5 نوفمبر، 2024 6:46 ص
Search
Close this search box.

الأحيمر السعدي : استأنس ذئبه ، وطيّر إنسانه

الأحيمر السعدي : استأنس ذئبه ، وطيّر إنسانه

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى** وصوَتَ إنسانٌ فكدت ُ أطيرُ
هذه قصيدة ومسيرة حياة (الأحيمر السعدي) ، هل كان هذا الشاعر فيلسوفاحكيما ، أم صعلوكاً شريرا؟ ف القرآن الكريم يقدم فجور النقس ” فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا” ،وجان لوك ، وجان جاك روسو يعدان الإنسان خيرٌ بطبعه ، والمجتمع يفسد أخلاقه ، وتوماس هوبنز وسبينوزا بذهبان إلى أن طبع الإنسان شرير ، وأنت إلى أين تذهب ؟!!

وهذه مقالتي : :

من يوم اللص المسكين بن فلان ، مخضرم الدولتين الأموية والعباسية ، إذْ اكتسى اسمه وكنيته ( الأحيمر بن فلان بن حارث بن يزيد السعدي من تميم ت 170هـ / 787 م) ، والذي بلاه الإنسانُ بسلطته وجبروته ، فابتلى به لتمرده وخروجه ، والشرُّ للشرِّ ولود ، اقرأ معي بتأمل ٍ وإمعان بلا صدود وهجران :

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى** وصوَتَ إنسانٌ فكــدت ُ أطيرُ
يـــرى اللهُ إنـّي للأنيـــــس ِلكــــارهٌ *** وتبغضهم ْ لي مقلة ٌ و ضميـرُ
وإنـّي لأســـتحيي مــــــن الله أنْ أرى **أجرّرُ حبلاً ليـــــس فيـــهِ بعيرُ!
وأنْ أســـأل المــــــرءَ اللئيمَ بعيـــرَهُ *** وبعرانُ ربّي في البـلادِ كثيرُ!
لئن طــــالَ ليلي بالعــــــــــراق ِلربّمــــا***أتـى ليَ ليلٌ بالشــــآم ِ قصيرُ
أيا نخلاتِ الكـــــــــرمِ لا زالَ رائِحا ****عليكـُنّ منهلُّ الغمــام ِمطيــــرُ
ويا نخلاتِ الكرخ ِمــا زالَ مـــاطــرٌ ****عليكـُنّ مســتنّ الريـــاح ِ ذرورُ
ونبئتُ أنّ الحيَّ سعـــداً تخــــــاذلوا ***حمـاهُم وهُــم لـو يعصــبون كثيرُ
أطاعوا لفتيان ِ الصبــــــاح ِلئامهمْ **** فذوقوا هوانَ الحربِ حيث ُتدورُ
كفى حزناً أنّ الحمـــــارَ بن بحــــدلٍ ***عليَّ بأكنـــــــــــافِ الستارِ أميـرُ
وأنَّ ابن موسى بائع البقل بالنــوى **** لهُ بين بـــــــابٍ والستار ِ خطيـرُ

لماذا نفر هذا الإنسان من أخيه الإنسان ، ولجأ إلى الذؤبان ، ويستحي من الله قاسم الرزق الحلال بالقسط والعدل ، أن يجرّ حبله بلا بعير ، وبعران ربّي كثير !! ويمرّعلى نخلات الكرم ، ونخلات الكرخ ، والخير الوفير ، ويأتيه بالأخبار مَن لم يزود ، إنّ القوم تخاذلوا ، وللئامهم أطاعوا ، حتى ذاقوا هوان الحرب ودوائرها ، فغدا الحمار أميرا ، وبائع البقل خطيرا ، عينٌ تغري , وعينٌ تزدري , فما كان في وسعه الا أن يتوجه الى اللصوصية ، والتمرد على الإنسان ، وقطع الطرق بالقاطع البتار ، فعاش منفرداً يائساً ، مستأنساً بالوحوش الكاسرة ، بعد أنْ فاقها الإنسان وحشة ووحشية ، حكمة تفرضها الدنيا على ابنائها ، لك أنْ ترضى ، ولك أنْ تأبى ، والحقيقة واحدة ، الإنسان ابن بيئته ، فالخبيثُ لا يوّلد الا خبيثا .

