18 ديسمبر، 2024 8:56 م

اسطورة المشرك الذي بصق على علي بن ابي طالب

اسطورة المشرك الذي بصق على علي بن ابي طالب

من اسوء الامور ان نخترع أساطير ثم ندَّعي أنها حقائق، ومن ثُم نتهم وننكر على من يحاول الشك بها او الإقتراب منها بالريبة. إنها أزمة فكرية خطيرة حين يستبدل الناس الإسطورة بالحقيقة، وينساقوا للخيال والمبالغة، على حساب البصيرة وفهم الواقع. فهذا انحدار بالفكر واستخفاف بالعقل والمنطق.
المبالغة في الحديث عن بطولات السلف الصالح لهذه الاُمة بطريقة لا يقرها دين ولا منطق، هو حديث بالغ الخطورة والانحراف، إذ سيغدو حديث أساطير وهمية، وتزوير للوقائع التاريخية. حقاً نحن نستأنس بالأساطير في الأدب، وقد يكون مرد استئناسنا بها في عقلنا الباطن، هو عملية انعكاس لواقع هابط مرير تعيشه ألامة، وحاجة الفرد فيها لمثل أعلى يسمو على الضعف البشري، فيلجأ الى النموذج ألإسطوري ألخيالي يخفف به عن كاهله ما يجد من مرارة الواقع، ويعزي به نفسه. ولكن الأدب شيء وحقائق التاريخ وسير الرجال شيء آخر. فاضفاء الإسطورة على الحقيقة التاريخية يشكل خطورة فكرية، لأنه يجعل الناس تحلق في الخيال وتعيش في الأوهام، بعيداً عن الواقع.
وأسوق هنا نموذجا للإسطورة في قصة المشرك أو الكافر الذي بصق على وجه علي بن ابي طالب (كرم الله وجهه ورضي عنه).

ملخص الحكاية: إن سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) كان يقاتل مشركاً (أو كافراً) عنيداً قتالاً شرساً، فطال بينهما القتال ..! فلما امكنه الله منه وسقط المشرك جريحا تحت قدم سيدنا علي بن أبي طالب، وهمَّ بقتله وقد طار السيف من يد المشرك الذي لم يجد وسيلة امامه سوى أن يبصق (آيساً بائساً أو غطرسةً وتكبراً) على وجه المكرم سيدنا علي بن ابي طالب. فما كان من سيدنا علي إلاّ أن تركه وأنصرف عنه ولم يقتله …!فلما سُـئِل قال : لقد كنت أقاتله لله، فلما بصق في وجهي أحسست بأني أريد الإنتقام لنفسي فتركته…!
و وَرَدَ: أنّ المشرك جرى خلفه مستفسرا عن سبب عدم قتله باستغراب. فكان الرد وبلا تفكير كدت ان اقتلك لانك عدو الله، اما وإن بصقت عليَّ فقد صرت عدو لي. (أي خشي من أنّه إن قتله وهو غاضب أن يكون ذلك غضباً لنفسه لا لله) فلم ينتصر الصحابي الجليل لنفسه التي بين جنبيه ولكنه كان جاهزا للانتصار لربه ونبيه ودينه.
و ورد: أن المشرك تأثر كثيراً بفعل وإجابة ألإمام، فما كان منه إلا أن اعتنق الإسلام بمحض إرادته.
و ورد: أن علياً بعد ان هدأت نفسه عاد اليه فقتله.

هذه القصة شائعة حاضرة في وسائل التواصل الإجتماعي والمواقع ومقالات الصحف، ويتداولها ويروج لها العديد من الخطباء والدعاة والوعاظ ممن لهم شهرة واسعة ويتناقلها كثير من العوام، كما واستشهد بها العديد من الكتّاب والمؤلفين المعاصرين، عندما كتبوا في تخصصات ومواضيع متنوعة مثل: موضوع إخلاص العمل لوجه الله او موضوع القوانين والاخلاق الحربية أو موضوع إصلاح النيّة، أو حظوظ النفس والشيطان، وغير ذلك.
فعلى سبيل المثال: ذكرها الشيخ روكان احمد ابراهيم صاحب كتاب الإخلاص سبيل الجنة في ضوء الكتاب والسنة.
واوردها محمد محمد احمد في كتابه: فقه الحركة الاسلامية.
كما اوردها المهندس عزام حدبا في روايته: عرسنا في الجنة.
وجاءت في كتاب الإسلام والقانون الدولي الانساني دراسات مقارنة: لمجموعة من الباحثين ترجمة رعد الحجاج وعلي عباس الموسوي.
ووردت في كتاب مقالات في الدعوة والاعلام الاسلامي لمؤسسة اخبار اليوم: واشار واضعو الكتاب الى ان المنازلة كانت مع يهودي في خيبر.

وذكر كتاب ولادة النور قصص للناشئة من منتدى الكفيل، أن الحادثة كانت مع عمرو بن عبد ود.

