23 ديسمبر، 2024 1:45 ص

إلى عملاقة شعر اسمها ريتا

إلى عملاقة شعر اسمها ريتا

ريتا والتأسيس لقصيدة النثر العربية:
سيدتي عملاقة قصيدة النثر: الشعر استفزاز وأنت مستفزة ! اعذريني على هذا القول, لا يستطيع ذو إحساس أن يتجاوزك, فكلمات شعرك تبرق وتغري كل عابر سبيل ظمئ, وكأنها سراب قريب يتلمّسه وبعمق فتمسك يده الأرض….! صناعتك بارعة متقنة الجمال تجعل الخيال شعوبًا وقبائل وصراعات وزغاريد، نحيب وعويل، موت وحياة، يسمعه المارة من أفواه حروفك… وها أنا وقعت في مصيدته وتلمست سرابه بعمق إنساني وأبحرت فيه, وضعت, ولا أزال أبحث عن نفسي علني أجدها, وأكون قد أنصفتك أيتها الجميلة المنسية….!

أنا أعرف أن قصيدة النثر قضية, لكنها في رأس قلمك إنسان يعيش ويتحرك ويتنفس, وله قلب ينبض وعيون ترى ويحس بمأساته, فقد تجاوزت كلماتك واقعية التوصيف ولبست أردية التشخيص بشكل مجسّد, فصارت القصيدة فتاة بعمر زهرة تنصح نفسها بروتين حركاتها وإرهاصاتها اليومية، فمن يقرأك يحس أنه يقرأ قصة لها بطل وسرد لأحداث لذيذة ومقتضبة, تسكن خلف الكلمات، حين أنظر في خبايا قصائدك أجد جمالًا حتى في الموت الذي أعطيتيه مساحة وكأنه حبيب أو صديق قد غاب وسيحضر, وتلك عقلانية الواقع ومستلزمات القدر التي ستسكننا يومًا، شئنا أم أبينا.

بحثت ذرائعيًا في مساحات قصائدك النثرية المترامية الأطراف خلف آراء سوزان برنار وفولتير وأدونيس والآراء التي قيلت في قصيدة النثر, ووجدت:

1- أنك سيدتي قد أسست لقصيدة النثر منحنى جديدًا جميلًا محترمًا, وأعطيتها سمة انزلقت من قواميس من سبقوك ممن كتب فيها وكتب عنها, وهذا الانزلاق يتجلّى في أنها وليدة للترجمة, وكل قصيدة في أي لغة تدخل رحم الترجمة تخرج عريانة من الشكل (ولو تصورنا أن الشكل هو الأردية والمضمون هو الجسد) فإنها تخرج جسدًا عاريًا, كجسد حديث الولادة, تستقبلها في مسقط رأسها الجديد اللغة المترجَم إليها, كأنها وليدة بعمر ثانية تصرخ صرختها الأولى في أرض غريبة ولا ثوب يسترها، فهي تخرج من رحم الترجمة عارية من الشكل, والدليل في ذلك أرسمه لك أيتها المبدعة بمثال بسيط لتدركي ما أنت عليه من إبداع : لو ترجمنا قصيدة للمتنبي إلى الإنكليزية بالبحر الطويل أو أي بحر خليلي آخر, فهل ستحافظ تلك القصيدة على موسيقى هذا البحر في اللغة المترجم إليها ؟….بالطبع لا…و لسبب بسيط, لأن الإنكليزية لا تحوي بحورًا خليلية في شعرها, من منطلق المبدأ الترجمي (ليس من الضروري لحقيقة في لغة معينة أن تكون نفسها في اللغة الأخرى), وهذا المبدأ يفرض على المترجمين الدقة في ترجمة المضمون على حساب الشكل، وهذا يعني أن قصيدة النثر فقدت الشكل قسرًا, وأصبحت ناقصة شعريًّا (وبنظرة شكلانية )أي فقدت شاعريتها بفقدان موسيقاها ( لأن الموسيقا تدخل في الشكل الشعري, فلا يكون شعرًا إذا فقدت الموسيقا), وأصبحت خاطرة, أي تحوّل جنسها من الشعر باتجاه جنس النثر, لكون الموسيقى عمودًا بنائيًّا من أعمدة الشكل وليس المضمون، فارتكزت على المضمون فقط, وهذا القضية التي خدعت من كتب عن قصيدة النثر, فاتهموها بأنها فارغة من الانزياح, وأن أسلوبها جاف, وهي تحمل قضية سردية, ولم يدخلوا في تفسير ثناياها بشكل فلسفي ومنطقي عميق…..