ثمّ ماذا ؟ هذا معاصره الشاعر الشهير (دعبل الخزاعي ، عاش بين 148 هـ – 246 هـ) ، ذكّـّر نفسه بالسيرة الحسنة ، والعمل الصالح لتقويم النفس :

هي النفس ما حسنته فمحسنٌ **لديها وما قبحته فمقبّحُ

طيّب نفسه ، وبشرها ، وصبّرها على حمل المكاره :

فيا نفسُ طيبي ، ثمّ يا نفسُ أبشري*** فغيرُ بعيدٍ كلُّ ما هــو آتِ
ولا تجزعي منْ مدّة الجــور ،إنـّني ** أرى قوتي قدْ آذنت بشتاتِ

ولكنه ! أيضاً جاب الدنيا ” وحمل خشبته على كتفه خمسين عاما يدوّر على من يصلبه عليها فلم يجد ” ، وآخيراَ ذهب إلى رحمة ربّه قائلاً :

ما أكثرَ الناسَ ! لا بلْ ما أقلـّهمُ **اللهُ يعلمُ أنـّي لـــــمْ أقلْ فندا
إنـّي لأفتحُ عيني حين أفتحــها** على كثـير ٍولكن لا أرى أحدا

وإلى يومنا هذا لا نرى أحدا !! ، لم يزدْ أهتمامنا بالإنسان حتى أنملة ، ألإنسان هو الإنسان ، محط ظلمنا ، تحت سياطنا ، بين أفواهنا ، وإنْ اقتضى الأمر لمّعنا له سيوفنا ، لا نرحمه ، ولا نترك رحمة الله تنزل عليه ، ولا ألزم نفسي بشاهد ، إنـّى عشتُ التجربة ، فالعصر عصري ، وأنا أرى المظالم بأمّ عيني ، وصكّ سمعي ، بل وأنا القائل في قصيدتي عن الإنسان ، أيِّ إنسان على هذه البسيطة المظلمة النيرة! :

أضحى البريءُ لفي جرم ٍ ولا سببٌ *** والجرمُ يزهو بفخرٍ وهو عريان ُ
حتى كهلتُ وأيّامــــــــــي تعلـّمني *** في كلِّ ألفٍ مـــن الآناس إنسـانُ

نعم من عصر( جرير ت 114 هـ) و صرخته :

ما زالتِ القتلى تمجُّ دماءها*** بدجلة َ حتى ماء دجلة َ أشكلُ

وإلى عصرنا حيث أجبته ببيت من قصيدة لي :

ما زالتِ القتلى تمجُّ دماءها ** وبقى كعهدِكَ – يا جريرُ- المذبحُ

ألم يحن الوقت لنسأل أنفسنا هذا السؤال العابر السبيل إلى رحمة ربه ، ونتأمل ؟!
لماذا وصل بنا الحال إلى هذا المآل ؟ !!
وهل كثيرٌ علينا أن نرحم أجيالنا الآتية من الأصلاب الحائرة ، والأرحام الطاهرة ؟!
الحلُّ أنْ نعلم علم اليقين ، وأن نفهم ونتفهم ببصائرنا اليفظة ، ووجداننا الحي أنّ الإنسان هو الاغلى قيمة في هذه الحياة ، ومن دونه دونها والوجود معها ، لئنِّ لا يفقه الوجود الا العاقل الموجود ، خلقه الله على أحسن تقويم ،وفضله على العالمين ، ومن قتلَ نفساَ بغير حقٍّ ، فكأنـّما قتل الناس جميعا ، قطـْع صلب واحد معناه موت أمة بتمامها وكمالها في عالم الغيب الذي لم يخلق ، وما أدراك وما أدراني كيف ستكون ، لو كانوا يعقلون !
” أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ” (محمد :24 )
ومن لا يحترم الإنسان ولا يقدره لمجرد أنـّه إنسان بغض النظر عن كل المواصفات الطبيعية والتطبعية ،الخـُلقية والخـَلقية – وفق القيم والنظم الإنسانية العادلة -، يفقد – بمعنى من المعاني – القيم الروحية السامية للإنسانية ، بعقلها ووجدانها ورقيها الحضاري ، لذلك يجب علينا زراعة حب الإنسان الآخر- من حيث هو كما هو ، فالمرءُ حيثما جعله – في نفوسنا ، ليس لمجرد اعتبارات أخلاقية , وإنّما يجب أن تكون فلسفة حياتية نجبل أنفسنا عليها , ونسير على هداها ، فالإنسان وجهة الإنسان ، هو غايته ، وهو وسيلته… بعد الله .

