كتاب جيد:
لا أروع من الوقوع على كتاب جيد. ثمة كتب كثيرة في هذا العالم، أكثر مما يتصور أي منّا، حتى تكاد أن تكون مبذولة، إن لم أقل مبتذلة، في كل مكان، كالتراب. لكن بين هذا الركام الهائل مما يمكن تشبيهه بالتراب يوجد القليل جداً من الكتب/ التبر؛ الكتب التي تستحق أن تُكتب بماء الذهب وتعلّق على أستار أرواحنا. الكتب التي تلتم على قدر عالٍ مما هو نادر ومغذٍ للعقل، ولذيذ، وقُدسي. وحين ننغمر في قراءة واحد منها يتهيأ لنا مع كل جملة نرتشفها من سطورها بأنها تتسرب في شعاب أجسامنا كالماء المتواثب سريعاً بين شقوق أرض عطشى. وأنها تُنعش وتُثمل نفوسنا كما دبيب الخمر المعتق يُزيح غشاوة الحياة الرتيبة والقاحلة عن أبصارنا المرمّدة بفعل ما يحاصرنا من قبح وقسوة وتفاهات، فيطهِّرنا، فنبتهج حد انعتاق الدمع من عيوننا، ونتأكد، باستعارة تعبير محمود درويش، بأن على هذه الأرض ما يستحق أن نعيش من أجله. فالكتاب الجيد؛ الكتاب الذهب، هو واحد من الأشياء القليلة التي تمنحنا فضيلة أن نحيى بقناعة أن لحياتنا قيمة وجمالاً ومعنى.
أما مناسبة هذا الكلام، الذي سيحسبه من لم يُصب بهوس القراءة وعشقها بأنه مبالغ فيه، فهي كتاب ( ألوان أخرى؛ قصة جديدة ومقالات؛ لأورهان باموق.. ترجمة؛ سحر توفيق.. دار الشروق/ القاهرة 2009 ) والذي نصحني بقراءته صديقي الدكتور حيدر عبد المحسن قائلاً بأنه لا يقرأ أكثر من مقالة واحدة منه في كل يوم كي يُديم متعته، أطول مدّة ممكنة، حالماً بمسرّات مرتقبة. فألوان أخرى كتاب لن ترغب بالانتهاء من قراءته سريعاً على عكس كتب كثيرة أخرى، ليست كلها سيئة، تتحرق للفراغ منها لتبدأ قراءة كتاب جديد. وباموق نفسه يعطينا مثلاً حيّاً عن التعلِّق بالكتاب والاستمتاع بقراءته حين يتحدث عن رواية ( دير بارم ) لستندال، وكيف كان يتوقف عن القراءة مع كل مقطع رائع متأملاً شكل الكتاب وغلافه، مبعداً إياه عن عينيه، تماماً مثلما كان يفعل، وهو طفل، مع كأس عصيره المفضّل، يقول؛ “عندما كنت أتناول مشروباً محبباً إليّ، كنت أتوقف من وقت لآخر للتحديق بحب إلى الزجاجة في يدي”.
يضع باموق في كتابه هذا ما لم يجد طريقه إلى واحدة من رواياته من أفكار وصور وشذرات من الحياة. فالروائي هو سيد الفضوليين، المراقب العنيد لحركة الأشياء والناس، والمتحرق لكي يعرف ويعرف ويعرف، والواشي الملفق الذي يعيد صياغة ما رأى ناقلاً إياه للآخرين. هذا الفضولي المراقب والمتحرق والواشي لابد من أن يخزن في ذاكرته ملايين الصور والانطباعات حيث لا تنفذ إلى أعماله منها إلا النزر اليسير. أما ما تبقى فيظل أسير ذاكرته، يزاحم أحلامه في الليل، ويحفِّز مخياله في النهار. وما يفعله باموق في هذا الكتاب أنه يلتقط شظايا من تلك اللحظات الغريبة والمشاهد التي اكتشفها عبر تجربته ليزجها في نصوصه متبّلاً بالكلمات التي تنبعث منه بقوة وفرحة كما يخبرنا؛ “منذ اللحظة التي يبدأ فيها الكاتب باستخدام الكلمات… يستطيع أن يبدأ في رؤية كم أن العالم مليئ بالعجب والدهشة، فيكسر عظام اللغة ليجد صوته الخاص، ولهذا هو بحاجة إلى ورقة وقلم، وتفاؤل طفل ينظر إلى العالم لأول مرة”.
