23 ديسمبر، 2024 5:50 ص

أية صحافة عراقية نريد ؟

أية صحافة عراقية نريد ؟

الصحافة ، عالم زاخر بالانفعالات والاحداث ، عالم متدفق يسابقالزمن ، لعل وعسى يصل لما يريد ، والصحفي احد تروس هذا العالمالمجنون ، عليه ان يتحرك بآلية ويقظة ، وان يعطي ما يشبع مساحاتالورق النهم الاكول .

الصحافة ، قوة لا يستهان بها ، سواء كانت صحافة حرة لا تفرضعليها أية قيود او صحافة مكبلة تتحرك في اضيق الحدود .

والصحافة ، تستطيع ان ارادت ، ان تقيم الدنيا ولا تقعدها ، وفيقدرتها ان تحول اصغر حادث الى قضية عالمية او تحيل مشكلة دوليةالى هامش الاحداث . هذه القوة تحمل الصحافة اكبر مسؤولية واثقلعبء في اي مكان وفي كل وقت . كما انها في الوقت نفسه تكشفعورة صحافة السخف والتفاهة والمواقف المأجورة ، صحافة الاستهتاربالقارئ وذكائه ووعيه .

الصحافـة ، هـي ان تعيش الحدث ، وان تنسق نبضات عقل الصحفيالمهني على خفقاته ، وان ترضي القارئ بما يرتاح اليه ويصيب هوىفي نفسه من دون ان يكون ذلك على حساب الحقيقة والاخلاقية ، ذلكان الصحافة مهما تعاظم فيها وجه التكسب فهو لا يجوز ان يطغىعلى وجهها الرسولي المتجرد الرفيع .

والصحافة ، كلها طموح ومشقة ، بل انها لهاث مستمر في سبيل واقعاحسن ، وتخطيط ذكي لادراك الواقع دون ان نكون مسبوقين فيسعينا اليه . اي ان الصحافة تطالبنا ـــ مهنيون وقراء ـــ بألتزاماتكثيرة ادناه .. ان نكون كرماء واسخياء ، وان لا نقتر لأن التقتيرمرفوض في عالم الصحافة . فليس في الصحافة الا منطق واحد هومنطق حتمية التطوير الذي هو ضرورة من ضرورات المهنة .

وفي الصحافة ، مبدأ صارخ وفاعل ، لا رجعة الى الوراء ، بل ان هذاالمبدأ له كلمات ملزمة ونافذة وشائكة ربما ، الا انها تحتم علىممتهنيها نذوراً ومقدسات ، اقلها ان يكونوا صادقين ، وان يلتزموابمضامينها .

ومبدأ الصحافة الاوقع ، هو ، ان تكبر او تموت . فالصحافة التي لاتكبر هي في طريقها الى موت محتوم وأكيد ، نعيذ من تباشيره ، ثممن شروره

والصحافــة بــلا حرية ، تمــوت وتصــبح صحافــة منشــوراتوشعارات ومقالات رمادية .. لا تتقدم بالطبع ، تؤخر وتقتل الفكر وتخمدالتطلعات المستقبلية ولا تجد من يقرأها خارج دائرة الملتزمين والمنتفعين.

هذا التوجه لا يتبناه الصحافيون لحماية اقلامهم وللدفاع عن شرفمهنتهم فحسب بل لخدمة قرائهم وللقيام بواجباتهم وتحمل مسؤولياتهم، من اجل اعطاء القارئ صورة صحيحة لما يدور حوله ويوثر علىمقدراته ومستقبله ، حيث تصبح صحافة تحقيق وتدقيق وكشف عن كلما يؤذي الفرد ويسئ الى المجتمع ، مما تشعر قارئها ان صحافتهتحس بمشاكله وتعبر عنها وتتفاعل معها وتحاسب المسؤول عنها . ويدرك القارئ ان صحافته ملكاً له ولم تعد تملكها المؤسسة الرسمية ،فيقبل على شرائها وعلى قراءتها .

قسط من الحرية يحقق هذا ، وقسط اكبر يحقق اكثر ، فعندما تتنفسالصحافة يتنفس معها المجتمع وينتعش .

والصحافــة ، التي تركب الموجات ليست الصحافة المرتجاة ، لانها تغيربيرقاً مع كل هبة ريح لتزيد بيعها على حساب اتخاذ مواقف مؤيدةلظاهرة قامت او لمد ولد ، وكأنه النشوء الفطري .

في حياتنــا العراقيــة اليوم ، لا يمكــن الحديث عن الظواهر السلبيةدون الرجوع الى اسبابها ، ولا يمكن الحديث عن هذه الاسباب دونالرجوع الى ظواهر اخرى ترتبط من قريب او بعيد بهذه الاسباب ،ولكن المشكلة الاساسية اننا احياناً نقف امام ظاهرة غريبة ونحاول اننضخم فيها ، ربما يرجع ذلك الى رغبة في اخفاء ظواهر اخرى اشدخطورة او محاولة جذب انتباه الناس الى قضايا فرعية ربما تنسيهمالقضايا الجوهرية .

فهل نطلب المستحيل اذا نادينا بوطن حر خالٍ من السجون التعسفيةوالقهرية ؟ ان الفكرة تقع ضمن بند احلام اليقظة . فالعراق الآن حالةميؤوس منها ، فالتخلف يعم القمة اكثر مما يشمــل القاعــدة . فالشعــب المتخلــف لا يولّد الا قيادة متخلفة ، والقيادة المتخلفة تعمقهذا التخلف ، لانها لا تتصرف الا وفق مصلحتها . ومع ذلك ، فانالامل يراودنا ان ينهض المجتمع العراقي من كبوته ، وذلك ليسبالمستحيل ، فهذا المجتمع وريث حضارة عريقة وافراده طيعون للاوامر، واذا كانت التجارب السابقة قد اثبتت حسن النية لديه ، فان المستقبليبشر بالخير ، فما نحتاجه هو اندحار جيل من السياسيين التقليديينليولد جيل جديد واع ومخلص لمسؤولياته التاريخية .. بغية اجراءاتالتقدم والنهضة تحددها قوانين وقواعد ثابتة تساهم في تربية الحسالسياسي لدى افراد هذا المجتمع .

حلمنا بوطن ذو سيادة وبلا سجون قهرية ، سيتحقق بارادة الطليعةالمتنورة .. فهم الجيل الذي سيستلم المهمة اما اجلاً او عاجلاً . فوطنذو سيادة هو وسيلتنا للتخلص والى الابد من القهر السياسيوالتخلف الاجتماعي والاقتصادي .. فمتى زال هذا القهر والتخلفزالت بقية الاشكالات الاخرى وولدت الرغبة والفرصة لبناء وطن سليمومعافى له تطلعات اشمل واحلام اكبر .

ان من اهم ادوات تحقيق هذا الحلم ، وجود صحافة حرة واعلام بلاقيود . فهذه السلطة هي الموجه والرقيب والحسيب ، وهي المرشدالضروري لطليعة الوعي العراقي الشامل بل انها السلاح الفعاللخوض اي معركة من معارك العراق الحضارية .