وماذا بعد ؟

أمّا بعد !:

والشيء بالشيء يذكر ، ولئن العبقرية نتاج الإنسانية ، أو هي إحدى إفرازاتها النافحة النافعة ، والعبقري هو ابن الإنسان ! ولمّا كنـّا على الطريق ، لابدَّ لنا أنْ نشير إلى أنّنا من أضعف الأمم تمسكاً بعباقرتها ،وعظمائها ، وأقلـّها تقديرا لهم ، ولجهودهم الجبارة في سبيل أزدهار الحضارة الإنسانية ورقيها ، وتطرقت إلى هذا الموضوع الحساس في كتابي الموسوم ( للعبقرية أسرارها …) ، وأوردت وجهات نظر عباقرة العرب والعراق المعاصرين في هذا الصدد ، ومن الضرورة بمكان أن نستضيف الدكتور أحمد أمين ، والأستاذ العقاد ليشاركانا الرأي ، والرأي قبل شجاعة الشجعان !! ، يقول دكتورنا الأول ” إنّ الأوربيين قد وجدوا من علمائهم مَنْ يشيد بعظمائهم ، يستسقي نواحي مجدهم ، بل قد دعتهم العصبية أن يتزايدوا في نواحي هذه العظمة ، ويعملوا الخيال في تبرير العيب ، وتكميل النقص ، تحميساً للنفس ، وإثارة لطلب الكمال ، أمّا نحن فقد كان بيننا وبين عظمائنا سدود وحواجز حالت بين شبابنا وجمهورنا والإستفادة منهم ” ، أمّا أستاذنا العقاد ، الجريء بطروحاته , والعميق بتحليلاته ،نتركه ليضع النقاط على الحروف ، بتجردٍ ولا تردّد ” فماذا يساوي إنسانٌ لا يساوي الإنسان العظيم شيئاً لديه ، وأيّ معرفة بحق ٍّ من الحقوق يناط بها الرجاء ، إذا كان حق ّ العظمة بين الناس غير معروف ” .
هذه خواطر عابرة مرّت على بالي ، وانا في حوار مباشر على البعد ، وكلُّ ما تأتي به النفس جميلا ، إذا كان صادقاً وجليلا ، أملنا بالله كبير… للشعب الخلود والعطاء ، وللعراق المجد والبقاء ، ودمتم للإنسان أوفياء ، والله من وراء القصد ..شكراً لوجودكم معي !

وزن القصيدة الإيقاعي :

القصيدة من ( البحر الطويل ) ، عروضها مقبوضة إلزاما لكلّ البحر البحر الطويل ، أي يحذف الحرف الخامس الساكن من ( مفاعيلن متصبح ( مفاعلن) ، وضربها محذوف ، أي (مفاعيلن) تصبح ( مفاعي ) ، بحذف السبب الخفيف الأخير ، وتكتب عروضياً ( فعُولن) ، ووزن البحر يكون :
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن **** فعولن مفاعيلن فعولن فعولن

جوازات البحر الطويل :
فعولن تصبح : قعولُ ، عولن ، عولْ
مفاعيلن تصبح : مفاعلن ، مفاعيلْ.

التخريجات :

