: شلومو نكديمون، الموساد في العراق ودول الجوار، ص224
وقد بعث اسحاق عبادي الى المسؤولين الاسرائيليين معلومات حول الخطة، ونصح بتأييدها، ويذكر أن هذه الفكرة طرحت عدة مرات إبان المشاورات الكردية مع المستشارين الاسرائيليين، أما الآن فقد اتخذت هذه الخطة كعمل لا مناص منه.
وفي السادس من كانون الاول/ نوفمبر عام1968م، تمت مناقشة الخطة خلال الجلسة الاسبوعية لهيئة وزارة الدفاع الاسرائيلية، وتم الاتفاق بيننا على رأي موشيه ديان: دراسة امكانية الوصول الى تعاون تنفيذي مع الاكراد، وكان الواضح أن من المستحيل تنفيذ مثل هذه العملية بدون موافقة الإيرانيين، وبناءً على ذلك على ذلك توجه رئيس الموساد ( زامير) ومعه (هروبن) في كانون الاول/ نوفمبر عام1968م الى طهران، وشرعوا في نقاش القضية بحضور الضابط الاسرائيلي ( ديفيد كرون) مع زملائهم من السافاك.
وكان الايرانيون حتى ذلك الحين يفرضون حظراً على اقحام قضية النفط والمنشآت النفطية في النزاع، لأنهم خشوا من أن يوجه العراق ضربة مماثلة الى المنشآت النفطية في خوزستان (= عربستان)، أما الآن فقد وافقوا على رفع هذا الحظر، وحمل رئيس الموساد ( زامير) وزميله ( هروبن) الضوء الايراني الاخضر الى كردستان.
وفي العشرين من كانون الاول/ نوفمبر عام1968م طرحت القضية مرة أخرى في مكتب وزير الدفاع ثم ناقشها مع رئيس الموساد، وحدد الهدف من العملية بالحاق أكبر قدر ممكن من الأضرار بالمنشأة النفطية العراقية، من أجل شلهل أطول زمن ممكن. وكان الضابط الاسرائيلي عبادي يعتزم التوجه مع سامي عبدالرحمن في جولة لاستكمال التفاصيل المطلوبة لاستكمال العملية، بيد أنه اضطر للبقاء في المؤخرة؛ نظراً لأن سامي جاء مع شخصين ما كان يجب أن يعرف بوجد الضابط الاسرائيلي (اسحاق عبادي). ينظر الموساد في العراق، المرجع السابق، ص224 – 225.
ويظهر أن الشخصين المرافقين لسامي عبد الرحمن هم كل من: فاخر محمد آغا مير كه سوري وفارس باوه آمرهيز دشتي أربيل، والذي لم يريد الضابط الاسرائيلي أن يعلما بوجوده مع سامي لاسباب أمنية؟. ينظر: مسعود البارزاني، البارزاني والحركة التحررية الكردية، أربيل، ج3، ص209.
وفي 26/12/1986م تسلل كل من سامي ومرافقه الاثنين الى منطقة الهدف في منطقة كركوك في لباس رعاة الاغنام، وقد ركبوا على بغالهم لمدة أربعة أيام حتى دخلوا الى منطقة كركوك ولم تكن المعلومات التي جلبوها كافية، وبعد الجولة الاستطلاعية الثانية من البحث والتقصي والاستكشاف التي قام بها سامي، رسم الضابط الاسرائيلي في مخيلته هدفين يجب التركيز على ضربهما منطقة الاستخراج والتصفية الاولى للنفط الخام، ومنطقة النفط المصفى، وأصبح واضحاً له أيضاً، أنه لا يستطيع نصب رشاشاته إلا على بعد 5250 متراً من الهدف، وكان بحوزته ثلاث راجمات كاتيوشا تستخدم لمرة واحدة، ويمكن تشغيلها بالكهرباء، وكان سلاح الهندسة الاسرائيلي قد طور هذا النوع من الصواريخ، بناءً على طلب خاص من الموساد. وتم تجربة هذا النوع من الكاتيوشا في كردستان ، ويقول عبادي: إن الراجمة إلتوت في أقاب اطلاق الصواريخ، بيد أن الاطلاق الثاني نجح وأصاب الهدف، لكن عبادي فضل استخدام سلاح آخر، أكثر مصداقية وأمانة في الاستخدام: مدافع غير مرتدة من عيار 106 ملم من انتاج الاتحاد السوفياتي، والتي تستخدم كمضاد للدبابات في اطلاق مباشر حتى مسافة 1250 متراً، وراجمة من طراز120 ملم والتي يتراوح مداها بين 4500 – 6500 متر. وقد طالب عبادي اسرائيل بتزويده بالقنابل الخاصة بالمدفع والراجمة، وتم ارسالها إليه فوراً.
