26 نوفمبر، 2024 3:33 م
Search
Close this search box.

“أنشودة المطر”.. قراءة جديدة

“أنشودة المطر”.. قراءة جديدة

استطاع الشاعر” بدر شاكر السياب”  بما امتلكه من قدرات شعرية غنية أن يعبر عن ذاته القلقة المعذبة وأن يحول بعض تجاربه الحياتية الشخصية و السياسية، المُخفقة، إلى نصوص شعرية متألقة، وأن يضع وطنه العراق ومدينته البصرة، وقريته التي ولد فيها،(جيكور- النائمة في ظلام السنين) وحكاياتها الخرافية وما تنطوي عليه من”ميثلوجيا” محلية وخصوصية جنوبية ، وشخصياتها الفلاحية البسيطة ورعاتها، ونهرها الصغير (بويب) المجهول لنسبة كبيرة من سكان البصرة بالذات ،ناهيك عن العراقيين، الذي لا يؤشر عليه حتى في الخارطة الجغرافية للعراق، في قلب العالم المعاصر والحداثة الشعرية العراقية- العربية, في صورة أساطير ووقائع ترتبط بالحياة  كما تجاوز،منذ منتصف خمسينيات القرن الفائت، ذلك إلى نبض الأحداث التي كان يمور بها العالم العربي. وعلى الرغم من تحولات السياب الفكرية-السياسية، التي جَرَتْ عليه الويلات والمصائب ، الصاخبة- القاسية المريرة والعذابات الخاصة، والهجمات من جميع الجهات، إلا أنه ما يزال يثير جدالاً ثقافياً متواصلاً، لا أظنه سينقطع. وفي هذا يأتي الكتاب الذي ترجمته حديثاً المترجمة “سحر احمد”  بعنوان “قراءة جديدة لأنشودة المطر”* لمؤلفته الباحثة البريطانية “تيري دي يانغ”. تعد الباحثة قصيدة “أنشودة المطر” من العلامات المتميزة في المسار والتطور الشعريين لبدر شاكر السياب، ولا نغالي إذا عددناها من علامات الشعر العراقي- العربي الحديث. إذ أنها من القصائد التي نجح السياب فيها  بدمج الرأي والانتماء السياسي الخاص به، واليساري تحديداً حينها، مع تجربته الذاتية، وبذا تكون “أنشودة المطر” قد مزجت  بين أمنية السياب وتوجهه الفكري حينها، وحنينه إلى العراق ،عندما كان هارباً ، من مطاردة الشرطة السياسية له، إلى الكويت ، كونه “شيوعياً” وقد حاول السياب فيها أن يمزج  بين تطلعات الشعب العراقي نحو مستقبل  أفضل تأتي به “ثورة /  تسقط النظام الملكي” ، وتجهز على شخصية “نوري سعيد”،بالذات، الذي كان بغيضاً جداً لدى كثير من العراقيين لاعتقادهم انه كان ممثلاً “للانكليز” الذين يعدهم أغلب العراقيين “مستعمرين” لوطنهم:
“أكادُ اسمعُ العراقَ يدْخرُ الرعودْ
ويخزن البروقَ في السّهولِ والجبالْ”
….
” في كلِّ قطرةٍ من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزَّهر.
وكلُ دمعةٍ من الجياع والعراة
وكلُّ قطرةٍ تراقُ من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حُلمة تورَّدت على فمِ الوليدْ
في عالم الغدِ الفتيّ، واهب الحياة!
مطر…
مطر…
مطر…
سيُعشب العراقُ بالمطر..” 
