23 ديسمبر، 2024 9:20 ص

الاحزاب والحزبية العراقية

الاحزاب والحزبية العراقية

الفلسفة الحزبية
ماهو الحزب ؟ ماهي مهامه ؟ ما علاقته بأعضائه وببقية الجماهير ؟ هل دور الحزب دائما ايجابي ؟
إن الحزب بشكل مبدئي هو مؤسسة جماهيرية تلتقي على مفهوم واحد يدور حول التقدم والتطور الاجتماعي المجتمعي ومحاولة وضع فلسفة معينة واضحة لتنفيذها على الواقع الاجتماعي والسياسي من قبل هذه المؤسسة. وحتى تبدو هذه الفلسفة قادرة على صياغة علاقات اجتماعية أو قابلة للتنفيذ في مجتمع مؤسسي منظم – دولة – لابد وأن تصاغ هذه الفلسفة في قانون داخلي للحزب ، وهذا يعني مبدئياً أن هناك مواجهة بين ما يراد من قانون أو منهاج الحزب أو هدف القانون الحزبي وبين القوانين التي تصدرها الدولة عن طريق التشريع.
ولعل من أبرز مميزات الحزب – أي حزب – هو في كونه مؤسسة شعبية ذات وجود مستقل عن أي عضو فيه ، وحتى تبقى هذه المؤسسة مستقلة عن وجود الأعضاء فيها فلابد لها من أن تكون أنظمتها الداخلية ديمقراطية تسمح بان يكون للأغلبية رأي حاسم يمارس على الأقلية من ناحية ولتبقي هذه المؤسسة قوة شعبية بدل أن تتحول إلى مؤسسة شللية أو فئوية أو مصلحية من ناحية أخرى .
ولكي يبقى الحزب متماسكاً قوياً واعياً يجب أن يتنبه إلى ضرورة وجود الوعي وتعميقه في عملية الحكم على صحة فلسفة الحزب والالتزام بها .
ولعل أخطر عنصر يهدد الحزب أو فلسفته هو الزعم الذي تطلقه الأحزاب – كافة الأحزاب – من أن فلسفة هذا الحزب أو ذاك تمثل الحل السليم أو المفهوم والرأي الصحيح كحل للمشكلات الاجتماعية. بينما المتعارف عليه هو لاأحد يمتلك الحقيقة المطلقة أو يستطيع الادعاء بأن هذا الرأي أو ذاك هو الحل الأمثل.
ومن المهم هنا أن ننبه إلى أن الانتماء إلى هذا الحزب أو ذاك لايكفي فيه القناعة باتفاق مصالح الأفراد مع فلسفة الحزب إذ يتوجب بداية على كل فرد منتم أن يعي هذا الاتفاق حقيقة ، وهل يتلاءم مع تطلعاته وتوجهاته وتصوراته فيقبل على هذه الفلسفة أو تلك ويلتزم بها فيصبح منتمياً لهذا الحزب أو ذاك . وهكذا تلتقي المصلحة الواحدة لكل الحزبيين مع فلسفة الحزب ويلتقي الجميع حول هذه الفلسفة باعتبارها في نظرهم الحل الأسلم لمشكلات التطور الاجتماعي.
إلى هنا ، تبدو فلسفة حزب ما مقبولة وتصبح فلسفة حزب منظم قادر على تجاوز الطبقية التي تظهر بين الحين والآخر بين أفراد الحزب إما على أساس الظروف الشخصية أو المنافع الشخصية أو تبدو الخلافات بين الأفراد على أساس التضحيات ، وعلى أساس الوعي الفكري أو الانضباطية أو ما يؤديه البعض منهم من خدمات خاصة للحزب.
لكن المشكلة الحقيقية تبدو أحيانا فيما يسمى بحزب الطبقة أو الفئة أو حزب المصلحة أو النخبة أو القوة المختارة إلى ما هناك من تسميات – تقدميون واشتراكيون ، برجوازيون ، أحرار ، مستقلون ، دینیون … وغيرها كثير من التسميات التي ليس لها مدلول واضح ، ويبدو هذا صحيحاً ، أعني الفئوية أو الطبقية داخل الحزب حتى في نظر أولئك الذين يأخذون بنظرية صراع الطبقات / الفئات ، أو صراع المراحل أو صراع المنافع والأفكار .