قررعبادي استخدام المدافع غير المرتدة بتوجيه غير مباشر متدرج المسار من أجل زيادة مداه بالنسبة المطلوبة، وقام باجراء تجارب اطلاق النار في ميدان التدريب الكردية حتى عثر على الزاوية المناسبة لاستخدام المدفع، وحينها اتصل بمسؤوليه، وقال: أصبح جاهزاً لتنفيذ العملية، بيد أن المترددين في الموساد دفعوا باتجاه التأكد من ذلك عبر ارسال ضابط آخر الى عبادي لتفحص الأمر، ووقع الامر على الضابط ( امير كيرن)، والذي توجه الى كردستان، وحضر مع عبادي تجربة اطلاق المدفع على براميل بنزين وضعها عبادي الى الابعاد المطلوبة وشاهدها وهي تخترق، وأرسل ( امير كيرن) الى مسؤوليه في الموساد يؤكد لهم نجاح التجربة.
أدرك عبادي وكيرن أنه ليس بمقدورهما مرافقة القوة التنفيذية الى الهدف، لذا حرصا كل الحرص على اختيار أفضل الاماكن للدفاع مستعينين بخارطة سوفياتية جيدة للمنطقة.
تطلبت عملية الكسندر توفر (250) مقاتلاً للعمل في مجال الحماية، ووضع الحواجز على الطرقات، والنقل والتشغيل. أما عملية التصويب واطلاق القذائف، فقد تطلبت وجود مجموعة صغيرة من المقاتلين المتميزين، وبدا أن هناك (25) مقاتلاً فقط ممن اجتازوا دورة همدان،[ وهي الدورة التي أقامتها اسرائيل للبيشمركه في معسكر إيراني قرب مدينة همدان بقيادة الرائد ساغيه بصحبة اثنين من كبار الضباط الإسرائيليين المظليين وهما يهودا بار وعوزي فرومار، والخبير في العمليات المسلحة ناتان راهاف] في صيف عام1968م يصلحون لهذه المهمة.
وشرع عبادي وسامي بتنظيم دورة لاعادة احياء معلومات تلك المجموعة. وفي نهاية هذه الدورة خرج العبادي باستنتاج مفاده أن المجموعة لم تنجح في أداء مهمتها إلا إذا كان العمل لا يحتاج الى أي تفكير أو تدبير، في حالة حدوث عقبة. ولهذا السبب أحضر من إسرائيل أجهزة قياس وبثها الى أقنية المدافع وحدد الزوايا مسبقاً دون أن يسمح بأي امكانية للتغيير، ثم توجه الى المنطقة ودق وتدان بحيث يتم وضع كل مدفع أو راجمة لديهما، الوتد الاول للاشارة الى الهدف، والوتد الثاني لتحديد المكان الذي يجب وضع أرجل المدفع فيها.
لم يكن أي من المقاتلين الكرد يعلم السبب في التدريبات النمكثفة باستثناء سامي، وبدا لهم أن عملية تحديد أماكن المدافع والراجمات، وأيضاً عملية نقلها على البغال بهذه الصورة غريباً، بيد أنهم كانوا يعتمدون على سامي. وفي تلك الآونة أكمل ضابط الموساد (امير كيرن) فحوصه، ثم عاد الى اسرائيل، ولم يكن لديه شك في مدى ضرورة العملية.
كانت الطريق الى الهدف طويلة وشديدة الالتواءات واستغرق الوصول ثلاثة أسابيع، وكان المقاتلون وبغالهم يتحركون فقط في ساعات الليل، كي يحولوا دون اكتشافهم أو تعرضهم للطائرات، وكان كل بغل يحمل صندوق ذخائر بزنة (50) كغم، وكان عليهم اجتياز نهر الزاب الصغير (= الاسفل) أحد روافد نهر دجلة.
على أية حال وصل المقاتلون الى الهدف بأحمالهم، ووزعوا مدافعم وفقاً للتحديد الذي أقره الضابط الاسرائيلي ( اسحاق عبادي)، وفي الخامس عشر من شهر شباط/ فبراير عام1969م وعندما أصبح كل شىء جاهزاً للعمل قرر العبادي العودة الى إسرائيل، وقبل عودته حلق ذقته التي رباها في كردستان، والتي جعلت الكرد يطلقون عليه اسم ( أبو ريشه).