كما عُدت” أنشودة المطر” من قبل بعض النقاد العرب تعبيراً عن روح التفاؤل في الخمسينيات التي شهدت صعوداً في صراعات الشعوب العربية من اجل التحرر، وكانت القصيدة تعبيراً واضحاً عن الأمل في ذلك من اجل بناء مستقبل أفضل  لبلدانهم وشعوبهم العربية، خاصة بعد انهيار ما وصف بـ”الإمبراطوريتين الاستعماريتين/ بريطانيا وفرنسا”. ترى الباحثة الانكليزية “تيري دي يانغ” أن “أنشودة المطر” هي محاولة السياب الأولى في اعتماد الرمزية  التي تستند  إلى أساطير الخصب الوثنية القديمة، وفي نهاية عقد الخمسينيات، أصبحت هذه الأساطير التي تتعلق بالموت والبعث تقليداً سائداً، سواء في شعر السياب، أو في  الشعر العربي الحديث عموماً، والغرض منها  رسم رؤيةٍ لحضارةٍ عربيةٍ تولد من جديد، حرةً في التطور، وعلى طريقتها الخاصة، من دون ان تصبح  تابعاً لأية  هيمنة خارجية(ص 5 ). و تؤكد الباحثة أن معظم النقاد العرب في تلك الفترة اخذوا بما قرره د. إحسان عباس في كتابه عن السياب  بان القصيدة في مضمونها صورة أخرى من أسطورة تموز، أو ادونيس، من دون أن تُظهر بوضوح رمزية الخصب، ويقرر د. عباس بأن القصيدة ” بسيطة، ذلك أن لفظة واحدة هي المطر استطاعت أن تغوص في سرّ الوجود”. ولكن الباحثة البريطانية تخالف هذا الرأي بشدة وبسعة، من خلال تدليلها على كثير من أبيات القصيدة، ومنها هذه:
أكاد اسمعُ العراق يدْخر الرعودْ
ويخزنُ البروقَ في السهولِ والجبالْ،
حتى إذا ما فضّ عنها ختمها الرجالْ
لم تترك الرياحُ من ثمودْ
في الوادِ من اثر” (ص9 )
 وتذهب إلى أن هذا المقطع  في القصيدة يطرح إشكالية أمام التفاسير التقليدية  كون صوره مأخوذة من القصة القرآنية في العقاب الإلهي ومحق الثموديين الكفرة وتتساءل : ما الداعي إلى ذكرهم  في قصيدة تفاؤلية، يتمحور  نظامها الأساس من الإشارات الرمزية؟ ، كما ذهب النقاد حول أساطير الخصب التي شاعت في الأدبين العربي والانكليزي على يد ت. أس . إليوت وجيمس فريزر في كتابه “الغصن الذهبي”، وبالنسبة للأخير تذكر المترجمة في هامش لها في الصفحة (27 ) أنها  وعبر السيدة(آلاء السياب) قد اطلعت على نسخة أبيها من” الغصن الذهبي” ط/ عام 1954 ، ولم تجد فيه أية إشارة مكتوبة ، أو تعليق. ومن هنا تقرر أن السياب لم يطلع على الكتاب قبل كتابة القصيدة. إن مثل هذا الاستنتاج ،كما أرى، تعوزه الدقة، فالسياب قد تخرج في الفرع الانكليزي/ ومن المؤكد انه اطلع خلال دراسته على بعض ذلك الكتاب بلغته الأصلية ،أو اطلع،دراسياً في الأقل، على هذه الأساطير وما تمثله من قيمة تعبيرية كبرى في الشعر الانكليزي من خلال الدراسة  المنهجية عبر مصادر أخرى. كما أن ” جبرا إبراهيم جبرا “يؤكد في مقدمته للطبعة الثانية من كتاب(أدونيس أو تموز / دراسة  في الأساطير والأديان الشرقية القديمة) المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت/ 1975 /انه في أواسط الأربعينيات قد ترجم جزءاً من الكتاب و يذكر،جبرا، انه كان مخطوطاً لديه عند قدومه إلى بغداد للتدريس في كلياتها عام 1948  و يضيف ” قد تحدثت لأصدقائي، في بغداد، عن الكتاب وأهميته ” ، وقد اطلع على نسخته المخطوطة غالبية المثقفين العراقيين من أصدقاء “جبرا” ومن المؤكد ان (بدراً) كان  ضمنهم قبل أن يعيد استنساخه (حسين مردان) لغرض طبعه ، وصمم غلافه الفنان” جواد سليم” وطبعه الأستاذ” الياس المقدسي” في بيروت ط1 عام 1957. كما يذكر د. عبد