يصف باموق نفسه بمجنون كتابة نهم، يحتاج دوماً لكي يكتب، ليبقي المخلوق العنيد ( المسكون بشغف الكلمات حدّ الوسواس المرضي ) في داخله سعيداً. وهو إذ يعدّ مهنته الحقيقية هي كتابة الروايات يرى أن هذا الأمر أصبح له بحكم العادة. يؤكد: “لكي أشعر بالسعادة لابد أن أتناول جرعتي اليومية من الأدب”. وإذن سيشعر بالتعاسة إن اضطر لأي سبب لقطع علاجه فترة طويلة من الورق والحبر. معترفاً بأن “الحياة مليئة بالأشياء التي تتآمر على إبعاد الشخص عن الأدب”.
إن الاستمرار بالكتابة هو ترياق الوجود لأشخاص مثل أورهان باموق. ويحدد مكونات هذا الترياق/ العلاج؛ بالضجر، والحياة الواقعية، والخيال. فمن الحياة الواقعية التي تبعث على الضجر يهرب بوساطة الخيال ليكتب الروايات. ولذا فهو ينسى العالم كالطفل؛ مستمتعاً، وغير مسؤول، ولاعباً حول المكان ـ بقواعد العالم المعروف ـ لكي يتيح لقرائه “أن يفقدوا أنفسهم في القصة”. حتى يقول الواحد منهم بأن هذا ما أراد قوله لولا أنه لم يرض أن يكون بهذه الطفولية. فالكتابة، بهذا المعنى، لعبة شخص بالغ ما زال في أعماقه طفل حاذق، مشاكس، لاهٍ، يشيّد بشغف عوالمه ( ألعابه ) البديلة البارعة والمدهشة.
ينحت باموق اصطلاح الكاتب الضمني على غرار اصطلاح القارئ الضمني، ليشرح حالة الكتاب الذي يحلم به الكاتب، ويخطط له، ويتخيل مشاهده وبعض عباراته لكنه لم يكتبها بعد. جازماً أن الأمر الصعب هو أن يكون المرء الكاتب الضمني لكتاب حلمه. قائلاً: “وربما يكون هذا أكثر في حالتي لأنني لا أريد سوى أن أكتب روايات طموحة، سميكة، كبيرة، ولأنني أكتب ببطء شديد هكذا”.
أورهان باموق قارئاً:
في كتاب ( ألوان أخرى ) يقدّم أورهان باموق نفسه قارئاً نهماً للكتب، أغوته جنّية القراءة في فترة مبكرة من حياته، وما تزال البهجة التي ينالها منها تُدير رأسه. وهكذا أصبح الكتاب في مخياله الغض، وكما يعترف، جزءاً عضوياً من الطبيعة والعالم “مثله مثل القمر والبحر والسحب والأشجار والشجيرات والحجارة في الجدران”. يقول: “وكان يسعدني أن أكون قريباً هكذا من الطبيعة، وكنت أشعر وكأن الكتاب يحسِّن من شخصيتي، ويطهِّرني من غباوات وشرور الحياة كلها”. فكان يهرب من الواقع الذي يحيط به إلى الكتب، مدركاً أنه بإدامة القراءة سيشكٍّل روحه وذاته، ويشحذ وعيه، وينمّي موهبته، ويحسم موضعه في الوجود. فلا شيء في اعتقاده يمكن أن يتخلل ويملأ “الفجوات الخفية للحياة، بسرعة وبعمق، كما تفعل الكلمات”.
تمنحنا القراءة، كذلك الكتابة، متعة العزلة. أن نكون وحيدين في مواجهة عالم الكتاب والانغمار فيه والمشاركة في بنائه؛ تلك العزلة المغمورة بالمسرّات لا بالوحشة. أما اللاعب العظيم بهذا الشأن فهو الخيال. هنا لا يكون القارئ متفرجاً سلبياً على العالم المتخيل في الكتاب فقط وإنما خالقه أيضاً: “فالكتاب يقدّم متعة الخلق في عزلة. وهذه المتعة في العزلة هي التي تجعل قراءة الكتب، وقراءة الأعمال العظيمة للأدب، شديدة الإغراء للجميع، وجوهرية للغاية بالنسبة للكاتب”.