ليس هذا الافتراض وهمياً بل واقعياً حيث له جذور تاريخية موروثة عن التراث أو الفكر الذي أقام أعظم الثورات في التاريخ ، وحين تحل هذه المشكلة الخطرة في فلسفة أو تنظيم حزب معين عندها يصبح كالنقابة همها الوحيد حل المشاكل التي يقع بها المهنيون أو العاملون ضمن النقابة ثم تبعدهم هذه الفلسفة الحزبية عن العمل السياسي حيث ضرورة للمساهمة في حل مشكلة التطور الاجتماعي.
ونود أن نسوق دليلاً آخر على فلسفة حزب على أنها فلسفة نخبة أو صفوة أو طبقة، تقول: من الملاحظ أن قادة الأحزاب وكوادرها العاملة هم مجموعة من المثقفين الأفراد المتميزين بوعيهم بصرف النظر عن مواقعهم الاجتماعية أو وظائفهم. ومن هنا ، فإن هذه المجموعة المثقفة الواعية هم تركيبة واعية متميزة على غيرها من سائر المجتمع ، وبذلك ، يمكن أن تكون هذه الفلسفة الحزبية أو تلك ، فلسفة طبقة معينة متميزة حتى عن الكوادر العاملة داخل الحزب نفسه ، وهذا شأن كل فلسفات الأحزاب باعتبارها فلسفات الطبقة المتميزة.
إن فلسفة هذا الحزب أو ثقافته أو عقائديته وسياسته ستكون قطعاً في مواجهة من تعتبرهم دونها وعيأ وعقائدية وسلوكاً ، أي إن هناك صراعاً حزبياً فلسفياً عقائدياً، وربما سلوكياً سوف ينشأ عند التطبيق بين الأحزاب ، وهذا الصراع طبيعي لابد منه باعتباره الجدلية الاجتماعية الضرورية لخلق ظروف ومراحل أفضل ، هذا أولا.
ولو افترضنا أن جميع الأحزاب تقدمية، هل تسلم هذه التقدمية من المواجهة مع مصالح الفئات الأخرى غير الحزبية ؟ أعتقد أن مثل هذه المواجهة أو الصراع سوف يكشف العلاقة الموضوعية والتأثير المتبادل بين المشكلات الحادة وباقي المشكلات الاجتماعية فيستقطب الصراع قوى أخرى ، وعندها تنفضح هذه الفلسفة أو تلك لادعائها أنها تمثل مصالح كل الشعب ، وهي حقيقة لا تمثل إلا مصالحها الخاصة ليس هذا فحسب بل تصبح فلسفة رجعية لأنها طبقية . أما الفلسفات التقدمية فهي فلسفات الجماهير العريقة، أي فلسفة كل الشعب وليس فلسفة المنتمين إليها والتي تربطهم بها مصالح خاصة.
ثانيا – ثمة أمر آخر بالغ الأهمية حين يسعى هذا الحزب أو ذاك إلى تنفيذ سياسته على أرضية الواقع الاجتماعي من منطلق فلسفته الساعية إلى أن تكون في الحكم أو مشاركة فيه ، فإن تلك الفلسفة قد تصطدم بتطلعات الدولة وقوانينها وسياستها الساعية إلى أن تكون الفائدة عميقة وشمولية لكل قطاعات الشعب وليس لقطاع بعينه ، علما بأن الحكومة – أية حكومة – تسعى لأن تكون ممثلة لكافة التصورات الحزبية أو تضم كل الأحزاب وفلسفاتها لتكون المصالح عامة ، وغير ذلك فإن الدولة وقوانينها لن تسمح لفئة واحدة أن تصادر مصالح الشعب كافة ، وفي مثل وضع الأحزاب العراقية فإنه يفترض أن تكون كل الاحزاب ملتقية مع التوجه الحكومي لئلا تصطدم معها من جهة ولئلا تحتكر مصالح الشعب الفئة دون غيرها من جهة أخرى ولئلا تكون رجعية من جهة ثالثة ولئلا يحكم عليها الشعب بالموت السياسي من جهة رابعة.
إن عقائدية أي حزب إذا ما جرته إلى التطلع للحكم فإن التصادم مع التطلع لسياسة الدولة في رسم السياسية وإدارة الحكم لامحالة متصادمتان ، ومن هنا تأتي ضرورة احترام القانون كسيادة وسلطة لايعلو تصور أو توجه أو تطلع أخر.