واستشهد بها الدكتورعبد الرحمن عميرة في كتابه: الاسلام و المسلمون بين احقاد التبشير و ضلال المستشرقين. وذكر ان بلا ل بن رباح هو من شاهد علياً لم يحز رأس المشرك، فسأله: ياعلي كيف تترك عدو الله ولا تقتله وهو بين يديك؟.

وغير ذلك من الكتب والمؤلفات من نتاج عصرنا الراهن.ولاحظ ان هذه الحكاية تسللت الى مؤلفات متنوعة من التخصصات والفنون كما هو واضح من عناوين الكتب.

هذه الحكاية أو الرواية لها حضورفي الواقع الاعلامي اليوم، وربما استجاز نقلها بعض من تداولها حين وجد الحاجة الى الإستشهاد بها، على إثر الدماء الغزيرة التي سفكت في مجتمعاتنا، حيث تلاشت حرمة النفس البشرية التي هي في ألأصل حرمة مشدّدة. حتى غدت عمليات القتل والإنتقام من اي فرد أو أي جماعة، من أهون الأمور وأقلها كلفة. فلعلهم ارادوا تذكير المعتدين، بأن يراعوا الله في هذا الإجرام الذي جرى.
هذه الرواية باطلة من وجوه :
1- لا يمكن الوقوف على جذورها ومنشئها، لأنه لا أصل لها في أي مصدر من المصادر الموثوقة، ولم ترد في أي كتاب من كتب التاريخ والسير القديمة المعتبرة. ويبدو انها من نتاج القرن السادس الهجري حيث اوردها إبن شهرآشوب في كتاب مناقب آل ابي طالب ج1 ص 381. بدون ان يذكر سنداً لها، لا سنداً ضعيفاً ولا صحيحاً. واوردها بعد ذلك المجلسي في بحار الانوار ج 41 ص51. فتناقل اهل التأليف والوعظ والدعوة في العصر الحاضر هذه الرواية على نفس المنوال بدون تدقيق ولا تحقيق ولا مصدر ولا سند.
2- صياغتها تُظهر أنها منكرة، وأنها مسرحية سيئة الإخراج. إذ كيف يبصق المشرك في وجه علي (رضي الله عنه) بعد تمكنه منه، وحال المشرك آنذاك ينبغي ان تكون حال استعطاف ورجاء، لينجو من القتل، وليس حال تكبر واستعلاء؟.
3- كيف يتركه علي (رضي الله عنه)، وهو لم ينزل الحرب إلا لقتال المشركين وقتلهم؟. أيتركه ليقاتل المسلمين، ويعيث في الأرض الفساد؟.
4- لمّا بصق عليه – آيساً او استكباراً– أكد فعله هذا أنه عدو لله، وعدو لعلي (رضي الله عنه)، فقتله حينئذ آكد.
5- فإن لم يكن حال المشرك حال استعطاف ورجاء، وقد رأى الموت امام عينيه. ومع ذلك بصق فإنما يبصق عن غطرسة وصلف وتكبرواصرار على الكفر والشرك، وفي هذه الحالة لا ينبغي ان يترك مثل هذا حتى ولو بصق اكثر من مرّة.
6- كيف يمكن أن يتوقف علي، ويترك ذلك المشرك شديد البأس، في أرض المعركة، خشية على نفسه من طروء انفعالات شخصية عليها إثر البصقة؟، فيقرر أن يتركه حتى يسكن غضبه، كي لا يكون قتله انتقاما لنفسه!. هل هو هنا على خشبة مسرح أم في ساحة وغى لا مجال فيها للتريث!. ثُمَّ كم سيحتاج من الوقت لإراحة ضميره وخلو نفسه من الإنفعالات، وتطهرها من المشاعر البشرية الطبيعية؟. وثُمَّ ما المانع الشرعي في ان يجمع في كيانه غضبين في آن. غضب لله، وغضب لنفسه، وهذا حقه. والتنازل عن حقه الشخصي مع اعداء الله في موقف مفاصلة الحق مع الباطل، لا يُعَدُّ مكرُمة.
7- هل كانت منازلة فردية ؟، أم كانت في خضم حشود معركة محتدمة؟. فإن كانت الأخيرة فالموقف في هذه الحالة لا مجال ولا وقت فيه كافٍ للتريث والتفكير والتسامي، بحجة الإنفعالات الشخصية، واستحضار الهدوء النفسي وصفاء النيّة.
8- ثمّ هل كان علي (رضي الله عنه) في حالة هدوء واسترخاء حينما شهر السيف ليهوي به حتى يخشى على نفسه من تغير نيته؟، ام كان في حدة العنفوان والعزم والغضب لله وهو يقاتل؟، وفي هذه الحالة من الطبيعي ان أي تصرف معاكس للإيمان يصدر من الخصم سيزيد من عزمه وغضبه ويؤكد نيته على المضي في القتال الى آخره، لا أن يكف سيفه.