ففي المنعطفات التاريخية من حياة الامم ، يبرز دور الصحافة كأداةلارساء سياسة وطنية ، وكوسيلة للتنوير ، وتوسيع الافق الذهني ،والرؤى الفكرية لدى المواطن ، مما يفضي الى اشاعة المعرفة وتنظيمالذاكرة الجماعية للمجتمع .

وحيث ان الصحافة بمفاهيمها العلمية مازالت حديثة على الفكروالممارسة العراقية ، فانها لابد في هذه المرحلة الحساسة ، وفي ظلظروفنا الصعبة ، ان يتم العمل الموصول والدؤوب على استيعاب هذاالضرب من ضروب المعرفة والانتفاع به .

فالمتتبع الآن لظروف عراقنا العزيز ، ولاسيما بعد 9 / نيسان / 2003 يلمس انها مازالت تشكل منعطفاً محفوفاً بالاخطار والمفاجآت التيتشكل تحدياً حقيقياً للصحافة العراقية في متابعتها لهذه الظروف ،على الرغم من انها اصبحت بعد هذا التاريخ ، جديدة وحرة !! وفيالوقت نفسه مثار تندر وسخرية الشارع العراقي . والسبب في ذلك ،تركيزها عل الطابع الاستهلاكي الدعائي الخطابي الضجيجي ، ممااوقعها في اخطاء كارثية سقطت فيها ومازالت : ترويج ضلالاتواكاذيب ، خلق افتراءات مذهبية ، تدجيل ، تزلف ، رياء ، سرقات ،ركاكة وسطحيــة التحليــلات والاراء والافكــار المنشــورة فيها .. ناهيكعن الانشائية البائسة التي تتميز بها ، وغيرها كثير .. مما افقدهامصداقيتها لدى المواطن العراقي .

الصحافــة العراقيــة اليوم مدانة من قبل الكبير والصغير ، المثقفوالمتعلم ، اشباه المثقفيــن واشــباه المتعلمين ، فهــذه الصحافــةعندهــم كمــا اسلفنــا صحافــة كــذب ، وخــداع وتضليل ، وتزييفللحقائق ، طائفية مذهبية مناطقية عشائرية ، غير موثوقة ، ولاموضوعية .. الى اخر الموبقات ..

فالصحافة ، يجب ان تلتزم بأخلاقية ، وبقارئ ، وبوطن .. تلك هيالثوابت والمقدسات .

اما التطبيل لكل من تهب رياحه ولو خلافاً لقناعاتها ، فذلك المسلكالجانح والجانب الرخو في مهنة خلقت لتكون الهداية والترشيد وقولةالحق . وعندما يعود الحق الى نصابه وتذوب الرغوة بعدما تنفجرفقاقيعها ، يتضح لمن ركب الموجة مدى خطئه وعمق توغله في المصانعةوالنفاق ، خصوصاً ان لا ذاك ولا تلك ، هما من عناصر مهنة الصحافةوتحديدها .

وامام هذه القضايا ، دارت نقاشات عديدة حول حدود حرية الصحافةالعراقية والتزامها المبدئي والمهني ، وموقف نقابة الصحفيين العراقيينالعتيدة بهامشيتها وتخلفها . فالحالة العراقية بمظهرها الخارجي الذييبرز في حرص اكثر الاطراف ـــ حزبية ومستقلة ـــ على عدم المساسبحرية الصحافة ، واحترام رأي الاغلبية في حدود مصلحة الوطنضمن المسالك الديمقراطية . وهذا الامر يتطلب من اطراف المعادلةالصحفية راهناً ومستقبلاً ( سلطة ، معارضة ، شعب ، صحافة ) ترسيم الاطر وتوضيح الثوابت للعملية الصحفية باشكالها المختلفة . ونحن لا نتجاوز الحقيقة اذا قلنا ، ان الرؤية لهذه العملية مازالتمختلفة اختلافاً بيناً بين اطراف المعادلة ، وان هذا الاختلاف مازاليشكل اهتزازات قد تتحول الى مؤثرات تنعكس على الصحافة ككل ،وتضعها تحت طائلة سلبيات يكون ضررها اكثر من نفعها .

وحتى نتجنب هذه السلبيات يجب ان تكون الطروحات التي نطلقهاكشعارات واضحة الدلالة ، محددة المعاني ، ناهيك عن وضع قاموسيشرح معاني دلالات المفاهيم التي تتضمنها طروحاتنا هذهفاينتبدأ الحرية واين تنتهي ، ومتى تكون مسؤولة ومتى تخرج عن حدودالمسؤولية . وكذلك الحال في المصلحة الوطنية والمصلحة القومية ، وقلمثل ذلك عن العادات والتقاليد والتراثولأننا تركنا الامر الى فهمالافراد فسوف تختلف بنا السبل ولا يمكننا ان نتفق على كليات نقفعندها اذ ان الامر في مثل هذه الطروحات مازالت نسبياً محكوماًبرؤية الافراد وثقافتهم والمؤثرات التي تحكم سلوكهم . فما اراه عاداتحميدة يجب احترامها وصونها يرى غيري انها رجعية ومتخلفة ، يجبان نتجاوزها . هذه التناقضات تحكم مواقف العديد من مثقفيناوتنعكس بالتالي على وسائل الاعلام المختلفة .

والحالة التي بدأت فيها المرحلة السياسية بعد 9 / نيسان ، تحتاجصحافة متميزة قادرة على الالمام بالاسباب التي اوصلتنا الى ما كنافيه ومازلنا حتى نتجاوز اخطار المرحلة الراهنة والقادمة ، ونقوى علىالخروج من المطبات والحفر التي وضعت في طريقنا باقل التكاليف ،لنصل الى المسار القادر على تغيير الدماء التي افسدتها المضخاتالملوثة ، التي كانت تصب في عروقنا ، واوصلتنا الى مرحلة عدمالتمييز بين الضار والنافع .

فالصحافة المتميزة الجديدة تحتاج اعادة نظر حقيقية في نصوصهاوتقديمها وادوات اخراجها المختلفة ، حتى تتجاوز صحافة الفرد / القبيلة الى صحافة الوطن / نبض الشعب ، صحافة رسالة قادرة علىالرؤية التاريخية ومتمكنة من استعمال وسائلهما في طروحاتهاالمختلفة للاحداث وهي تفرق بين الموقف السياسي المتأثر بالاحداثالتي تفرض المواقف وبين الموقف الرسالي القادر على معالجة الحدثالذي تصنعه الظروف بحيث يبدو الضعف امراً عارضاً ممكن زواله ــــحتمية تاريخية يؤكدها الحس الرسالي الذي يحكم حركة التاريخ لهذاالوطن والشعب ـــ وتنيط مسؤولية المواقف التي افرزت هذا الضعفعلى المرحلة بعناصرها المختلفة ، كما تفرض مسؤولية النهوض منالكبوة على الامة العربية كلها لا الشعب العراقي وحده . واذا فعلنا ذلكنكون قد اعطينا القرار السياسي فرصة قد يستطيع بها الوعي التغلبعلى واقعه ومكناه من القدرة على تحريك قدميه الى الامام وليس الىالخلف ، كما هو الحال مع الممارسات السياسية التي انتهتبالمجتمعات العربية بكاملها الى ما هي عليه الان ، لا اخص مجتمعاًولا استثني احداً .