ولعل السؤال الذي لم أجب عليه باعتباره سؤالاً كبيراً يحتاج لإجابة واعية هو: هل توجد فلسفة معينة لكل حزب طرح نفسه على الشعب العراقي ؟ وهل أبدى هذا الحزب أو ذاك استعداده لشرح سياسته وفلسفته للشعب ؟ وهل باعتقاد جميع المتحزبين إنهم في ندواتهم ومنتدياتهم السياسية ، هل باعتقادهم إنهم تكلموا عن برامج وأهداف ؟
أنا شخصياً كنت حريصة على الحضور والاستماع لأكثر المنتدين حول الأحزاب ، واستمعت لأكثر من شخصية أو شخصيات حزبية لكني بكل أسف لم استمع إلى فلسفة ، لم أستمع إلى فكر ، لم أجد مفكراً سياسياً متحزباً حدثني عن فكر ، الجميع يتحدث عن برامج وأهداف . لكن الفكر الذي استمتعنا به في السابق والمطلوب حالياً هو في غياب تام !!.
في جدوى الاحزاب
مرت على عراقنا عقود ، كان مجرد القول ان فلاناً حزبي او منتسباً لحزب يعتبر سُبه او مرتبكاً لجريمة . وكان الذي تتهمه بانه حزبي يشعر ان واجبه شتم الاحزاب والحزبية ، ويقسم بأعظم المقدسات ، انه لايعرف الاحزاب ولاينتمي اليها او يقبل بها بأي شكل من الاشكال.
فالكثير منا ، لايزال يعتقد ان الاحزاب والحزبية هي سبب خراب الديار وتشتت القوى ، واختلاف الرأي . ولا يزال هناك من يطالب بعدم السماح بقيامها عندنا ، متذرعين بالمحافظة على الوحدة الوطنية ووحدة قوى الشعب ، وغير ذلك من المسميات.
لا نريد القول من البداية ، ان مثل هذه الطروحات والافكار غير دقيقة ، وانها من رواسب عهود الاستعمار والتخلف والانظمة السياسية السابقة ، عندما كان الحكام يريدون تشكيل الانظمة والاوضاع ، وتكييف الاتجاهات السياسية والفكرية على هواهم وحسب امزجتهم لضمان السيطرة والاستمرار دون أية معارضة او رقيب.
هذه الرؤيا لاتزال باقية على حالها عند بعض الناس رغم حرية العمل الحزبي الحاصلة الآن ، ورغم اطفاء الشرعية على تأسيس الاحزاب والانتساب لها.
من دون شك ، انه بعد ان تم سن وصياغة قوانين غير تلك التي عانينا منها الامرين ، سيتم بالتأكيد اقرار قانون خاص بالجمعيات والاتحادات والاحزاب المهنية والادبية والسياسية … وسيتم منح الموافقات القانونية الاصولية لعدد كبير منها . وقبل ان تظهر هذه التنظيمات القانونية للوجود وتمارس دورها ، تدور الآن حوارات فكرية وسياسية بين اوساط عراقية حزبية ومستقلة حول تنظيم الحياة الحزبية في العراق.
ويقول بعض من يدعي المعرفة والعلم ببواطن الامور … ان ظاهرة الاحزاب السياسية هي ظاهرة غير صحية ، ويعطل ذلك ان كثرتها في الشارع العراقي تعيق الحركة ، ويبرر اصحاب هذا الرأي ، ان هناك عدداً من الاحزاب موجودة الآن على الخارطة الحزبية في العراق … لكن على ارض الواقع لا وجود لها ، اما لظروف مالية او تنظيمية او غير ذلك ، وبالتالي ، فأنها تحمل بذور فنائها معها ولن تستطيع الوقوف طويلاً في هذا الشارع او تلك الساحة . واكبر دليل على ذلك ، ان عدداً من هذه الاحزاب ولاسيما السياسية منها ، تحاول اعادة تنظيم صفوفها من جديد وتحاول البحث عن حل لمشاكلها ، ومن ضمن هذه الحلول ، الاندماج مع حزب آخر يحمل نفس الافكار والبرنامج السياسي.
في مثل هذا الطرح ، يجب ان يبقى تحرك الاحزاب ومجال عملها محصوراً ضمن الطبقة الواعية المثقفة من الناس بالنسبة للأحزاب العقائدية او احزاب المبادئ ، وضمن طبقة الاصدقاء والاقارب المنتفعين بالنسبة للأحزاب النفعية الوصولية مع بعض الاستثناءات في الحالتين معاً، لانه من غير المعقول ان تنطبق القاعدة تماماً في مثل هذه الحالات.