2- أما أنت -أيتها المبدعة- فقد نظرتِ للقصيدة ككيان شعري لا يختلف عن كيان القريض, ورسمتِ لها مسارًا خاصًّا يمتاز عن مسار عبد الجبار الفياض الفلسفي, و مسار عبير العطار الرومانسي, وشلال عنوز الوطني, ومسار الرائد حسن طلب السياسي, ومسار محمد الماغوط الاجتماعي. بذلك أخذت قصيدة النثر أغراضًا عصرية, تتميز بها وتختلف عن بقية أنواع الشعر بعمومية التعبير بأغراض، فكنتِ أنتِ أحد المؤسسين لمدللة الشعر الحر, لكونك تميزتِ بالكتابة بأغراض الحياة العامة, وخصوصًا ما يخصّ الأدب النسوي, وبتقنيات راقية من مدارس عربية بلاغية وأجنبية, فصنع خليطك التزويقي شكلًا راقيًا ومستفزًا.

3- عبد الجبار الفياض يكتب بغرض فلسفي, وآخر أنثروبولوجي, وأحيانا يخلط بين الفلسفة والمثيولوجيا. أما شلال عنوز, فيتّخذ أسلوب الرمز والقرين, ويخلط بين الوطن والرومانس, وعبير العطار تكتب بمسار رومانسي, وحسن طلب بمسار سياسي, والماغوط بمسار اجتماعي, أما تميزك أنت فهو ينفرد عن الباقين بأنك تبنّيتِ جانبًا بيانيًّا بلاغيًّا غربيًا راقيًا في جميع قصائدك وهو التشخيص (personification), وظهرت عندك تلك التقنية الأجنبية بشكل ماحوظ وبتمييز عربي متين, رغم أن هذا المبدأ الاستعاري من أبرز مقومات الشعر الغربي البلاغية وخصوصا الشعر الإنكليزي، وهذا المبدأ كان مكروهًا في الشعر العربي، لكنك أدخلتيه بقصائدك بقوة ومتانة, حتى صار أبرز مزايا قصيدة النثر العربية عندك أنت بالتحديد….. فأنت تشخصنين الأشياء غير الملموسة, وتجعلين كل شي غير محسوس إنسانًا تخاطبينه كأنه يرتشف فنجانًا من القهوة معك …

4- برأيي المتواضع: لا قصيدة نثر أجنبية على الإطلاق, والسبب بسيط يكمن بعمومية الولادة, فكل قصيدة تترجم من لغة إلى أخرى تشهد ولادة لقصيدة نثر, وتلك الحقيقة التي جرّتني إلى القول في موسوعتي الذرائعية المجلد الثاني (الذرائعية وسيادة الأجناس الادبية): أن قصيدة النثر لا أصل لها، فهي وليدة للترجمة، ويكمن أصلها بمن يرعاها ،فلو كانت قصيدة النثر ذات أصل أجنبي ولد من الترجمة فهي إذًا بجانبٍ واحد فقط, أعني المضمون فقط, مجردًا من الشكل, لكون شكلها قد خلع في رحم الترجمة, ولو أضاف لها المترجم شكلًا ارتكب خيانة ترجمية، لأنه اعطاها شكلًا عربيًّا ليس لها، وجعلها هجينة بمضمون أجنبي وشكل عربي….هل يجوز ذلك..!؟

5- أما هامش القصيدة, فهو وحده حكاية ذات شجون من عصرنة وتجديد وتحديث, شكلًا ومضمونًا ونقدا, وأنا اعتبرت ذلك من وجهة نظري النقدية المتواضعة – فأنا لست بناقد- لكني أفكر فيما أرى بعمق وبمنطق, قد أكون على خطأ فيما أقول، وليسامحني من هو أعلم : أظن أن الشاعر ينقد نفسه في هذا الهامش, أي يقوّم ما كتب بشكل مقتضب, فيظهر وكأنه يعطي بؤرة لنصه تدور حولها أحداث القصيدة, وهذا شيء جديد في أجناس الشعر لأنه:

– صفة جديدة تضاف للشكل الشعري العربي, فتعطي قراءة جديدة للشاعر والمتلقي والناقد, مايجعل القصيدة ذات جانبين (متن وهامش), وتلك ميزة لو استثمرت ستميز قصيدة النثر عن أنواع الشعر الأخرى، وكل منهما يكمل الثاني, وهذا سيكون فرض جميل في قصيدة النثر.