وقد يتطلب الامر لتحقيق حالة جديدة تتوافر لها اسباب النجاح ، اعادةالنظر في بعض المواقع التي اثبتت عجزها وعدم قدرتها على التكيفمع الواقع الجديد ، واستمسكت بالماضي استمساك الكافر بوثنه ،ليس ايماناً منه بهذا الوثن ولكن ظناً منه ان الواقع الجديد يشكلخطراً على مكتسباته التي حققها له واقع الجاهلية الذي اوصل المرحلةالى ما هي عليه الآن .

ولعل الظروف التي عانت منها الصحافة العراقية قبل 9 / نيسان ،بسبب بعض الاجتهادات التي لم تكن بعيدة عن النظرة الفردية للأمور، ولم تكن بريئة باجراءاتهاتعتبر سبباً مهماً يجب ان لا يغفل فيعملية التقويم ، كما ان اسلوب التعامل الرسمي وقتئذ ، مسؤول عناستمرار هذا الواقع الذي مازال عاجزاً عن افراز قدرات جديدة يمكنان تطور العملية الصحفية .

انني ومن خلال تجربتي المهنية في الصحافة التي مازالت مستمرة ،اعرف من سلبياتها اضعاف مايعرف به غيري بشكل او بآخروعليهفانني هنا لا يمكن ان اناقش قضية الصحافة العراقية الآن بعيداً عنقضايا اخرى تؤثر فيها وتتأثر بها . واذا اردت ان اضع بعضالملاحظات حول سلبياتها ، فيمكن ان ارصدها في الآتي :

كان هناك فهم خاطئ لمعنى حرية الصحافة ، وكان هناك اعتقاد بأنذلك يرجع الى عقود من الكبت الفكري والسياسي تعرض لها اصحابالاقلام . ولكن هذا الفهم الخاطئ تجاوز كل الحدود ، وقد اتضح ذلكفي صراعات كثيرة حركتها المصالح ولم تحركها الغايات النبيلة ،وانقسم فرسان الامية الصحفية اصحاب الصحف الى فرق واحزاب ،وكانت الصحافة الجديدة الحرة هي الضحية في ذلك كله .

ان من يراجع ما كتب في الصحافة العراقية منذ التاسع من نيسانوحتى الآن يكتشف الى اي مدى كانت خسائرها ، لانها تركت القضاياالحقيقية وركزت كل جهودها في صراعات مصلحية اسنتفذت كلطاقاتها .

وللأسف الشديد ، ان هناك قضايا كثيرة ظلت معلقة امام تركيز هذهالصحافة على قضايا شكلية تافهة . وكان من المفروض ان تسعىصحافتنا الجديدة الحرة الى تأكيد القيمة الحقيقية لحرية الصحافةعلى المستوى السياسي والفكري ، لانهما يمثلان القاعدة الاساسيةلدور الصحافة ومسؤولياتها ، ولكن صحافة الابتذال والسطحية كانتهي الاعلى صوتاً للأسف .

ان صحافتنا الجديدة الحرة تعاني اليوم ضغوطاً كثيرة تتعرض لها منجانب بعض الاحزاب والشخصيات النافذة المدعومة من قبل ( … ) هذه الضغوط تبدأ بتحميل الصحافة كل الاخطاء وتنتهي بمحاولةشراء بعض الاقلام ، حيث ان كل مسؤول او رئيس حزب الآن يسعىالى استقطاب اقلام تحمل له المباخر فتبرر الاخطاء وتكتب مقالاتالمديح والتبرير ، بل انها تصل احياناً الى مناطق الذمة . وبامكان المرءببساطة ان يحدد لون كثير من الاقلام والاهواء التي تحركها ،والمصالح التي تقف وراءها . وهذا يعني ان هؤلاء المتنفذين سعوا بكلالوسائل الى افساد المهنة ، ابتداءاً بشراء بعض الاقلام وانتهاءاًباصدار الصحف او مساندة بعضها . ولقد كان البعض يقف وراء هذهالصحف لتصفية حسابات او القصاص من معارضين او منافسينلخلاف في الرأي او المصالح .

الخلط الواضح بين الصحافة والاعلان ، ولاشك ان الفصل بينهماضروري ، لان الكتابة شيء والاعلان شيء آخر ، واذا كان الاعلانيمثل وجهة نظر المعلن ، فان الكتابة امانة ومسؤولية وموقف . وعندماتصبح الكتابة اعلاناً او يصبح الاعلان رأياً ، فهنا تتداخل الاشياءوتفقد الصحافة اهم مقوماتها ، وهي الامانة والموضوعية والمصداقية . ان الاعلان يمثل خط فاصل بين عمل الصحفي وعمل مندوب الاعلانات، بمعنى اخر ، بين مصادر تمويل الصحف ومسؤوليات العملالصحفي .

في هذا الركام الورقي ، ظهر جيل جديد في صحافتنا الحرة لم يدركبوعي رسالة هذه المهنة النبيلة واستخدم قدراته ومواهبه الوصوليةوسط هذا المناخ الصحفي السيء . وهذا الجيل لم يجد من يوفر لهمقومات العمل الصحفي بفكره ومسؤولياته وقدراته ، ولذلك ضاع وسطمهاترات حزبية او شكلية استنفدت قدراته . وللاسف الشديد انالجانب المادي بحكم ضروراته واغراءاته فرض نفسه فرضاً على هذاالجيل وسط ظروف حياتية وانسانية صعبة .

هذه بعــض هموم صحافتنــا الجديدة الحــرة ولا يمكن ان نلقــيمسؤولياتهـــــا كما يدعي البعض على نقابة الصحفيين ، لأنها ( لاتحل ولا تربط ) . ولأن معظم هذه المشاكل جاء من الطارئين على العملالصحفي وليس من داخله . كما ان هناك جانب آخر يقف وراء همومالصحافة وسلبياتها هو قضية العلاقة بين الصحافة والسلطةوالصحافة والمعارضة والصحافة ورأس المال .

في تقديري ، ان الصحافة تمثل اهمية خاصة لدى السلطة الواعية ،انها تكشف الطريق وتحدد مناطق الخطر وتستطيع بحياد وامانة انتكون الصوت العاقل بجوار كل مسؤول امين . وحينما تتجرد صاحبةالجلالة من لعنة الاغراض والمصالح ، فانها قادرة على ان تكون سنداًحقيقياً لكل مسؤول في موقعه .