يذكر البعض ، ان كل هذا التساهل والترخيص للاحزاب ، عمله المحتل الامريكي في البلد وقتئذ ، ومن يعمل معه من العراقيين في ادارة حكم العراقي من اجل الكشف عن هوية الحزبيين وتسجيل اسمائهم ثم بعد ذلك تعود الامور الى سابق عهدها ، ويأتي يوم المحاسبة او الحساب ، ويومها لاينفع الندم او التنصل لان كل شيء مسجل ومكتوب ، ولذلك ينصح ان يبقى الواحد منا بعيداً عن الاحزاب .
والمتتبع لمجرى الامور على الساحة الحزبية ، يجد ان الاقبال على الانتساب للأحزاب محدود اذا لم يكن معدوم. فالكثيرون من اصحاب الاحزاب في عراقنا اليوم، يرفع عقيرته بالشكوى من انخفاض اعداد المنتظمين فيها على الرغم من ارتفاع عدد الاحزاب وكثرة الوانها واشكالها واسمائها.كما ان كثرة الاحزاب قد خلقت بلبلة في صفوف المواطنين ولم يعد من السهل عليهم الاختيار بينها .
واذا حاولنا الوقوف على الاسباب الكامنة وراء احجام المواطنين عن الانخراط المتزايد في تلك الاحزاب بشغف وتلهف كما كان المتوقع والمأمول من قبل مؤسس الاحزاب الجديدة او ورثة الاحزاب القديمة على حد سواء ، يمكننا ان نقول بشيءمن التعميم والتجاوز بأن هنالك اسبابا عديدة قد تكون من بينها :
ان كثرة الاحزاب في العراق وبسبب من كثرتها وتشابه مضامينها وتماثل قياداتها ، قد خلقت في صفوف المواطنين ، ولم يعد من السهل ايجاد الفرصة المقنعة لاتخاذ قرار الاختيار من بينها . بالإضافة الى ان غالبية قيادات هذه الاحزاب والقيمين عليها لا تحظى بثقة المواطنين بغض النظر سواء كان هذا الموقف من قبل المواطنين صائباً او خاطئاً ، عادلاً او ظالماً . والمتتبع لمجرى الامور على الساحة الحزبية ، يجد ان الاقبال على الانتساب للأحزاب محدود اذا لم يكن معدوم.
والملاحظ على الساحة الحزبية العراقية الآن كثرة الاحزاب التي تدعي القومية واليسارية والتحررية والليبرالية والعلمانية … بينما الاتجاه الاسلامي اسس احزاباً لاتتجاوز اصابع اليدين .. اراح واستراح .. واصبحت جماهيره باجمعها منظمة تحت لوائه مما اعطاه قوة وزخماً لم تصادفه باقي الاتجاهات واحزابها.
ورغم المحاولات المتكررة لاندماج بعض الاحزاب في تنظيم واحد او حتى في جبهة واحدة ، فان ذلك لم يتحقق وبقيت الانقسامات على حالها وان حدث بعض التقدم في بعض الحالات.
ونفس الشيء ينطبق على الاحزاب اليسارية والليبرالية ، مما ينذر بنتائج وخيمة ولاسيما في حالة اجراء انتخابات برلمانية قادمة ضمن فسيفساء الصورة الراهنة وذلك ان مثل هذا الوضع يتيح المجال لبروز الزعامات القبلية والمالية والشخصية اكثر من بروز الواجهات او المرشحين العقائديين مهما كان الاتجاه الذين يمثلونه.
لقد ضربت الاحزاب اليسارية ضربة موجعة بسبب انهيار مرجعيتها وتشتتها في عقر دارها ، فجل ما نشاهده اليوم على الساحة اليسارية لايعد ان يكون بقايا تنظيمات سرية كانت تحيا في وهم كبير، اذ كان القائمون عليها يعتقدون بان الشعب كله يقف ورائهم . فعندما خرجت تلك التنظيمات الى النور والعلن تأكد الجميع بأن الاتباع كانوا قلة قليلة ، اذ ان هؤلاء الاتباع يتعاطفون معها فقط لمجرد ان تلك التنظيمات كانت ترفع شعارات معادية للحكومات التي استأثرت بالسلطة من غير مراقبة او مساءلة من واحد.