الرضا علي في كتابه(الأسطورة في شعر السياب)- بغداد- وزارة الثقافة والفنون/1978 /سلسلة دراسات(147 )،  أنه وفي أواخر الأربعينيات، وحينما كان السياب طالباً في دار المعلمين العالية تعرف على شعر( اليوت) من خلال قراءاته لشعره، وبخاصة (الأرض الخراب ) وظل السياب  فترة يبحث عن الينبوع الذي يمكن  أن يكون  قد أثرى تجربة اليوت الشعرية  بتضميناته واقتباساته  المحورة ، فاهتدى إلى ان العامل الفاعل عند اليوت  كان (الوعاء الأسطوري) ، ولما كان اليوت قد أشار إلى أهمية (الغصن الذهبي) في تجربته تلك ، فان السياب  كان في رغبة أكيدة  في الاطلاع عليه. وفي خريف عام 1954 حقق له صديقه الأديب جبرا إبراهيم جبرا هذه الرغبة  حين نشر فصلين من المجلد الرابع  من ( الغصن الذهبي) بعنوان (أدونيس) في العدد الأول من مجلة (الفصول  الأربعة) وهي مجلة ثقافية سياسية  جامعة ، صاحبها الشاعر ” بلند الحيدري”  ويظهر أن السلطات العراقية  أقفلتها ، لأنها لم تصدر غير هذا العدد المشار إليه في خريف عام 1954 (ص 50 -51 ). ويؤكد جبرا إبراهيم جبرا ثانية ذلك “لقد كان من المصادفات أن اطلعَ (بدر) على فصلين من مجلد كنت ترجمته  من كتاب” الغصن الذهبي” لسير جيمس فريزر .. ولما قرأهما وجد فيهما وسيلته الشعرية  الهائلة التي سخرها  فيما بعد لفكرته، لأكثر من ست سنين، كتب فيها أجمل  شعره وأعمقه، ففي أسطورة تموز، بعد عام  1954 ، تلتقي خطوطها شعره وتتفرع عنها”(الرحلة الثامنة/ ص 24 /بيروت 1967 /المكتبة العصرية). ومن هنا  ،أرى ربما، لا ضرورة تدفع لأن يعيد السياب قراءة الكتاب ثانية، أو يضع هوامش عليه. عن المقطع الشعري السالف في قصيدة “أنشودة المطر” تذهب الباحثة البريطانية” تيري” إلى انه اعتماداً على ” قوانين البنية العضوية في القصيدة- الذي كان السياب شديد الإيمان به- فإن التضمين القرآني لم يأتِ جزافاً ، ويجب النظر إليه في أي تحليل للقصيدة”(ص7 ) وعبر هذا التضمين  نصل إلى قراءة تقودنا نحو تقييم شامل للموارد الرحبة التي اعتمد عليها السياب في كتابة قصيدته، كذلك إلى صعوبة فهم موقفه  تجاه الحركات السياسية التي كانت فاعلة في المشهد العراقي حينها، كما تذهب الباحثة إلى أن النقاد  قد افردوا رموزاً مهمة في القصيدة  إلا أنهم ” نادراً ما نظروا إلى العلاقات الداخلية بين هذه الرموز، أو كيف تسهم في البناء الكلي للقصيدة”  وتؤكد أنها لم تجد  أي ناقد أو باحث تعامل-حتى اليوم- مع القصيدة بصفتها نصّاً ديناميكياً، يغير بؤرته وتتطور الأفكار فيه أثناء ما ينتقل القارئ من بداية القصيدة إلى نهايتها. و تشير المترجمة في الهامش الثاني من الكتاب إلى أن ” أنشودة المطر” نُشرت أول مرة  في مجلة الآداب البيروتية(ع 2 ، حزيران 1954 ،ص 18 ) ولم يولها الناقد “عبد اللطيف شرارة” في باب (قرأت العددَ الماضي من الآداب) أي اهتمام بل أسقطها من حسابه تماماً، إذ انصب جل اهتمام الناقد على قصيدتين أولاهما” إلى وردة بيضاء” لـ”نازك الملائكة” وثانيهما”نداء الأرض” لـ”فدوى طوقان”، وتضيف،المترجمة، ان السياب ذاته  كتب رسالة بتاريخ 25 /3 / 1954 إلى رئيس تحرير  مجلة آلاداب البيروتية يؤكد فيها انه  تردد في إرسال القصيدة له منذ عودته من الكويت، قبل أشهر،  وتصل المترجمة إلى أن القصيدة  قد سبقت زمن نشرها بكثير، وتذهب إلى أن السياب ذاته ربما لم يكن يعي تماماً الانجاز الفذ الذي حققه(ص 28). ترى