كما ان مصلحة الوطن لا تكون بوقوف الصحافة الى جانب اطرافالمعارضة الى درجة غض الطرف عن السلوكيات السلبية او الاخطاء اوالعجز في الكثير من الحالات التي لا تعدو ان تكون شكلاً كرتونياًيخلو من اي مضمون قد ينتهي بالمعارضة الى ان تكون مجرد عثرةفي طريق السلطة ـــ أية سلطة راهناً ومستقبلاً ـــ وليس عوناً لها علىمواصلة المسيرة في تحذيرها من عثرات الطريق وسلبياتها ، وليس منمصلحة العراق كذلك في ان تقف الصحافة الى جانب السلطة تدافععن سلوكياتها وتبرر اخطاءها وتضخم انجازاتها بل ان خير الوطنيكون في الموقف المتوازن من المعارضة والسلطة بحيث تكون عوناًلكليهما فتكشف الخطأ حيثما يكون وتنوه بالايجابيات من أية جهةكانت ، وعندما تصل الى هذه المرحلة تكون بحق السلطة الرابعة التييحترمها المواطن وتحفل بها السلطة والمعارضة على السواء . وحتىتصل ـــ اي الصحافة ـــ الى هذه المرحلة فان السلطة والمعارضةتحتاج مستوى متقدماً من العدالة يعتبر مصلحة الوطن هي الراجحةويكون الاحترام متناسباً تناسباً طردياً مع هذه المصلحة .

ان النقد الموضوعي رسالة ، وكلمة الحق امانة ، والرأي الجريءمسؤولية ، ولكن كثيراً من المسؤولين عندنا لا يريدون صحافة او رأي اوكلمة صادقة ، انهم يريدون فقط فريقاً من حملة المباخر . ومن هنايكون الصدام احياناً بين الصحافة الملتزمة والسلطة .

في بعض الأحيان يكون المسؤول على درجة من الوعي بحيث يستفيدمن كل ما تكتبه الصحافة حتى لو كان نقداً . ومادام النقد بعيداً عنالاغراض والشوائب فان الأمانة تقضي من المسؤول ان يسمع لهذاالنقد ويعمل له الف حساب .

وامام بقاء المسؤولين فترات طويلة في مواقعهم وامام احساسهم بانهماصبحوا دون غيرهم قادرين بحكم الخبرة على فهم كل شيء ، وادراككل شيء ، فان موقفهم من النقد حتى ولو كان موضوعياً يصبح صعباً. من هنا كان رفض المسؤولين لمبدأ النقد ، وهنا ايضا سعى بعضهمالى تجاوز منطقة الرفض لقضايا النقد الى محاولة السعي لاستقطاباقلام ترد لا تحاور .

ثم جاءت خطوة اخرى هي محاولة اصدار صحف بصورة مباشرة اومساندتها بصورة غير مباشرة لكي تتبنى قضايا هذا المسؤول وتدافععن انجازاته ، وكان الأخطر من ذلك كله ان تصل عملية الاستقطابالى تصفية الحسابات بين المسؤولين انفسهم من خلال الصحافة ،وهذه كانت اخطر مناطق الانفلات في مسيرة الصحافة العراقيةالجديدة الحرة .

هناك عشرات الصحف التي صدرت وخلفها اسماء غريبة لا يعرفهااحد ، رغم اننا جميعاً نعلم الاعباء المالية التي يتطلبها اصدار صحيفة، ونرى اشخاصاً لا تاريخ لهم في العمل الصحفي يصدرون صحفاًومجلات ولا احد يعلم من اين جاءوا بهذه الاموال وما هي الجهاتالتي تقف وراءهم ؟ ووجدنا اقلاماً تدافع عن كل شيء وأي شيءهذه الاقلام الفجة اساءت للصحافة العراقية وبدا احياناً ان السلطةممثلة ببعض منتسبيها تحميها رغم فجاجتها ، وكانت النتيجة خسارةمشتركة للصحافة والسلطة في وقت واحد .

ان مثل هذه الاقلام اللقيطة التي تبدو احياناً وكأنها تتحدث باسمالسلطة ، تمثل عبئاً ثقيلاً على الجميع خاصة ان القارئ العراقي لديهمن الوعي ما يجعله يدرك الفرق بين اقلام تدافع عن وطن واخرىتبحث عن مكاسب وصفقات ومصالح .

في هذه الثنائية ، السلطة والصحافة ، يطل جانب آخر على درجةكبيرة من الاهمية ظهر لاحقاً واصبح يمثل عبئاً على دور الصحافة ،وهو رأس المال . لابد ان نعترف ان دور رأس المال تضخم بشدةواصبح يمارس ضغوطا شديدة على الصحافة لا تقل في خطورتها عنضغوط السلطة ، وفي ظل علاقة لا يعرف احد مداها بين السلطةورأس المال ، دخلت الصحافة طرفاً ثالثاً في هذه اللعبة . وهنا كانالتمويل الغامض لبعض الصحف ، وكان الاستقطاب الواضح لصحفاخرى تعمل لحساب رجال الاعمال والسلطة . وكما حاول بعضالمسؤولين والمتنفذين في وزارات الدولة استخدام الصحافة كوسيلةلتصفية الحساب بينهم ، حاول بعض رجال الاعمال ايضا استخدامنفس الاسلوب لتصفية بعضهم بعضا من خلال الصحافة .

ودخلت الصحافة بعد ذلك في علاقات اخرى مع رأس المال من خلالالاعلانات في البداية ثم التمويل الكامل في آخر المطاف . ولانالصحافة هي الحارس الحقيقي لمصالح المجتمع كان ينبغي ان تظلبعيدة عن مرمى نيران السلطة ورأس المال ، ولكنها للأسف الشديددخلت السجال وأصبحت طرفاً فيه .

وهنا نقول ، انه اصبح من الضروري كشف ابعاد العلاقة بين السلطةوالصحافة ورأس المال ليس لكشف الخبايا ولكن لتوضيح المواقف ،وفي تقديري ان هناك خلافاً جوهرياً بين هذا الثالوث ، ان السلطةعندنا تتحمل مسؤولية العمل التنفيذي ، والصحافة سلطة رقابيةتكتسب شرعيتها من مصداقيتها ، ورأس المال اخطبوط له مصالحهوحساباته ، ولهذا ينبغي ان تحسب السلطة وصايتها التي تمارسهابطريق غير مباشر حتى ولو كان ادبياً على الصحف . ويجب ايضاً اننكشف هذا الزواج العرفي بين الصحافة ورأس المال لانه زواج باطل .

وفي تقديري ، ان الحل ممكن ، يجب ان نضع مع الضوابط ما يجعلناقادرين على كشف مصادر تمويل الصحف . وهنا يأتي دور نقابةالصحفيين لأن اي تلوث يمس صاحبة الجلالة العراقية يسيء لمجموعالصحفيين في نهاية المطاف . ولا ادري كيف ستستطيع نقابةالصحفيين ان تسد هذه الثغرات ، وهل في قانون النقابة ما يكفي اميحتاج الى اجراءات وربما تشريعات اخرى لمواجهة ذلك ؟

يدخل في هذا النطاق ايضاً تلك الصحف التي تدخل العراق من دونحسيب او رقيب ، فانه ينبغي ان يكون لنقابة الصحفيين موقف في ذلكلانه لا يعقل ان تحاسب النقابة على اخطاء صحف لم تشارك حتىبالمشورة في اصدارها ، كما ان نقابة الصحافيين يجب ان يكون لهادور اساسي في ترخيص اصدار الصحف .

