يبدو أن مصدر الرد السلبي للاقتراحات المطروحة حول استقطاب الدعم الاسرائيلي لمشاريع الاطاحة بالحكومتين السورية واللبنانية، بواسطة عناصر درزية ومارونية وشركسية وكردية كانت تحتل مراكز مهمة في أجهزة الدولتين وفي قواتهما المسلحة التي أنشأتها ودربتها فرنسا أثناء انتدابها على هذين البلدين كان من جانب أعلى الكوادر السياسية في إسرائيل: وهو ديفيد بن غوريون رئيس الحكومة الاسرائيلية نفسه ووزير خارجيته (موشيه شاريت)، ويتضح ذلك من الرسالة التي بعث بها دانين لساسون في الرابع والعشرين من شهر تشرين الاول/اكتوبر عام 1948م، والتي جاء فيها: اجتمعت ببن غوريون في الثاني والعشرين من تشرين الاول(=1948م)، واطلعته على اتجاه تفكيرنا بشأن سوريا، وأوضحت له أن غالبية قادة الجيش، وقسماً لا يستهان به من المسؤولين الاداريين في دمشق، هم من الاقليات، وقد رد على ذلك بالقول باختصار شديد: لن نقحم أنفسنا في دوامات جديدة.
وعندما طرح الامير بدرخان فكرة الاستقلال الكردي بقوة هائلة، خيل ليوفال نئمان أنه يرى صورة لبن غوريون، فهو رجل شديد الحماس، ويمتلىء صدره بايمان لا يعرف التهاون، ويخوض معرض معركته بقوة هائلة. وقد أعرب علانية عن خوفه من حدوث مذبحة ضد الشعب الكردي. وقال لنئمان: لقد نلتم ما كنتم تصبون إليه، والآن يتوجب عليكم أن تدربوا شبيبتنا، أعدوا لنا موادر، وسوف نرسل اليكم أذكى شبيبتنا كي تحولوهم الى ضباط وجنود كي يقودوا مقاتلينا على طريق الاستقلال، تماماً مثلما تمكنتم أنتم، من تحقيق استقلالكم.
وبعث نئمان تقريراً مفصلاً لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية المسؤول، يهوشفاط هركابي[(1914-1994م)- وهو قائد في الجيش الاسرائيلي. كان قد خدم في صفوف الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، واشترك في حرب عام 1948م، شارك في الوفد الاسرائيلي إلى محادثات الهدنة مع الدول العربية في رودس، وتولى دائرة الاستخبارات في الجيش الاسرائيلي من عام 1955لغاية عام 1959م. بعد أن أنهى عمله في دوائر الحكومة اتجه نحو دراسة التاريخ الشرقي والاسلامي بوجه خاص، ونال الدكتوراه من الجامعة العبرية ثم انضم إلى محاضريها. وكُلف في فترات معينة رئاسة معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الاسرائيلية]، لكن هركابي كان يشك في القضية. أما نئمان فلم ينفض يده من القضية، وفي تلك الآونة زار باريس شاؤول أبيجور[(1899-1978م) رئيس الموساد السابق للهجرة الثانية، وأحد مؤسسي المخابرات الاسرائيلية، ورجل المهمات السرية والخاصة لصالح الامن القومي، وهو صهر رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق موشيه شاريت]. فقام نئمان بترتيب اجتماع بينه وبين بدرخان.
ويقول نئمان: عقد الاجتماع في شقتي، وجاء أبيجور مثلما هي عادته باسم مستعار هو (مسيو بن ديفيد) وقد حدث لديه انطباع جيد جداً ووعد بعرض القضية أمام بن غوريون، وأوفى بوعده. ويقول نئمان: أنه يعتقد أن جميع الاحداث التي وقعت بعد ذلك، بما فيها الاتصالات مع الملا مصطفى البارزاني، ولدت في أعقاب لقاء أبيجور وبدرخان.
