لا يـستـهـويـنـي أي وصـف ٍ لـهـذه الـروايـة غـيـر أن أسـمــيـهـا ( بـالـقـراءة الـخـلـدونـيـة ) أي ( قـراءة الـصـف الأول الابـتـدائـي ) الـتـي تـغـري الـتـلامـيـذ لـيـتـعـلـمـوا مـنـهـا الـمـعـارف مـع الـمتـعـة ، ثـم يـنـطـلـقـوا بـعـدهـا للـحـيـاة الـرحـبـة .
فـمـدخـل الـروايـة بـدون حـواجـز أو خـنـادق أو جـدران ، وأبـوابـهـا الـمـشـرعـة لـيـسـت بـحـاجـة لـمـزيـد مـن الـطـرق حـتـى تـفـتـح لـك مـصـراعـيـهـا ، فـمـا عـلـيـك سـوى أن تــتـنـحـنـح أو تـضـرب الأرض هـنـيـهـة ً بـقـدمـيـك وتـتـأمـل ، ثـم تـدخـل لـفـنـائـهـا دون استــئـذان . ومـا أن تـولـج فـي رواقـهـا الـفـسـيـح ، فـسـتـجـد نـفـسـك غـائـرا ً فـي واد ٍ هـائـل ٍ مـن الأراجـيـز الـمــتـشـابـكـة والـمتـعـانـقـة بـأطـيـاف مـن الأشـكـال ِ والألـوان والـمتـنـاقـضـات ، وهـو َ الـوصـف الـسـريـالـي ، الـذي قـدمـتـه الـروائـيـة الـشـابـّـة ( إسـراء عـبـد الـعـالـي ) فـي روايـتـهـا (مـوضـع الـبـحـث ) ولـكـن مـن خـلال مـدرسـة واقـعـيـة ، تـنـسـاب بـكـل يـسـر وعـذوبـة للـمـتـلـقـي أي ٍ كـانـت درجـة الـوعـي الـتـي تـلازمـه ، أو لـمـن يـحـب أن يـقـرأ . فـأشـخـاص الـروايـة ، وأبـطـالـهـا ( إن جـاز الـقـول ) جـمـيـعـهـم أنـاس عـاديـون ، يـمـارسـون حـيـاتـهـم الـطـبـيـعـيـة دون هـواجـس كـبـيـرة ، وقـد يـخـتـلـفـون فـيـمـا بـيـنـهـم أو يـتـهـكـمـون ، أو يـتـشـاجـرون فـقـط بالـكـلـمـات الـسـاخـنـة ( أحـيـانـا ً ) أو بـالـهـجـاء الـمـقـبـول فـي أحـيـان ٍ أخـر ، وربـمـا تـصـل بـعـض الـمـشـاحـنـات الـمـقـصـودة لـحـد الـعـقـوق بـالـوالـديـن ، كـمـا كـان يـفـصـح بـهـا ( خـالـد ) حـيـنـمـا كـان يـتـمـنـى مـوت والـده ، ونـطـقـهـا مـلءَ شـدقـيـه بـحـذلـقـة تـحـيـطـهـا الـحـمـاقـة وتـؤطـرهـا الـدعـابـة الـسـمـجـة .
ومـن هـنـا أسـسـت الـروائـيـة ومـن خـلال هـذه الأنـغـام الـمتـواصـلـة ، والـتـي بـاتـت مـثـار هـواجـس وارتـيـاب الـسـيـد ( مـالـك ) بـأن ولـده الـوحـيـد والـمـدلل هـو مـحـض بـؤرة شـيـطـانـيـة ، مـع كـل مـا يتـمتـع بـه مـن مـتـطـلـبـات الـحـيـاة الـكـريـمـة ومـا يـستـلـزمـه مـن رفـاهـيـة ، بـيـد أنـه مـنـطـمـس مـن قـمـة رأسـه حــتـى أخـمـص قـدمـيـه فـي دهـالـيـز الـشـر ، وأرض خـصـبـة لـيـزرع مـايـشـاء فـيـهـا إبـلـيـس .
