يوشك أن يكون جميع الموظفين والطلبة قد عادوا إلى منازلهم بعد انتهاء الدوام الرسمي، وقتئذ تندفع بسرعة مئات أو قـلْ ألوف الصهاريج والشاحنات الكبيرة إلى مدينة الموصل ، مثلما يتدفق الماء من فم خرطوم ضيق.
فبعد أن تكررت حوادث انفجار مركبات كبيرة في محافظة نينوى أوقعت خسائر بشرية ومادية جسيمة، منعت الأجهزة الأمنية سيرها في الموصل مركز المحافظة، ومن حسن الحظ أن القرار لم يكن على إطلاقه، إذ تم تحديد 9 ساعات يوميا يرفع خلالها الحضر، من 3 مساء وحتى منتصف الليل.
أكثر من خمس سنوات مضت ومازالت المعاناة نفسها تتكرر يوميا، ففيما تصطف الشاحنات طوابير طويلة عند مداخل المدينة، يفترش سائقوها الشوارع في اشد نوبات الطقس تطرفا (حرا وبردا)، بانتظار ساعة الصفر لينطلقوا في ماراثون محفوف بالدخان وصراخ المحركات الضخمة.
وبالرغم من عدم وجود إحصائية رسمية أو تقدير لحجم الأضرار الناجمة عن هذا القرار، إلا أن الواقع يفضح الأمر، فبعد ان كانت الشاحنات والصهاريج تنقل حمولتين أو أكثر يوميا اختصرت اليوم بواحدة لضيق الوقت، ولتقييدها بسلوك طرق محددة وعبر جسر واحد من مجموع خمسة تربط شطري المدينة التي يمر فيها نهر دجلة، أدى ذلك إلى ارتفاع أجور النقل حوالي 50%.
وبصفة عامة يعرقل قرار المنع هذا الحركة التجارية في محافظة تضم نحو 60 ألف سيارة حمل (صغير وكبيرة) بحسب إحصاءات دائرة المرور، وكلما نوقشت أسباب تلكؤ مشاريع الاعمار والبناء، تذكر إجراءات تقييد حركة الشاحنات كأحد المسببات الرئيسة.
الموصليون ينظرون بدورهم إلى “شاحنات الطوابير” التي تحشو شوارع مدينتهم الضيقة بإشفاق وأحيانا بضيق، بسبب الزحامات الخانقة التي تسببها خاصة وقت الذروة، حتى أصبح معلوم لديهم أن التجوال بين الـ 3 و الـ 5 مساء يعني احتمال الوقوع في شرك زحام قاتل.
ومع ذلك يبدو أن الناس هنا تكيفوا مع هذا الوضع الاستثنائي، فعندما انطلق سائق تكسي يقل 3 أشخاص من وسط المدينة بسرعة جنونية سالكا طريقا متعرجا غير معتاد لكنه يبدو مختصرا، دمدم احد الركاب: كأني أرافق جيمس بوند في إحدى مطارداته، بيد أن السائق لم يلقي له بالا.
وعندما اجتازت السيارة الصغيرة شارعا رئيسا عند طرف المدينة الغربي، أطلق السائق زفرة نجاة، واكتفى أن أومأ برأسه إلى أسطول من الشاحنات المسرعة صوب الموصل. فهم الركاب مراده، فقال مستهزئا بهم: لو تأخرتم 10 دقائق لما كان يستطيع جيمس بوند ولا حتى سوبر مان أن ينقذكم من بين هذه الوحوش.