ويضيف:” … ليس أدل على ذلك مما حدث خلال الزيارة الاولى التي قام بها البرزاني، في نيسان 1968 لاسرائيل. فقد جرى له استقبال رسمي فخم في بيت الضيافة الحكومي، الذي يتم فيه استقبال الضيوف الاجانب والسريين أحياناً، قدم خلالها كل ما لذ وطاب من طعام وشراب، وقام رئيس الموساد اللواء مائير عميت(1921-2009م) بتعريف البرزاني على يوفال نئمان، وقال له: هذا هو الرجل الذي مهد لكم الطريق لدينا، فقام البرزاني بمعانقتي وتقبيلي. ويقول عميت: كان بدرخان قد كرس كل حياته للقضية الكردية، وهو الرجل الذي تمكن من نقل صرخة أبناء شعبه، لاذان الغرب، وهو أول زعيم كردي كردي نتعرف عليه، ويحاول دفعنا نحو تقديم المساعدات للثوار الاكراد في وطنهم، بيد أنه لم يحظ بمكانة مرموقة، أو ذات احترام لدى البرزاني، ورغم ذلك من الجدير بالذكر أن بدرخان هو الذي قدم النصيحة لاسرائيل، حول كيفية الوصول الى مصطفى البرزاني”.ينظر: شلومو نكديمون، الموساد في العراق، ص46-47.
أدت عودة الزعيم الكردي ملا مصطفى البارزاني الى العراق بعد ثورة 14 تموز/ يوليو عام 1956م الى اشعال العديد من الأضواء الحمراء في الغرب، وقد استقبل البارزاني حال عودته من الاتحاد السوفياتي مروراً بمصر استقبال الابطال، وقد اعتبرت الجماهير الكردية الاتحاد السوفياتي كدولة تقود الحرية والتقدم في العالم، وأنها عدو لكل من يناصب الكرد العداء.
من خلال مستجدات الامور في تلك الحقبة، واعتراف الدستور العراقي لأول مرة بالكرد كشركاء للعرب في العراق، قد أدخل القلق والخوف في نفوس ساسة ايران وتركيا على حدٍ سواءٍ، فضلاً عن عودة البارزاني مرفوع الرأس من الاتحاد السوفياتي بعد قضائه حوالي اثنا عشر عاماً في المنفى، حتى أن االدوائر الغربية والاسرائيلية شككت فيه بأنه يعمل بتكليف من الاتحاد السوفياتي فأطلقوا عليه (البارزاني الاحمر) على حد تعبير (أبا إيبان) السفير الاسرائيلي في أمريكا، حتى وصل به الامر بأن اعتبره (عميل سوفيتي)، كما أن الدبلوماسي الاسرائيلي (يوسف هداس) احد مسؤولي شعبة الشرق الاوسط في وزارة الخارجية الاسرائيلية وصف البارزاني ( بالزعيم الكردي الموالي للسوفييت).
ويظهر من خلال هذه المستجدات، والقلق الذي انتب الغرب وحلفائه في منطقة الشرق الاوسط؛ بدأ الغرب يفكر في إبراز زعيم كردي آخر موالي للغرب في مواجهته كي يوازنه. وليس من المستبعد أن تكون الولايات المتحدة قد تحدثت مع طهران بهذا الشأن، في الوقت الذي كان شاه ايران محمد رضا بهلوي(1941-1979م) يشعر بقلق كبير جراء عودة البارزاني الى العراق الدولة الجارة لبلاده، وجل ما كان يخشاه أن يعمل البارزاني على الانتقام منه لقضائه على جمهورية مهاباد الكردية عام1946م واعدام قادتها في شهر آذار/مارس عام1947م؛ عن طريق إثارة الكرد الايرانيين للمطالبة بحقوقهم المهدورة، لذا اعتقدت كل من الولايات المتحدة وإيران بأنه من الانسب تكليف الامير الكردي كاميران بدرخان لأنه قادر على أن يقوم بهذا الدور، وقد بدث آثار هذا القرار في وثائق وزارة الخارجية الاسرائيلية، ينظر: نكديمون، الموساد في العراق، ص58-59. ولم يستطع الباحث التأكد من مصداقية هذا الخبر من مصادر أخرى، غير أن في عام1957م أشرفت CIA الاميركية على إيجاد جهاز(السافاك) وهي الحروف الفارسية الاولى لمنظمة الأمن والاستخبارات في إيران، وفي عام 1957م كانت الاتصالات الاولى بين السافاك والموساد عندما اجتمع أيسر هاريل – رئيس الموساد (1952-1963م) في روما مع الجنرال تيمور بختياري أول رئيس للسافاك[(1957-1961م)- وهو ابن طليقة شاه ايران ثريا، وقتل في العراق عام1968م]، ويقال بأن رئيسي مخابرات البلدين قد توصلا الى اتفاق حول المخاطر التي يمثلها عبدالناصر والسوفييت (= الشيوعيون). ينظر: أندرو لسلي كوكبيرون، علاقات خطرة القصة الخفية للعلاقات السرية الاميركية الاسرائيلية، ترجمة وتحقيق: محمود برهوم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1992م، ص94-95.