وعـودة عـلـى ذي بـدء ، فـإن الـكـاتـبـة الـمـوهـوبـة إسـراء عـبـد الـعـالـي أختـتـمـت روايـتـهـا . الـمـوسـومـة ( أنـغـام الـشـيـطـان ) دون أن تـذكـر ( لـفـظ الـشـيـطـان ) إلا مـرتـيـن ، وأولـهـا فـي الـصـفـحـة 192 مـن أصـل 414 صـفـحـة ، وهـنـا يـكـمـن سـر إبـداعـهـا ، بـل استـطـاعـت أن تـجـسـد أفـعـال الـبـشـر الـذيـن يـتـنـاغـمـون مـع الـشـيـطـان بـصـور جـلـيـة ، ولـوحـات واضـحـة الـمـعـالـم ، كـأنـهـا صـور فـوتـغـرافـيـة ومـن كـافـة الـزوايـا والأبـعـاد .
وعـلـى الـرغـم مـن أن فـعـلـي الـخـيـر والـشـر هـمـا مـتـلازمـتـان لـم يـنــفصـلا عـن الأنـسـان مـنـذ نـشـوئـه ، وقـد تـنـاول فـحـواهـا الـكـثـيـرمـن الأدبـاء والـروائـيــيـن ومـنـهـم الـروائـي الـروسـي الـخـالـد ( دوسـتـوفـسـكـي ) فـي رائـعـتـه ( THE Brothers Karamazov ) أو ( الأخـوة الأعـداء ) وغـيـره ، إلا ّ أن الـروائـيـة الـعـراقـيـة ( إسـراء عـبـد الـعـالـي ) تـفـوقـت فـي صـنـع تـمـاثـيـلـهـا مـن بـشـر هـم يـعـيـشـون بـيـن جـنـبـاتـنـا ونـتـحـسـسـهـم ونـلتـقـيـهـم كـل يـوم ، وقـد نـتـعـاطـف مـعـهـم ، أو نـعـطـف عـلـيـهـم ، ولـكـنـهـم فـي واقـعـهـم ( ذئـاب مـفتـرسـة ) تـضـمـهـا أشـلاء مـتـمـاسـكـة ، وجـلـود إنـسـان .
ومـن هـذا الـمـنـطـلـق تـمـكـنـت الأديـبـة الـسـاحـرة كـيـف تـصـوغ أفـكـارهـا مـن خـلال الـمـعـايـشـة والـمـشـاهـدة والـتـرقــّـب .
إن ( أنـغـام الـشـيـطـان ) مـا هـي ّ إلا درّة مـن درر الإبـداع الـنـسـوي الـعـراقـي ، اختـرقـت بـهـا الـروائـيـة حـواجـز الـصـمـت الـروائـي مـنـذ ُ مـا يـربـو عـلـى الـعـقـديـن ، وبـعـد أن تـوقـف قـلـب الـروايـة الـنـسـويـة فـي مـطـلـع التـسـعـيـنـات ، ونـضـبـت أقـلامـهـن ، مـن عـلـى أنـامـل ( دنـى غـالـي ) و ( كـلـيـزار أنـور ) و (ابـتـسـام يـوسـف الـطـاهـر ) و ( حـوراء الـنـداوي ) وأخـرهـن ولـيـسـت الأخـيـرة الروائـيـة ( سـمـيـرة الـمـانـع ) فـي ( الـقـابـعـون ) والـتـي صـدرت عـام 1997 . ولـم أقـرأ بـعـدهـا أي روايـة نـسـويـة ، عـدى ( أنـغـام الـشـيـطـان ) والتـي سـأقـلـّـب أوراقـهـا الـخـضـراء تـحـت نـور الـشـمـس الـسـاطـعـة ، فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة ، والأخـيـرة .