1 – (سمط اللآلي في شرح أمالي القالي) ،هو كتاب شرح أمالي القالي / لأبي عبيد البكري؛ نسخه وصححه وحقق ما فيه وخرجه وأضاف إليه عبد العزيز الميمني ، المؤلف: أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (المتوفى: 487هـ)
مصدر الكتاب : موقع الوراق – الموسوعة الشاملة 1 /55 – جاء فيه :
وهو الأحيمر بن فلان بن الحارث بن يزيد السعدي من شعراء الدولتين، وكان لصّاً خارجاً وهو القائل :
وإني لأستحي من الله أن أرى****أجــرّر حبلاً ليس فيه بعير
وأن أسأل الحبس اللئيم بعيره ** وبعران ربيّ في البلاد كثير
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى***وصوّت إنسان فكدت أطير
2 – الأعلام : خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي (المتوفى: 1396هـ) الناشر: دار العلم للملايين الطبعة: الخامسة عشر – أيار / مايو 2002 م
موقع يعسوب 1 / 277 جاء فيه :
الاحيمر السعدي (000 – نحو 170 ه = 000 – نحو 787 م) ، الاحيمر السعدي: شاعر، من مخضرمي الدولتين الاموية والعباسية ، كان لصا فاتكا ماردا من أهل بادية الشام ، أتى العراق، وقطع الطريق، فطلبه أمير البصرة (سليمان بن علي ابن عبد الله بن عباس) ففر، فأهدر دمه وتبرأ منه قومه ، وطال زمن مطاردته: فحن إلى وطنه – كما يقول ياقوت – ونظم قصيدته التي مطلعها:
(لئن طال ليلي بالعراق، لربما*** أتى لي ليل بالشآم قصير)
ومنها البيت المشهور:
(عوى الذئب فاستأنست باذئب إذ عوى*** وصوت إنسان فكدت أطير)
وتاب بعد ذلك عن اللصوصية، ونظم أبياتا في توبته أوردها الآمدي نقلا عن أبي عبيدة
وقال أبو علي القالي: هو الاحيمر بن (فلان) ابن الحارث بن يزيد ، السعدي، وقال ابن قتيبة المتوفي سنة 276 ه: (وهو – أي الاحيمر – متأخر، وقد رآه شيوخنا)
ينقل الزركلي عن :
المؤتلف والمختلف للآمدي 36 ، وسمط اللآلي 195، ومعجم البلدان 4: 101 ، والشعر والشعراء 307
3 – الشعر والشعراء : أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276هـ) الناشر: دار الحديث، القاهرة عام النشر: 1423 هـ
وفي الوراق – الموسوعة الشاملة ، 1 / 168 جاء عنه :
الأحيمر السعدي : وكان الأحيمر لصا كثير الجنايات، فخلعه قومه، وخاف السلطان، فخرج في الفلوات وقفار الأرض. قال فظننت أني قد جزت نخل وبار، أو قد قربت منها، وذلك لأني كنت أرى في رجع الظباء النوى، وصرت إلى مواضع لم يصل أحد إليها قط قبلي. وكنت أغشي الظباء وغيرها من بهائم الوحش فلا تنفر مني، لأنها لم ترى غيري قط وكنت آخذ منها لطعامي ما شئت، إلا النعام، فإني لم أره قط إلا شاردا. وهو القائل ، ويروي الأبيات السابقة ويضيف:
وهو متأخر، قد رآه شيوخنا. وكان هربه من جعفر بن سليمان :
وهو القائل:
أرانى وذئب القفر إلفين بعدما *** بدأنا كلانا يشمئز ويذعرُ
تألّفنى لمّا دنا وألفتــــــهُ ***وأمكننى للرمى لو كنـــت أغدرُ
ولكنّنى لم يأتمنى صــــاحبٌ **** فيرتاب بى ما دام لا يتغـيّر
وهو القائل:
نهق الحمار فقلت أيمن طائر***إن الحمار من التجار قريب

4 – (المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء وكناهم وألقابهم وأنسابهم وبعض شعرهم ) : أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (المتوفى: 370هـ) المحقق: الأستاذ الدكتور ف. كرنكو الناشر: دار الجيل، بيروت الطبعة: الأولى، 1411 هـ – 1991 م –
– الوراق – الموسوعة الشاملة 1 / 14 – جاء عنه :

– ” الأحيمر السعدي اللص ليس بمرفوع النسب عندي إلى سعد بن زيد مناة بن تميم. وكان فاتكاً مارداً ، وهو القائل ، ويذكر مما ذكرناه سابقاً عنه ، ويضبف :
أنشد الأصمعي للأحيمر:
يعيّرني الإعدام والبدو معرضٌ ***وسيفي بأموال التجار زعيمُ
ثم قال الأحيمر بعد أن تاب، أنشده أبو عبيدة:
أشكو إلى الله صبري عن رواحلهم *** وما ألاقي إذا مروا من الحزنِ
قل للصوص بني الخناء يحتسبوا *** بزَّ العراق وينسوا طرفة اليمـنِ
فربَّ ثوبٍ كريمٍ كنـــت آخــــذه **** مـــن التجــار بلا نقـــدٍ ولا ثمــنِ

هذا هو الأحيمر ، أحمّره الله طبعاً ، أم النّاس تطبعا ؟!! حيّرني وحيّر نفسه وخلق ربّه …. والسلام على من اتّبع الهدى ختاماً.

أحدث المقالات

أحدث المقالات