23 ديسمبر، 2024 12:13 ص

استقالة مصحح لغوي

استقالة مصحح لغوي

كانت اللغة متنزه روحه الاول والاخير، فبعد ان قضى عمرا في تدريس اللغة العربية، رأى ان يعمل مصححا لغويا في احدى الصحف، لاتكاد تكلمه حتى ترى حفنة من الحروف على شفاهه يرفع هذا وينصب ذاك ويضع كلا في محله الاعرابي المخصص له، كانت مهمته التعليمية اسهل من مهمته التصحيحية، فطالما كرهه العاملون، وخصوصا المثقفين من يتتبع اخطاءهم، ويرى سقطاتهم، لم ينس ذلك العمود للكاتب المشهور الذي امتاز بخمسين خطأً من بين 400 كلمة، فلم يدخر وسعا في توجيه الكاتب حتى مع ثورته وامتعاضه، استوعبه وهو يقول: انها اخطاؤك  ياسيدي وليست اخطائي، لم ينس اختلافه مع الشاعر الكبير المقيم خارج العراق حول كتابة الهمزة، وتقديم الشاعر شكوى ضده لرئيس التحرير، فما كان منه الا ان يطبع ملزمة بكيفية كتابة الهمزة ويوزعها على المحررين في الصحيفة، ترتجف شفاهه وكفاه عندما يصر احدهم على اخطائه، ولايرتفع صوته ابدا ، لكنه يغادر الموضوع بهدوء، يعود الى غرفته المنفردة في البتاويين، ليسهر مع كتاب او زجاجة، وامام منضدته التي ذابت فوقها الشموع كانت تحيا آلاف الكلمات، وتخرج من قبورها، يقرأ باستمرار، فهو لايعرف شيئا سوى القراءة.
الغرفة التي يسكنها عبارة عن مكان تشعر فيه بالحرية، فانت لاتتحرج ان تضع عقب السيكارة تحت قدمك عندما تنتهي من تدخينها، او ترمي بالزجاجة على البلاط فهي واحدة من عشرات ولا يهم ان زاد المكان او نقص قليلا، وحين تجلس على سريره المعوج من منتصفه، تستطيع ان تشم رائحة النساء الرخيصات جدا، فهذه الرائحة غالبا ماتلتصق بالامكنة، وهناك على المنضدة بقرب الكتب المرصوفة تل من الشمع الذائب الملتصق، يخطأ في كل شيء حوله الا في اللغة، وحين تستوقفه جملة جميلة في احد الكتب يهرع الى الشرفة ليستنشق الهواء ويدير كأساً اخرى، وكأنه قد بشر بنجاح احد ابنائه، لايحب الندامى ، يجلس وحيدا، الكتاب افضل من اي صديق، انهم معي كبار الكتاب، ماذا افيد من نديم احمق لايميز بين الفاعل والمفعول، لن يتوانى ان يلغي موضوعا كاملا اذا كان مليئا بالاخطاء، ويذهب الى مدير التحرير ويخاطبه بامتعاض، ماهذه النفايات؟ انا اعجب منكم، كيف تقبلون هذه الكتابات الرديئة وتبعثونها للتصحيح، لم تكن اللغة ميزانه الوحيد، كان يمتلك أذناً موسيقية لا تقبل الخطأ حتى وان لم يعرف السبب، لم يكد يدخل مبنى الجريدة، حتى اتته ريم المحررة في قسم الاخبار بقصيدة لحبيبها الشاعر.
وضعها امامه واخرج سيكارة وراح يستنشقها ببطء كبير، لم تكن قصيدة ، كانت عبارة عن ليلة حب ركيكة، لم يحسده فيها على رجولته، بقدر ما ابدى امتعاضه من ركاكة الجمل الشعرية وفراغها من مضمون جيد، حمل القصيدة وذهب الى مدير التحرير، لايمكن ان تنشر هذه القصيدة، انا الفلتر الحقيقي كما يقول رئيس التحرير ولايمكن ان تمر خلالي هذه القاذورات، واذا اقول لك ان رئيس التحرير يريد نشرها ايها الفلتر، عندها صمت قليلا، وهبط السلم الى كشك سلمان ، جلس وشرب قدحا من الشاي: ( سلمان ، يمكن بعد متشوفني اهنا، ليش استاذ) لم تعد عيشتي هنا، ارتقى السلم من جديد، واقترب من مدير التحرير الذي كان شاعرا ايضا، ماذا قلت استاذ؟ هل اهمل القصيدة؟، اذهب الى رئيس التحرير لترى رأيه، دخل على رئيس التحرير فأمر بان تنشر القصيدة، حمل القصيدة وورقة أخرى معه، ودخل على رئيس التحرير: هذه القصيدة وهذه استقالتي معها.