ونستطيع ان نعتبر الاعلام الغربي في هذه القضية نموذجاً ، فهو رغمما يتمتع به من حرية تنعكس على ادائه الذي يستبيح الكثير منالحريات الا انه عند مصلحة الوطن والشعب يرتد الى اضيق الدوائرويستبيح كل المحرمات لصالحهما ، يتخلى عن حريته ويلجأ الىالكذب ويمارس كل الموبقات ولا يتهاون بأي سلوك مهما كان هيناً انشعر بأن في ذلك اساءة لهما . وهذا لا يعني ان يغض الطرف عناخطاء صانعي القرار او الممارسات التي قد تطول مصلحة الوطنوالشعب ولكنه في معالجته لمثل هذه الامور لا يخرج عن الاطار الذييحقق المصلحة العامة لكليهما . والذين يقولون ان الاعلام الغربي غيرملتزم فهم غير قادرين على فهمه بل عاجــزون عن ادراك ابعاد الدائرةالتي يتحرك بها ، والامر لا يحتاج الى امثلة لاثبات هذه الحقيقة . فامامنا حالات كثيرة يظهر فيها الاعلام الغربي منحازاً الى درجةالعمى عندما تكون له مصلحة او هوى تجاه موقف من المواقف فيقضية من قضاياه المصيرية بغض النظر عما يترتب على هذا الموقفمن ردود افعال متقاطعة ….

ورغم معرفتنا لهذه الحقائق فاننا مازلنا نقف من آليات عمل هذاالاعلام موقف المتدرب ولا نحسن قراءته لمعرفة الجوانب السلبيةوالايجابية منه بينما المفروض حتى نستفيد من آليات عمله يكون تلقيناله تلقي الواعي فيأخذ المفيد منه ويتجنب الضرر . واننا كذلك لانستطيع ان نتخلى عنه بل على العكس من ذلك يجب ان نستفيد قدرما نستطيع من التقنية التي وصل اليها والاساليب التي يتعامل بها معجمهوره ، كما يجب ان يدرك اصحاب القرار عندنا ان المرحلة التيوصل اليها هذا الاعلام تقنية واسلوباً هي من الروافد الاساسية التياسهمت اسهاماً مباشراً في تطوير مؤسسة الحكم الغربي بكل ماتمتلك من وسائل القوة والتأثير وان مصلحة الوطن والسلطة علىالسواء ان تتجاوز اعلام القبيلة الى اعلام الرسالة والذي يمثل الاعلامالغربي نموذجاً من نماذجه .

ان أية مقارنة بين واقعنا الاعلامي وواقع الاعلام في الدول المتقدمةتردنا على اعقابنا لاختلاف الظروف والاسباب التي جعلت الفرق بينالحالين في هذا التشوه الظاهر في جسم الاعلام العراقي بدوائرهالمختلفة ، وان التشوه انتقل الى عيوننا واسماعنا فيما نسمع او نرىبحيث لم نميز بين الصورة الجميلة والصورة الرديئة ولا ندرك الخلل فيذبذبات الصوت الكاذب ولا نتذوق طعم الجمال في الصوت الاصيل .

ان الصحافة غير المتوازنة والتي يعتريها الارتباك والاختلال لابد وانيكون لها انعكاساتها السلبية على مقومات المجتمع ونسيج خلاياه . فأدوات الصحافة هي ادوات ثقافية تساعد على دعم المواقف او التأثيرفيها وعلى توحيد مناهج السلوك وتحقيق التكامل الاجتماعي ، وهوالمحرك والمعبر عن حاجات المواطن وطموحاته وآماله ، وهو المنهل الذييستقي منه المواطن الاراء والافكار ، كما انه الرابط بين الافرادوالموحي لهم بشعور الانتساب الى مجتمع واحد ، ناهيك عن انهالوسيلة لتحول الافكار الى اعمال والاحاسيس والماهيات الى واقععملي حي .

كما ان الصحافة لا يمكن ان تزدهر وتثري المجتمع مالم يتم تعزيزالعلاقة الجدلية الحميمة بينها وبين المواطن ، وذلك بتوفير الظروفالمواتية لتدفق المعلومات بموضوعية وتجرد تحت مظلة الديمقراطية التيتكفل للمواطن حق الكلمة المسؤولة النابعة من القيمة الرفيعة للعقلالبشري والمترفعة عن الانحياز والانفعال او التشنج او التوجه العدواني.

وحيث ان الصحافة في الاصل هي حاجة وليست سلعة ، فانه لابد منالاعتراف بان الصحافة عندنا مازالت قاصرة على النفاد الى رحمالمجتمع بمناحيه المختلفة ، والمأمول منها التطلع الى التعامل مع عقولالناس ووجدانهم بما يمكن ان ترقى بهم نحو القيم العليا والطموحاتالنبيلة والاهتمام بصقل مشاعرهم واحاسيسهم واستفزاز طاقاتالمواطن الابداعية والخلاقة .

وفي الوقت الذي يتوجب فيه الاقدام على الصحافة ان تفسح المجالللتلاقح المعرفي في المجالات المختلفة ، فان الصحافة ايضا مخولةبحماية الهوية الثقافية الوطنية واحباط أية محاولة داخلية او خارجيةلفرض قيم مستوردة ناشزة وغريبة وضارة بالصالح العام ومستقبلالمجتمع .

ان المسؤولية الاولى في عملية التقويم تقع على كاهل الصحافةالعراقية وصحافيينا ، فمن جهة الصحفيين يجب ان يبدأوا المبادرةالجادة وعلى الصحف اليوم ان تتحمل مسؤولية هذه المبادرة والتمكينلها ويجب ان لا تقع ضحية الخوف او الوهم من السلطة ـــ أية سلطةـــ لان هذه السلطة ان احسن التعامل معها لديها الاستعداد للتجاوب، فكيف اذا جاء قرار الديمقراطية والتغيير منها ؟!

ان العديد من القضايا التي تطرح عبر الكتابات الصحفية التي تنشرفي صحفنا ، تصيبنا بالدهشة والاستغراب والمرارة لهذا الواقع الاليمالذي وصلنا اليه . فالمعلومات وتحليلها مبتورة ، والحقائق ناقصة ،والاحداث مشوهة ، والمصادر معادية بما يثير الشبهات حول الاهدافالمتوخاة مما يبث الرعب والقلق والخوف على مستقبل هذا الوطن وهذاالشعب .

ولما كان الكاتب الصحفي والمحلل والباحث هم اساس العمليةالصحفية ، وهم القادة والعاملون على تكوين الرأي العام وتوجيهالمجتمع من خلاله ، فان موقعهم الهام ينبع من اهمية المهمة الوطنيةالملقاة على عاتقهم وعظم المسؤولية التي يتحملونها في مجتمعهم ،ارادوا ذلك ام لا . فهم من هذا المنطق في دائرة الضوء ، وكلامهمالمسموع والمقروء امانة ، وآراؤهم وتحليلاتهم ترصد ويتم التفاعل معاً ،سلباً او ايجاباً ، والناس المستهلكون لبضاعتهم ـــ ان جاز التعبير ـــاذكياء بحس وطني مرهف رغم بساطتهم وطيبتهم التي تصل الىدرجة السذاجة العفوية في بعض الاحيان . من هنا ، فلا مجالللخداع ولي رقبة الحقائق والتناقض والتحايل على الناس في عقلهمووعيهم ، بل والاهم ، ان هذا ليس من شيمنا واخلاقنا ، ويتناقضتماماً مع مصالح الوطن والشعب .