اما الاحزاب ذات التوجه القومي والراديكالي بمجمل اطيافها ، فقد فشلت فشلاً ذريعاً في جميع مساعيها وممارساتها لافتقارها للمشاركة الشعبية . لذلك لم تعد هذه الاحزاب تجتذب للانخراط في صفوفها.
اما الجماعات الاسلامية واحزابها ، فأنها افضل من غيرها بحكم قدمها التاريخي ولو بأشكال مختلفة وتحت اسماء مختلفة ومتباينة ، فضلاً عن ان خطابها السياسي موجه الى اناس محدودي الافق والمعرفة ، يلاقي صدى واسعاً وترحيباً عظيماً، فهؤلاء الاميون يؤمنون بأنهم سيحققون الاهداف المنشودة من رخاء وسعادة وهناء، ان لم يكن عاجلاً فلابد ان يتحقق اجلاً . وفضلاً عن ان هذه الاحزاب لم تجرب او تختبر بعد بشكل جدي في السلطة لا عندنا ولا في اي قطر عربي.
ان الاحزاب الموجودة الآن في الساحة العراقية ، هي احزاب اصحاب رؤوس الاموال ، اي انها تمتلكها الصفوة المقتدرة التي تحاول ترسم للشعب حاضره ومستقبله من منظور المصلحة الطبقية المهيمنة بحكم قدرتها الاقتصادية والمالية وسلطتها السياسية الفئوية . فهذه الاحزاب تناضل حقاً ولكن في سبيل منفعتها الطبقية من غير ان تتمكن من الوصول الى اوجاع الشعب الكادح والاحساس بنبضه وحاجاته الاساسية في حياة كريمة بعيدة عن الفاقة والعوز ، فتخمة الاقلية هذه هي اصلاً حصيلة جوع الاغلبية الساحقة من الشعب.
ان طبائع البشر مختلفة ، وكذلك ميولهم واعتقاداتهم وافكارهم ، وعليه ، فانه من البديهي ان تجمع ذوو الافكار والعقائد المتشابهة في حزب او جماعة واحدة لتحقيق اهدافهم ونشر افكارهم ، فاذا تم ذلك بأسلوب ديمقراطي عاش المجتمع في سلم وامان ، اما اذا كان فرض الرأي والفكر يتم بالقوة والارهاب ، فان ذلك يؤدي الى صراعات داخل المجتمع ، وقد يكون العنف والرد عليه من ظواهر هذه الحالة.
فالأحزاب والحزبية هي مظهر للرأي الآخر، وعندما تتم الممارسة في حدود القانون والنظام ، فان ذلك من مظاهر الديمقراطية الحقة وسيادة الحرية وقيم العدالة واحترام حق الاخرين في اجتهاداتهم وافكارهم حتى لو كانت مخالفة لآراء واجتهادات المقابل.

مرتجيات مؤجلة
هناك من يعتقد ان التعددية السياسية الحزبية هي حق للجميع وهي مطلب جماهيري وديمقراطي لان من حق الجميع ان يعمل وبالنتيجة البقاء للأصلح ، واذا ما اخذنا بهذا الرأي وهو التعددية السياسية الحزبية ، فأن السؤال المطروح :- هل تطلق حرية الاحزاب بدون قيد او شرط ؟
وحقيقة الامر ، ان الجدل على هذه المسألة لايزال مستمراً مع ايماننا بأن هذا الموضوع جدير بالاهتمام وان الامر يؤثر علة الديمقراطية ( الشكلية) ومستقبل التعددية السياسية الحزبية والاستقرار السياسي في العراق ، ومما لاشك فيه ان تنظيم الحياة الحزبية أمر ضروري ، وانني ارى ان الهدف الرئيسي لهذا الموضوع يجب ان ينصب على تحصين التجربة الديمقراطية – على الرغم من سلبياتها – ضد كل قوة تريد اساءة استغلالها او طمسها.
وعليه، يتوجب علينا الوقوف في وجه كل من يتعرض لمسيرتها التي عانينا الامرين من فقدانها ، وان نحارب ونقف في وجه كل القوى والتيارات الفكرية السياسية التي لا تؤمن بالديمقراطية وتستخدم العنف او تلوح باستخدامه للوصول الى السلطة ولاغرابة في هذا الامر ، فهناك العديد من الاحزاب السياسية عندنا سلكت هذا الطريق على نحو حدد الحياة الديمقراطية لابل نسفها من جذورها كما حدث عندنا ابتداءً من 14 / تموز / 1958.