وعلى السياق نفسه فقد بدأت منذ ذلك الوقت منظمة ترايدانت، وهي منظمة استخباراتية على مستوىً عالٍ تأسست في أواخر عام1958م والتي ضمت: جهاز المخابرات الاسرائيلي (الموساد)، وجهاز الامن القومي التركي(ميت)، والمنظمة القومية للامن والاسخبارات الايرانية (السافاك)، بعقد اجتماعات دورية لاجهزة مخابرات هذه الدول، استناداً الى العلاقات القائمة بين كل منها وCIA الاميركية من جهة، وإلى خوفها من الحركة القومية العربية الصاعدة (= الناصرية بقيادة الرئيس المصري جمال عبدالناصر)، والحركة الشيوعية (= التي كانت ناهضة أيام الزعيم عبدالكريم قاسم في العراق) من جهة أخرى. ينظر: جوناثان راندل، أمة في شقاق دروب كردستان كما سلكتها، دار النهار، بيروت،246-247؛ أحمد نوري النعيمي، الوظيفة الاقليمية لتركيا في الشرق الاوسط، ص93.
فقد تبادل الجانبان الاسرائيلي والتركي المعلومات بخصوص المعارضين لكل منهما، فقد الجانب التركي المعلومات عن نشاط شخصيات ووكلاء الجمهورية العربية المتحدة ضد اسرائيل، وقدم الموساد التدريبات اللازمة للاتراك في حقل الجاسوسية المضادة والتقنية. راجع: الوثائق السرية للمخابرات الاميركية (المخابرات الاسرائيلية)، ترجمة واعداد، مجدي نصيف، مطبوعات الوطن العربي، بيروت، 1985م، ص66-68.
ولما كان التنسيق الأمني بين إيران وإسرائيل قد جرى في عام1957م إبان تأسيس السافاك، وأن عودة الزعيم الكردي العراقي الملا مصطفى البارزاني الى العراق قادماً من الاتحاد السوفياتي جرى في 6/10/1985م . ينظر: مسعود البارزاني، البارزاني والحركة التحررية الكردية، كاوا للثقافة، بيروت،1997م، ج2، ص47؛ فقد كان الحلفاء الغربيون يتوجسون من عودة الزعيم الكردي قادماً من الاتحاد السوفياتي؛ لذا يبدو أن المخابرات الاسرائيلية قد أخبرت المخابرات الايرانية بوجود شخصية كردية مثقفة ومن أسرة عريقة تعيش في باريس منذ سنوات وأن لها علاقات خاصة قديمة بها؛ ففي شهر إيلول/ سبتمبرعام1958م عرض جهاز السافاك على الامير كاميران بدرخان السكن في إيران والعمل من داخلها. وقد سبق هذا العرض حوار دار بين شاه ايران والامير بدرخان، وأيضاً بين الجنرال تيمور بختيار(1957-1961م) وهو من أصولٍ كردية أيضاً. والامير بدرخان الذي ظل حبيس علاقاته مع الدولة اليهودية لم يخف شعوره واتصالاته مع الوكالة الايرانية للأمن والاستخبارات (السافاك، وشدد صديقه الجنرال تيمور بختيار رئيس جهاز السافاك على الامير بدرخان أن يسكن في ايران، بعد أن أسس بختيار أول إتصال مع جهاز المخابرات الاسرائيلي الموساد عام1957م، وهو بالاجمال ) بدرخان) يكمن وضعه بصفة ارتباط بين الحكومتين الايرانية والاسرائيلية لكل ما له علاقة مع الكرد. راجع: أندرو لسلي كوكبيرون، علاقات خطرة – القصة الخفية للعلاقات السرية الاميركية الاسرائيلية، ص93.