ولما كان الكاتب الصحفي والمحلل والباحث هم اساس العمليةالصحفية ،وهم القادة والعاملون على تكوين الرأي العام وتوجيهالمجتمع من خلاله ،فأن موقعهم الهام ينبع من اهمية المهمة الوطنيةالملقاة على عاتقهم وعظم المسؤولية التي يتحملونها في مجتمعهم ،ارادوا ذلك ام لا .فهم من هذا المنطلق في دائرة الضؤ ، وكلامهمالمسموع والمقروء امانة .واراؤهم وتحليلاتهم ترصد ويتم التفاعل معها ،سلبا او ايجابا ، والناس المستهلكون لبضاعتهمان جاز التعبيراذكياء بحس وطني مرهف رغم بساطتهم وطيبتهم التي تصل الىدرجة السذاجة العفوية في بعض الاحيان . من هنا ، فلامجال للخداعولي رقبة الحقائق والتناقض والتحايل على الناس في عقلهم ووعيهم ،بل والاهم ،ان هذا ليس من شيمنا واخلاقنا ، ويتناقض تماما معمصالح الوطن والشعب .

وعليه ، فان الكاتب مطالب بالانسجام مع نفسه خلال عرضه او تحليلهلقضية عامة تهم الشعب والوطن ، فلا مجال للتناقض والتشويش ،فالقارئ في بلادنا وهو يعيش حياة مليئة بالمفاجآت والتناقضاتوالاحباط ، بحاجة الى من يساعده بأمانة على تحسس موقعه واداءدوره الطبيعي المشروع في صنع القرار وبلورة الرأي حول ما يجريحوله وتحمل المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقه ضمن محيطهالاجتماعي الواسع الذي ينتمي اليه ويعيش آلامه وآماله ….

كما انه من الطبيعي جداً ان تختلف الاجتهادات وتتعدد الآراء والرؤىحول الامور والقضايا العادية المطروحة ، فكيف اذا كانت هذه القضاياالعراقية الراهنة وبمجموعة الحلول المقترحة الآن بخصوصها ،والاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي تعيشها بلادنا ،والتي يرتبط بها مستقبل اجيالنا القادمة بابعادها المختلفة وما يرافقذلك من ضغوط واشكالات ، مسؤولة عن تبديدها .

لكن الاهم ان نمارس العملية الديمقراطية في تعاملنا مع هذاالاختلاف في الاجتهاد وتعدد الآراء من منطلق ان لا احد يملكالحقيقة المطلقة ، والحقيقة تولد من خلال الحوار واختلاف الآراء وتلاقحالأفكار وتداخلها وتمازجها وصولاً الى القواسم المشتركة التي تصبفي مصلحة الوطن والشعب ، وتقلل ما امكن من الخسائر والاضرار .

وفي هذا الاطار ، فان مسؤولية الكاتب / الصحفي ، ان يساعدالمواطن / القارئ على التفكير والتحليل واتخاذ القرار المستقل دوناملاء او ايحاء ، والذي ينسجم مع ضميره وحسه الوطني ومصلحةشعبه من خلال كشف الحقائق حول الموضوع المثار ، كونه اكثرإطلاعاً وإلماماً بالمعلومات وتفاصيلها من الانسان العادي الذي يعيشوللأسف في حالة قلق وتناقض وتوتر ، بسبب جهله بحقائق ما يجري . فمن المسؤول عن هذا التعتيم ، بل والتضليل في بعض الاحيان ؟ الايتحمل الكتّاب والمحللون السياسيون مسؤولية هذا الواقع الشاذ ؟

لقد سئم العراقي تقلبات العديد من الكتّاب وتناقضاتهم وهلاميتهموانتقالهم المشين من حضن الى حضن ومن معسكر الى نقيضه كونذلك يمثل احتقاراً لعقله وذاكرته ، وضحكاً عليه وخداعاً له وانتقاصاًمن كرامته وانسانيته . واذا ما استمر الوضع على ما هو عليه فان هذاالمواطن سيفقد ثقته بكتّابه وصحافته ليبقى فريسة للاشاعات والدعايةالمعادية . وما يرافق ذلك من انفعالات وتحركات عشوائية مدمرة او يأسواستسلام وتبعية .

ان صحافتنا باشكالها المختلفة والكتّاب جزء منها ، مطالبون باعادةرسم السياسات والاستراتيجيات الصحفية وما ينسجم معها منممارسات عملية ليس لجيلنا فحسب بل وتحضير الاجيال القادمة بمايكفل تفجير طاقاتها الكامنة وانعتاق وتحرير افكارها وتوفير المناخالمناسب لعملية ابداعها خدمة لاهدافها النبيلة في بناء صرح التقدموالتطور الحضاري جنباً الى جنب مع الشعوب والامم المتقدمة . كلذلك ضمن اجواء من الحرية والديمقراطية المسؤولة واحترام الفكرواختلاف الرأي وتقديس انسانية وكرامة الانسان بعيداً عن الوصاياوالارهاب الفكري ، وهذا بطبيعة الحال ينسجم مع ديننا وتاريخناوقيمنا التي تركت بصماتها على التطور الحضاري والانساني .

كما ان في حالة صدق نية تطبيق الديمقراطية عندنا اصولياً ستشكلوعيا حقيقياً لتطور مفهوم الحكم وتعطي بالنتيجة فرصة ثمينة لمنابرالتعبير المختلفة لكي تتطور هي الاخرى كذلك وتحسن التعامل معالمستجدات والافادة منها . وهي ان لم تحسن التعامل معها وبقيتضحية تخلفها لن تقوى على علاج حالة المرض غير الطبيعي والتيتبدو للبعض على خلاف الحقيقة مما قد يسبب نكسة تخيب الاملبعودتها الى الوراء وما يترتب على هذه العودة من امراض لا يعلم الاالله عواقبها الوخيمة .

ان الواقع الجديد يفرض مسؤوليات كثيرة على المؤسسات الصحفيةوعلى الصحفيين كما ان هذه المسؤوليات تتجاوز الثلاثية الاعلامية ـــالمسموعة والمرئية والمقروءة ـــ الى مؤسسات الدولة المختلفة والقوىالبشرية المؤثرة بها لانها الميدان الطبيعي للممارسة الاعلامية باشكالهاالمختلفة .