– أما في المضمون, فالشاعر أعطى (ثيمة أو بؤرة ) للنص في الهامش, فلخّص القضية المهمة التي أراد تناولها والتعبير عنها في القصيدة, فصارت القصيدة مفتوحة للمتلقي وللناقد, ما لا يفهمه في المتن يفسره الهامش….هذا رأيي و قد أكون على خطأ…

أكتفي بذلك سيدتي, فالحديث طويل ومتشعب,, والموضوع شيق ومهم ولم أرَ من يهتم به وبكم, وأنتم من يا من تلفظون في كل قصيدة أجزاءً من قلوبكم أنفاسًا لأقلامكم… كتبت تلك السطور في تلك المقالة – المتواضعة- لأرد لك شيئًا من الاعتبار, وهو شكر خجول لك ولجميع القامات التي كتبت هذا النوع المدلّل من الشعر….أنا في صدد تأليف الجزء الرابع من موسوعتنا الذرائعية أنا والأخت عبير خالد يحيي, التي ستدرس قصائدك, وسيكون لهذا الأمر مساحة واسعة, بعد عودتي إلى الوطن من روسيا إن شاء الله, وسيذكر كل شيء عنك وعن جميع من أبدع في هذا النوع من الشعر, وهذا الجنس المظلوم….أعتذر لك ولكل شاعر كتب حرفًا رصينًا ولم أذكره, وبابنا مفتوح للجميع….

إلى طفلة اسمها ريتا.. شعر: ريتا الحكيم/ سورية

إلى طفلةٍ اسمها “ريتا” ما زالتْ تسكنُني، أهمسُ:
لَملِمي ألعابَكِ وخبِّئيها في جيبِ القَدرِ
لا تَكبري في عينِ مرآتكِ مهما استدرجتكِ إلى تجاعيدِها
إنْ عشقتِ يومًا..
فاعشقي رَجُلًا يُهديكِ ملايينَ القُبلِ
لا تُفرِّطي بهِ إنْ رَمى لكِ بقلبهِ مِنَ الطَّابِقِ العاشرِ للحُبِّ
لينتزعَ فتيلَ الشَّوقِ
ويُخمدَ حرائقَ الحربِ

أما إنِ اختلطَ عليكِ الأمرُ..
سارِعي إلى أوَّلِ مُنعَطَفٍ للموتِ
وباركيهِ بطعنةٍ مِنْ حُزنٍ أبيضَ
حذارِ يا طفلَتي مِن حياةٍ لا تثقُ بأنَّكِ طفرةٌ
في جيناتِ الأنوثة!

حَذارِ مِنْ رَجُلٍ تتسلَّلُ النِّساءُ مِنْ قصائدهِ ليلًا
لتندسِّ في فراشكِ!
حذارِ مِن رَجُلٍ لا يزفرُ عطركِ بدلَ الأنفاسِ!
إذا نطقَ باسمكِ رقصتِ الأكوانُ
وإذا فكَّ ضفائرَكِ في غفلةٍ مِن شرائطِها
صارتْ غاباتٍ خضراءَ

أغدقي هطولَكِ على صحراءِ قلبهِ
وإيَّاكِ أن تُبَلِّلي قصائدهُ بالدُّموعِ
وإنْ حدثَ ذلك َسهوًا، دَعيها تجفُّ على حبالِ النسيانِ
اضحكي..
اصرخي..
وابكي..
لكنْ للحُزنِ لا تستكيني أبدًا..
ولا تستسلمي.
——————————-
– على هامشِ النَّصِّ، أعترِفُ أنَّني أقحمتُ اسمي في سياقهِ عمدًا؛ فلا تسألوني من هو حبيبي.