بالطبع هذا الامر لا ينطبق على جميع الاحزاب السياسية ، فهناك العديد من الاحزاب من آمن بالعمل الديمقراطي ومنها من هو على استعداد للاضطلاع بدور مسؤول وبنَّاء الى ترسيخ وتعميق تجربة التعددية السياسية الحزبية واتاحة المجال امام احزاب اخرى للقيام بدورها كاملاً في الحياة العامة ، وهو أمر ضروري لضمان نجاح التجربة الديمقراطية لأن الانفتاح الديمقراطي سيوفر لها الفرصة للمزيد من الاتصال بالمواطنين ولاستقطاب القواعد الشعبية وتثقيفها وبالتالي تطوير الحياة بما ينطبق والنهج الصحيح ، وتعمل على صيانة التجربة الديمقراطية من كل اذى وتوفير الدعم لها.
واذا استطعنا غرس هذه الديمقراطية بين القواعد الشعبية لاستطعنا من خلال ذلك تنظيم الحياة الحزبية وترسيخ الهيكل الديمقراطي على اسس متينة وفتح المجال امام كافة الديمقراطيين من مختلف الاتجاهات والافكار المشاركة في الحياة العامة وبالتالي تنتصر الديمقراطية على خصومها الذين لايؤمنون بها بل يؤمنون بالعنف كوسيلة للوصول الى السلطة.
الكثير يؤمن ان الرأي الاخر ظاهرة صحية ودليل اكيد على حرية المجتمع وتفاعله مع الاحداث المصيرية وشهادة على ان الديمقراطية تتعزز ويتطور ايدؤها بالممارسة اليومية . ويؤمن كذلك بانه يتوجب اتاحة الفرصة لهذا الرأي ليقول رأيه في كل القرارات السياسية والمصيرية المتعلقة بهذا الوطن . لكن يجب ان يكون ذلك من خلال الوسائل المشروعة والاحتكام الى الآلية الديمقراطية لأننا امام مسائل مصيرية وفي صراع رهيب ونحتاج الى دفعة الى الامام وليس الى وضع العصي بين الدواليب.
ان الرأي الآخر الوطني الفعال هو الذي يملأ الفراغ السياسي القائم ويشد الجماهير اليه وهو الذي يخاطب العقول بدلاً من مخاطبة العواطف ويتحدث بلغة الارقام والحقائق بدلاً من لغة الشعارات والمزايدات واظهار السلبيات دون ذكر الايجابيات ، ويتوجب على هذا الرأي ان يقدم للجماهير البديل المقنع والعقلاني لكل أمر تعارضه ، عندها نصبح جميعنا معارضة.
ومع كل ذلك ، تظل التعددية السياسية هي الخيار الوحيد امام عراقنا، ذلك ان اي رجوع عن هذا الخيار معناه العودة لنظام الشلل والاشخاص ، واقاربهم وانسابهم واصدقائهم ، ونظام المنع من العمل والمنع من السفر ، ومنع الحرية الفكرية والتعددية ، وباقي الممنوعات المعروفة ، بما في ذلك نهب المال العام والتسيب الاداري والمالي والاثراء بلا سبب.
لكن ذلك لا يمنع من الاستمرار في التجربة ومن الاستمرار بالتمسك بالديمقراطية وتعميقها ومن محاولة تقييم الاخطاء وتصحيحها ، وان فقدان او عدم وجود بديل للحزبية في بلد ديمقراطي هو سوى قيام حكم فردي دكتاتوري او عشائري عائلي ، ولذلك ، فالديمقراطية مع عيوبها البسيطة او المحتملة خير من التسلط والارهاب والحكم الفردي.
ان طريق الحرية والديمقراطية رغم صعوبتها ، هي طريق الاعمار والتقدم ، وهي طريق الحضارة وبناء الوطن والمواطن ، وقد تصادفنا بعض العقبات وقد نتعثر في السير ، ولكن بإمكاننا النهوض ومواصلة التقدم ، لان ذلك هو خيارنا الاول والوحيد.
ان من كل ما قيل او يمكن ان يقال ، فلابد من العثور على افضل السبل لاجتذاب المواطنين للانخراط في العمل الحزبي لأنه لا مفر من ذلك ، والا فأننا لا محالة مرتدون الى العهود الغابرة ، عهود السطوة الشللية المناطقية … التي مرغت عراقنا في الرغام وخلفت وراءها الآلام.
Waleed [email protected]