واول المبادرات يجب ان تبدأ في نقابة الصحفيين ، فقد آن الاوان لكيتتجاوز الحركة الروتينية التي حكمت حركتها منذ زمن طويل وجاءالوقت الذي يجب ان ترسي فيه قواعد العمل النقابي المبدئي الصحيحفتخرج من الاطر القديمة وتحدد معالم مهمتها والطرق التي تحول هذهالمهام الى واقع وممارسة ينعكسان على الواقع الصحفي بادواتهالمختلفة بقيم متفق عليها تحكم المؤسسة والصحفي على حد سواء . اما ان تبقى اوساط النقابة راكدة لا يشعر احد بوجودها الا في فترةالانتخابات وتجديد الهويات فهذا امر اصبح غير قادر على الاستمرار، كما يجب ان يتجاوز فهم المؤسسة الصحفية حدود الخدماتوالتنافس المحكوم الى حد كبير بالمردود المادي الى الدور الوطني الذيتمارسه صحافة العالم المتقدم من خلال ريادتها لعملية التطور فيالنقد والتقويم والتنويه على السواء وان تكون في موقعها اقوى منالتأثيرات ووسائل الضغط التي قد تتعرض لها . كذلك فان مهماتها ـــاي النقابة ـــ ايضاً في القادم رفد المؤسسات الاعلامية المختلفةبالرؤية الوطنية والقومية وحراستها والحفاظ عليها من خلال الوسائلالديمقراطية التي وصل اليها العالم المتقدم .

والامر في ذلك كله يحتاج من الجميع ادراكاً حقيقياً للدور التاريخيالمنوط بهم في هذا المنعطف الذي هو بحق اخطر منعطف وضع فيهالعراق على امتداد تاريخه على كثرة المنعطفات التي تعرض لها .

ان ما حدث بعد 9 / نيسان لصحافتنا ينبغي الا تجعل منه مذبحةللصحافة كلها ، واذا كان البعض قد اخطأ في ممارسة الحرية فلايعني ذلك ان نغلق ابوابها ، فاذا كان للحرية سلبيات وايجابيات فيجبان نحاسب من أخطأ في ممارسة هذا الحق وان نشجع بكل الوسائلمن يمارس هذا الحق بمسؤولية وأمانة ضمير .

ان حرية الصحافة من مفاخر العراق الآن مهما كانت مساحةالتجاوزات ويجب ان يكون علاج سلبيات حرية الصحافة بمزيد منالحريات وليس اي اجراء آخر . ولكن الذي اريد ان انوه اليه في خاتمةدراستي هو ان نجاح الانسان ليس بالمناصب التي يصل اليها ولكنبالانجاز الذي يحققه لوطنه ومجتمعه من خلال موقعه وهو يعلم انالأعلام من اخطر الوسائل في قوة التأثير سلباً وايجاباً وان شعبناالعراقي يعيش الآن معركة ضروساً مع خصوم كثر استطاع هؤلاء انيجعلوا الاعلام وسيلة الهجوم التي سخروا فيها كل الاسلحة الفتاكةليبقوا في حالة التخلف والردة التي اوصلتنا الى ما نحن فيه ،وتحرص على ان لا نتجاوزها علماً ان مخزون شعبنا وقدراته الماديةوالبشرية المختلفة قادرة على توقف حالة الانهيار الموروثة من الانظمةالسياسية السابقة ان توفرت القدرة والخطة والنصرة ، ونحن معشرالصحافة العراقية قادرين ايضاً على وضع بدايات العمل الرائد علىالامتداد والانتشار ولن نعدم الرجال المقتدرين الذين يقفون الى جانبنايمدوننا بالرأي والمشورة والخبرة كما لن نعدم النصرة التي تحول الفكرالى واقع اذا تهيأت له اسباب الحياة .

ان العراق كله بسلطاته الراهنة والمستقبلية وبمواطنيه في هذه الظروفالعصيبة يتطلعون جميعا الى نموذج اعلامي يعي الواقع ويحسنالتعامل مع الاحداث ويسخر كل الاسباب في عملية الحشد في وجهالتحديات الجديدة القادمة .

ان الاعلامي الناجح هو الذي يوجه العقول ويكيف اتجاهاتها الفكريةوالسياسية في عملية البناء الجديد ، يرفض الافراط في تناول الامورتناولاً غير طبيعي ولو كان مدحاً لان الافراط في المدح قد يخرجه عنمضمونه وقد يكون تغطية لضعف او استجلاباً لمنفعة غير مشروعة .

ان الخطاب الاعلامي العراقي يجب ان يميز عن غيره في المنطقة لانطبيعة العراق ودوره التاريخي يفرضان عليه هذا التميز وتخرجه مندائرة اعلام الفرد والقبيلة ليدخل الى قلب المعركة ويحمل همومالجماهير ، فلم يعد الامر ينفع معه تستر او سكوت لان اجهزة اعلامنافي النظام السابق قد اصابها الكثير من الخلل ( قسراً ) فانفصلتعن جماهيرها ولن تعود الى وضعها الطبيعي وفاعليتها المؤثرة الا اذاعادت الى الجماهير بمشاركتها في قناعاتها وتحمل همومها وهيتحتاج جهداً كبيراً حتى تعود الى جماهيرها .

ان الحــديث عــن الاعــلام العراقي بمؤسســاته المختلفــة التي لاتقــف عند الصحافــة والاذاعــة والفضائية بل تتجاوزها الى السينماوالمسرح ووسائل التعبير المختلفة …. كلها لم تنج من ضربة الشمسالتي اثرت على ادائها بشكل او بآخر وان هذا التأثير قد اصابهابنقص امتد الى رسالتها .

انني ارجو زملاء المهنة ان تمتد ايديهم الى كل مجالات الاعلام مرةواحدة فترد لها اعتبارها . لان الامر هذه المرة جد ، وان المسؤولية كبيرةولكن الامل بالله اكبر ان يمكننا من ان نحقق طموح الوطن في اعلامقادر على ان يكون في مستوى المرحلة .

انها دعوة متواضعة بوقفة صادقة مع الذات ومراجعة امينة لواقعنا المرلمواكبة الركب الحضاري الذي لا مكان فيه للجهلة والمتخلفين والضعفاءوالسفهاء …. فهل نعي هذا التحدي المعرفي / الحضاري الحاصلالآن ؟ وهل ستتحمل صحافتنا مسؤولياتها بامانة واقتدار ؟

انها اسئلة بحاجة الى اجابات تترجم في الواقع العلمي ابداعاًوانعتاقاً للفكر وتفجيراً لطاقات العقل ، وامكانات المجتمع ، وتحريراًللرأي ، واحتراماً لكرامة العراقي وانسانيته وحقه المشروع في المشاركةالسياسية وصياغة واقعه ومستقبله .

ان الرؤى الاستشرافيــة للمستقبــل تؤكــد انه يقــع على كاهــلصحافتنا مهمات جسيمة وصعبة ، عليها ان تتحمل مهماتها تلكبمسؤولية واقتدار والتزام . فأهم ما في الصحافة ، استشفاف رغباتالناس وفضولهم واستجابة الحاحاتها وفهمهــا ونواهيها . اما ان يكتبالصحفي مايريده هو من دون ان يرجع الى قرائه ومن دون ان يجريدراسة لواقع القراء ، ورصداً لاصدائهم ووشوشاتهم الخافتة التييمكن ان تنتقل من الهمسة الى الغمغمة ، الى الجهارة الى نقدالمسكوت عنه .. يمكن ان يؤدي في النهاية الى الاعراض عن المطبوعةواهمالها ، فهذا منتهى الخطأ بل الغرور الذي ينشئ هوة بين القارئومطبوعته ، وربما يؤدي الى القطيعة .