كان على باموق أن يقرأ ( ألف ليلة وليلة ) للمرة الثالثة حتى يشعر بالدفء. وأن يكون في أواسط العقد الرابع من عمره لكي يقرأها “من أجل منطقها السرّي، وفكاهتها الداخلية، وثرائها، وأنواع الجمال المدجّن والغريب، وفصولها الإضافية القبيحة، وصفاقاتها، وابتذالاتها”. فذلك الكتاب الملهِم ببحر قصصه المضطرب العجيب كان صندوق الكنز وقد عثر عليه. وحين يكتب باموق تصديراً لرواية لورنس ستيرن ( تريسترام شاندي ) يجد هذه الأمواج المتداخلة من الحكايات يرويها العم شاندي الذي يبدو له مثل طفل عابث يلقي بنكاته ويتلاعب بالكلمات ويفصح عن مغامراته وطيشه ومراوغاته وهواجسه وتكلّفه المرح الصاخب على الرغم من أنه يضيع دوماً في متاهة حكاياته. فهو لا يريد أن يصل إلى نهاية معينة، ولا أن يخرج بدروس وعبر، بل ما يهمّه هو الوقوع على متعة الحكي، مبدعاً كتاباً غير مشذّب، كما هي صورة حياتنا نفسها.
عمَّ نبحث في الكتاب الذي نقرأه؟ أظن عن أنفسنا أولاً.. نرغب باحتلال موقع ما، ولو موهوم في متن ذلك الكتاب.. يقرأ باموق كتاب ( مذكرات من تحت الأرض ) لدستويفسكي فيألف العالم الآخذ بالتبلور فيه في موازاة عالمه، فتبرز للعيان خلاله قضية الهوية. فباموق يفكر في نفسه كأوروبي أكثر مما هو في الواقع على حد تعبيره. ويجزم أن الموضوع الحقيقي لكتاب دستويفسكي ينعكس في “مشاعر الغيرة والغضب والكبرياء التي يشعر بها رجل لا يستطيع أن يحوّل نفسه إلى أوربي”. وكلاهما؛ باموق وديستويفسكي يقف عند تخوم حضارة أوروبا وثقافتها. وما قاله ديستويفسكي قبل أكثر من قرن يجد فيه باموق ما يجب عليه أن يقوله الآن بصدد بلاده وعلاقتها، مجتمعاً ومثقفين، بالغرب وأفكاره. ذلك “أنه لم يكن محتوى الأفكار الغربية هو الذي يعارضه دستويفسكي، وإنما ضرورتها ومشروعيتها. كان يكره مثقفي بلاده المتعصرنين لأنهم استخدموا هذه الأفكار لإضفاء المشروعية على أهميتهم أنفسهم”. وقد تبنوا تلك الأفكار بعد أن أمست بالية في المكان الذي بزغت فيه.
في لحظة ما ينتاب باموق شعور بالكراهية إزاء كتب بعينها. وإذ يبقى الأمر الضروري له هو كتابة الكتب، لا قراءتها، بحسب تصريحه، فإن حنقه على بعض الكتب والكتّاب يصل إلى حد التخلص من الكتب الزائدة، التي لا فائدة منها، في مكتبته. حتى أنه ليخجل من نفسه بسبب إيلائه الأهمية لكتب رديئة في وقت من الأوقات. ويعترف أنه لا يحب مكتبته، وأنه من بين اثني عشر ألف كتاب فيها لا يحب منها بالفعل سوى عشرة أو خمسة عشر كتاباً. ولذا يبحث عن أي مسوِّغ مقنع للتخلص من بعضها؛ الزلازل مثلاً. أو لأن هناك من الكتّاب الأتراك الذين بجّلهم في زمن مضى راحوا اليوم ينبشون لإيجاد الأدلّة على مدى سوء كتبه. وهذا ما أعطى باموق الذريعة لانتزاع كتبهم من مكتبته كنوع من الثأر.. يقول؛ “وهذا يوضِّح كيف حدث أن رفوف الأدب التركي في مكتبتي راحت بسرعة تفقد أعمالاً من تأليف أنصاف الموهوبين، وقليلي الجودة، ومتواضعي النجاح، والمكشوفين، والذكور، والوضيعين من الكتّاب بين سن الخمسين والسبعين”