وفي الاول من آذار/ مارس عام1969م، أطلق المقاتلون الكرد (= البيشمركه) نيران مدافعهم وراجماتهم على منشآت النفط العراقية قرب كركوك حسب الخطة المقررة فاشتعلت فيها النيران، وبعد يومين أفادت وسائل الاعلام الدولية: بأن الاكراد نفذوا عملية تخريبية في مصنع نفط في شمال العراق، ولا شك أن دقة العملية يؤكد على الاحتراف والتخطيط الجيد.
وأفادت جريدة التيلي كراف البريطانية في الحادي عشر من آذار/ مارس 1969م، أن العراقيين يعتقدون أن الإسرائيليين هم الذين نفذوا العملية. وفي الخامس عشر من شهر آذار/ مارس 1969 نقلت وسائل الاعلام نبأ قصف المنشآت النفطية في كركوك، ثم سمع النبأ الذي وزعته شركة النفط العراقية، والتي جاء فيها أنه تم تدمير عشر وحدات من الاثنتي عشر وحدة الخاصة بفصل الكبريت، والتي كانت جميع كمية النفط الخام المنقول الى الانابيب الموصلة الى ميناء بنياس في سورية، ويناء طرابلس في لبنان، لبنان تمر بها، مما أدى الى تخفيض مستوى انتاج النفط الى 50%. وفي شهر أيار/مايس 1969 أي بعد حوالي عشرة أسابيع من العملية، نشرت جريدة الصندي تايمز البريطانية تقريراً مفصلاً بتوقيع( جون كيلبراكن) وهو صحفي بريطاني، كان قد أجرى مقابلة مع سامي عبدالرحمن حول العملية، غير أن سامي أخفى الدور الذي قام به العبادي في القضية. ينظر: الموساد في العراق، المرجع السابق، ص227.
ومن الجدير بالذكر ان ( اسحاق عبادي) المتورط في عملية التخريب وفق المصادر الاسرائيلية بصورة مباشرة، لم يكن ساعة تنفيذ العملية في كردستان، بل كان في مستعمرته- كيبوتسه ( دجانيه . أ) في إسرائيل، وأدرك من التقارير التي وصلته أن عملية (الكسندر) وهو اسم مستعار للعملية قد سارت على ما يرام. ينظر: الموساد في العراق، المرجع السابق، ص223.
وفي الرسالة التي بعث بها سامي للضابط الاسرائيلي اسحاق العبادي في السادس عشر من آذار/ مارس 1969، جاء فيها:” صديقي الغالي آمل أن تكونوا جميعاً بخير، العملية كانت ناجحة، ونحن واثقون من أن نصيبك كان كبيراً، ولولا مشاركتك لما نجحت العملية. المرجع السابق، ص229.
وبعد فترة وجيزة (= يعتقد أنها جرت في بداية شهر نيسان/ ابريل تقريباً) وصل سامي عبدالرحمن الى اسرائيل في زيارة قصيرة واستضافه عبادي(= يبدو أنها كانت بمثابة تكريم له)، وانتهز عبادي هذه الفرصة لاستجواب سامي حول العملية وظروفها. واتضح أن مسيرة المقاتلين الكرد استغرقت اسبوعاً، قطع خلالها المقاتلون (140) كم، واجتازوا نهر الزاب الصغير بقوارب من تلك التي تحمل الحنطة بين الضفتين، لقد حمل (150) بغلاً عشرة أطنان من الاسلحة والمدافع غير المرتدة، والراجمات وذخائرها، وقد وجهت المدافع الى المنطقة التي كان يعمل فيها أحد عشر بئراً، والراجمات باتجاه ( مزرعة) الحاويات النفطية والصهاريج، وقد أصابت القذائف عشر آبار اصابة مباشرة، وعلى هامش الزيارة التقى سامي عبدالرحمن برئيسة الوزراء الاسرائيلية كولدا مائير.
وأبدى عبادي اهتماماً، فيما إذا كانت العملية قد أوقعت ضحايا أم لا، فرئيس الموساد ( زامير) طلب منه منذ البداية أن يضع الخطة بحيث لا يصاب الفنيون أو العمال، وعلى وجه الخصوص الاجانب منهم، ولا شك أن مدى القصف كان بعيداً جداً عن المنطقة السكنية، اضافةً الى أن القصف تم بصورة تدريجية، لاتاحة الفرصة لمن أراد أن يهرب من المنطقة، وعلى بعد قليل من من حقل النفط كالنت هناك قاعدة تضم كتيبة كوماندو(= قوات خاصة عراقية) محمولة جواً، ولكن وكما يبدو لم يصل أي جندي عراقي الى مكان اطلاق القذائف، ولم يطارد القوات الكردية، إبان انسحابها نحو المنطقة الكردية. الموساد في العراق، المرجع السابق، ص229.