ان الصحافة ، من ابرز قواعدها وثوابتها وحجارة الزاوية في بنائها ،ان تفهم ما يريده القارئ ، وان تتحسب ، وان تكون مستقبلية .. وعلىالصحفي ان يسلك خطاً يؤمن بصوابه ، بعقلانية وواقعية ، سواء كانهذا مجلبة للانتشار او لم يكن ، فمن غير المسموح به ان يكسب قراءعلى حساب الضلال والتضليل والترويج لما يغري بريقه ولو بصورةمرحلية ، فأن لقرائه عليه حق في ان يؤدي لهم حساباً عن كل كلمة وكلحرف يكتبهما .

وصحافة ركوب الموجات ظاهرة تغزو العالم وتتلقى رواجاً في لحظتهالتعود فتخسر كل ما حققت من رصيد ، ويكون عليها ان تبني منجديد لنفسها كياناً وحضوراً .

والصحافة ، بالطبع هي ليست طريقاً للابداع ، فالصحفي عندمايتحول الى آلة ، يفقد عنصر المزاجية وعنصر السرعة المطلوبة فيانجاز العمل الصحفي ، مما تتحتم عليه حالة من التوتر ، وان تعزفكلماته على اوتار ينبعث منها اللحن الجيد لا النشاز .

ان مهنــة الصحافــة لا يجــوز ان تســند الى مغامرين انفعاليينيأخذهم المد ويجئ بهم الجزر ، من هنا ضرورة الثبات في مواقفهاوفي دراسة اي خطوة قبل الاقدام عليها . فالالتزام كل يوم بخط يفقدالمطبوعة رصيدها وثقة الناس بها .

من هنا حكمة التروي قبل الاقدام ورسم المخطط الذي تسير عليهالوسيلة الاعلامية ليظل لها مستواها وفعلها في قناعات القراءوخصوصاً القادة والمسؤولين ، فهم اكثر من سواهم معنيون بالعمليةالاعلامية التي تتوخى مباركة منهم لانهم غرضها وغايتها في البدء .

ان عدم ركوب الموجات يجنب الصحافة الغرق والسقوط والشطط ،فالصحافيون عليهم الالتزام بنواهي المهنة في سبيل اعلام متزنومعتدل ومسؤول بعيد عن اثارة الغرائز واذكاء الاحقاد . وعلىاصحاب المهنة ان يدفعوا الثمن ولو باهضاً . تلك سنة البقاء في عالمالتنافس الحاد والدقيق الذي يعززه العصر الذي نحياه .

انني كثيراً ما أرثي لحال زملاء ، على الرغم من ان القلة منهم اثبتواجدارة وبطولات رائعة في مناطحة الكلمة والتحكم بجودة القلم غيرمتأثرين بكل الاجواء المتقلبة المحيطة بهم سواء كانت عائلية او معيشيةاو مهنية ، والتي تكون غالباً احد الاسباب الرئيسية في تعرية الكاتبواشهار افلاسه بعد عمليات الاستنزاف اليومية المتكررة .

والصحفــي الجيد ، عليه ان يستريـح استراحـة المحــارب عندمــايشعـر بأن عرش الكلمة يهتز تحت قدميه ، والانسحاب من القمة افضلمن العطاء المستمر حتى لو تحرك الى عطاء مجوف .

الصحافة العراقية مازالت عاجزة عن طرح او فرض حدث او قضية ماعلى الرأي العام ، انها قدرية مسيرة تسلس قيادتها للاخبار والاحداثدونما اي تدخل من جانبها .

العناية بالكلمة وجمالية الجملة الصحفية يتهاوى وينهار رويداً رويداًلدى جيل صحافي جديد يحمل شهادات ولكنه لا يملك ناصية اللغةالتي يكتب فيها .

معظم الصحافيين الجدد لم يسمع بصحافيين عرب وعراقيين كبار ممنابتكروا وطوروا اللغة الصحافية العربية والعراقية ، فمازال اسلوبهمبالكتابة الصحفية متقدماً على عصرهم ، ويجب ان يدرَّس في كلياتالاعلام ليس للطلبة فحسب وانما ايضاً للاكاديميين الذين يدرّسونالصحافة ويخرّجون جهلة في المعرفة الصحفية واللغة الصحافية .

الصحافة العراقية ربما تستطيع ان تفعل الشيء الكثير للتخفيف منازمتها الراهنة ، وحتى لو لم ترغب في خدمة الحقيقة في قضايا تمسمباشرة المصالح الضيقة لرموز الحكومة ، فهي غير معذورة فياهمالها لقضايا اجتماعية واقتصادية ليست على هذا القدر منالحساسية .

اين مثلاً الصحافة العراقية من ازمة البطالة والعوز الذي تلف المجتمعالعراقي كله ؟ لماذا لا تطرح مشكلة التصنيع الذي يوفر آلاف الوظائف..؟ لماذا لا تطالب هذه الصحافة باعلان ميزانيات حقيقية لصرفياتالحكومة ووزاراتها .. يكون للرقم فيها قداسة ومصداقيته ؟ لماذا لاتكشف هذه الصحافة ميزانية الأمن والدفاع بدل ان تكون سراً مكتوماًلا عن الشعب وانما حتى عن اقرب المقربين من دائرة صنع القرارالسياسي ؟ لماذا لا تعالج حقيقة ارتباطات التيارات الدينية في العراقبالاجندات الاجنبية التي عانى منها المجتمع العراقي الاهوال كثيراًومازال ..؟

نعم ، الصحافة العراقية اليوم تعيش اليوم ازمة حقيقية ، وهي تسيرمن سيء الى اسوأ ، ولكن ازمتها هي ازمة المجتمع العراقي . اننانعيش مرحلة انتقالية بكل ما تحمله من مظاهر الأضطراب والبلبلةوالتردد والخوف والفوضى والهزات السياسية والاجتماعية .. ولابد انالصراع سيحسم الازمة اما لصالح الحرية والعقلانية في هذا المجتمع، واما لصالح قوى الظلام والجمود في الداخل والخارج ، ومع الحسمالاجتماعي ستحسم ايضاً ازمة الصحافة ، فأما صحافة حرة متحررةوناضجة واما صحافة مترددة وخائفة ولاهية ..

ان العمل الصحفي مأزق كبير يتهافت الكثيرون للوصول اليه ،ويحلمون به ، وهم يتناسون انه يحتاج الى صحفي يجيد صنعة الكلمة، قوي الملاحظة ، سريع البديهية ، ضليع بأمور المجتمع والسياسةوالفكر . ان اعلان افلاس الحال ارحم مليون مرة من اعلان افلاسالقلم .

الصحافة العراقية الآن ، لديها نوعاً ما شبه قوة تتيح لها تحملمسؤولياتها والقيام باعبائها ، الا ان هذه الشبه قوة يمكن ان تنقلبالى سلاح فاسد ان لم يدعمها الوعي والنزاهة والادراك الصحيحلمصلحة الشعب والوطن .