9- هل يعقل ان يقوم الجريح وهو قاب قوسين أو أدنى من الموت، وما زال الحدث حاميا، وقد تولى عنه علياً لبرهة. فبدل ان يغتنم الفرصة ويفر هاربا. على العكس يتبع علياً ليسأله : لمَ لم تقتلني ؟ هل هذا يُعقل؟.
10- ان كان علي (رضي الله عنه) قد أجهز عليه – على زعم من يقول بذلك- فلماذا يجهز على جريح ؟، هل من قيم الاسلام الإجهاز على الجرحى في الحرب؟.
11- هنالك اضطراب في تعيين من الذي انكر على علي في عدم مبادرته لقتل المشرك!. هل هو المشرك نفسه؟، أم بلال الحبشي؟، أم الصحابة ممن كانوا معه في تلك اللحظة؟. فالروايات متضاربة.
12- الإضطراب في زمان ومكان حدوث الواقعة. واضطراب في وصف وتسمية الذي بصق على الامام. هل هو كافر أم مشرك. فالبعض يُبهم ويقول ان الذي بصق مشرك. ويقول البعض ألآخر انه يهودي. ويقول العلامة الوائلي وآخرون: إنه مرحب اليهودي، وأن الواقعة حدثت في خيبر. ويعزو إبن شهرآشوب في مناقب آل ابي طالب ج 1 ص 381، والمجلسي في بحار الانوار ج41 ص51. ومحمد الريشهري في موسوعة الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب والسنة والتاريخ ج١ ص٢١٣. ان المشرك هو عمرو بن عبد ود العامري ( وعمرو قضية أُخرى سنفرد لها بإذن الله حديثا لاحقاً)، اي ان مكان وزمان الواقعة في الخندق وليس في خيبر!، فعلى أيّها نرسي؟. هكذا يجري التخبط في الحبكة الدرامية لهذا المسرحية الخيالية.
13- حبكة نهاية المشرك بقيت مفتوحة: هل اجهز علي عليه فقتله؟ أم عفا عنه وأطلقه؟ أم أعلن المشرك اسلامه ونجا من القتل؟. بل ذهب الحماس باحدهم فقال : أسلم وأصبح تابعاً من أتباعه. الحكاية لا تستقر على واحدة من هذه النتائج. وانما يبدوا ان كل راوٍ يضع لها نهاية تتناسب مع ما يقدمه من طرح.
الخلاصة : هذه الحكاية واضرابها كثير، تعطينا صورة غير حقيقية عن الإمام علي (رضي الله عنه وأرضاه) وتصوره على انه شخصية فوق الطبيعة البشرية، شخصية اسطورية غير قابلة للتقليد والإقتداء. وأن افعالها وردود افعالها مما يعجز البشر عن مجاراتها. وعلينا أن نتسائل هنا: شخصية بهذه الصفات كيف نروي افعالها العجيبة (على زعم انها حقائق!) ونطلب من الناس الاقتداء بها، وهم قطعاً سيستشعرون عجزهم عن الإقتداء بها والتحلي بصفاتها. الا يؤدي ذلك الى الاحباط – او على أقل تقدير- انكار لوجود مثل هذه الشخصية.
صفات وأخلاق الإمام علي (رضي الله عنه وأرضاه) ومعه الصحابه جميعاً (رضي الله عنهم) انهم نماذج للإقتداء وليس للتأليه. انهم السلف الصالح لهذه الامة. رجال ربانيون ابطال، حملوا الرسالة وبلغوها بكل صدق ويقين. غلّبوا رضى الله واخلصوا العمل لوجهه الكريم سبحانه، وإستعلوا على رغباتهم وحظوظ دنياهم.لا شك انهم كانوا يراقبون انفسهم، ونياتهم سليمة فيما يقدمون عليه من عمل، ويؤثرون ما عند الله، ولكنهم مع كل هذا بشر ينتابهم ويعتريهم ماينتاب كل البشر، غير انهم يقتدون بنبيهم البشري (صلى الله عليه وسلم) الذي كان يأكل الطعام ويمشي في الاسواق.
نقدنا للرواية هنا لا يتعلق بالإمام علي (كرم الله وجهه)، ولا الإنتقاص من شجاعته وتقواه، ولا يجرء احد على ذلك، وهو الصحابي الجليل المبَشَر بالجنة، وانما المقصود ذات الحكاية المخترعة عليه. فشرف علي (رضي الله عنه) وعظمته وجلال قدره ومحبته تجدها ماثلة في قلب كل مسلم، لأن محبته وإجلاله من الدين، فلا حاجة للكذب عليه بحكايات واساطير تسيء ولا تنفع. فهو اسمى واجل من ان نصوغ ونسبغ عليه (بمثل هذه الحكايات)، شخصية خرافية وهمية. إذ يكفينا من الأوهام ما هو موجود مما تعج به مجتمعاتنا في الفكر والتصور والواقع.