الباحثة”تيري” أن الأبيات الشعرية الستة الأول في أنشودة المطر يخاطب فيها الشاعر امرأة مجهولة  وهي مشابهة  للمقدمات التي عادة ما يبدأ بها السياب قصائده و يستخدم فيها صور النور والظلام ” لخلق انطباع معين عن عالم  مختلط أخلاقياً” وهذا الأسلوب في الخطاب الشعري السيابي قد جعل بعض النقاد  يشيرون إلى  “التشابه بين هذه الأبيات وفنِّ النسيب في القصيدة الجاهلية، عندما يخاطب الشاعر الجاهلي  حبيبته الغائبة من خلال وقوفه على الأطلال. إن تشبع بدر شاكر السياب بالشعر العربي القديم وهضمه له وتتبع مافيه من رؤى وثيمات لم يقف فقط عند أنشودة المطر ،بل انه،كمثال فقط، وفي قصيدته( بور سعيد) التي كتبها بعد  العدوان الثلاثي على (مصر) نراه يستخدم الشعر العمودي/ صدر وعجز/ في مقدمتها ، وبعد ذلك يعود في القصيدة ذاتها إلى شعر التفعيلة، وثمة قصائد أخرى للسياب نحى فيها ذات المنحى. وقد بقي السياب في أغلب شعره مهتماً بالجرس اللغوي، والبلاغة العربية وما تتيحه من تشبيهات، في شعره وما يتركه ذلك من فضاءات  التلقي لدى القارئ العربي خلال مرحلة الخمسينيات بالذات. وكما ترى الباحثة أن السياب  ربط المطر في قصيدته بصورة العاصفة ، التي ترد في كثير من القصائد الجاهلية، لكن ثمة فروقاً مهمة بين ( عاصفة) قصيدة السياب و(عاصفة) القصيدة الجاهلية، إذ أن (عاصفة) السياب تستمد رؤاها  من صور (العاصفة الرؤيوية) كما في القص السامي التوحيدي المقدس( التوراتي- الانجيلي، والقرآني) بينما لا تحمل قصيدة الشعر الجاهلي شيئاً من معاني(الأخرويات)، كالبعث والحساب. وتتابع الباحثة قصيدة (أنشودة المطر) لاكتشاف عوالمها وتدرس كيف يتحول المطر، الباعث على الخصب، لدى السياب إلى دمع ، كما ن السياب  المتكلم في القصيدة يشير إلى قصة حب قديمة، وكذلك يستدعي ذكريات الطفولة و موت أمه الفاجع، ويرى د. إحسان عباس، في كتابه عن السياب، ان محبوبة المتكلم- الشاعر- ،الأم، أو القرية،أو العراق، أو الثلاثة معاً. ويصبح  هذا الربط، العضوي، أكثر وضوحاً ، عندما نعرف ان الشعر العربي الحديث يربط الأرض(مؤنثة) بالحبيب والأم، ولو ربطنا هذا الحبيب  بأم الطفل الواردة في القصيدة ، كما ذهب إلى ذلك معظم دارسي القصيدة، فإنها تغدو غير بعيدة عن المتكلم- الشاعر- وحسب بل هي غائبة بفعل الموت، لذا فالسعادة لدى الشاعر  انحصرت في الماضي ، ولا يمكن له استعادتها واقعياً، بل تخيلياً فقط. وتدرس الباحثة كذلك  النقطة التي يقدم لنا فيها النظام الوصفي للنصوص التوحيدية بديلاً مبتكراً  من خلال دمج الموت  بمعتقد النشور عبر الرؤيا النبؤية في نهاية الزمان، لكن هذا الموت وكذلك النشور، وهو يوم الحساب، يختلفان عن الموت والنشور في معتقدات الخصب الوثنية القديمة ،من حيث أنهما يأتيان مرةً واحدة، وقدومهما يُفعّل الحياة الإنسانية  بشكل متواصل ومتواتر ودائم. يظل شعر السياب مفتوحاً على تأويلات عدة،  ويبقى الجدل والخلاف في ريادته للشعر الحديث، مسألة من الماضي ولا ضرورة للتطرق إليها لأن مسألة مواصلة التألق بالنسبة للسياب لا جدال فيها، فهو بقي حتى اللحظات الأخيرة من موته الفاجع ، ليل 24 /12 / 1964 في المستشفى الأميري بالكويت يكتب الشعر الحديث بنوازع وتوجهات وثيمات عدة، بينما مَنْ قاسمه ، حسب النقاد، ريادة الشعرية العربية الحديثة أخذ شيئاً فشيئاً يتراجع عن أطروحاته وتنظيراته تلك، ويمكن مراجعة كل ذلك في الفصل الأخير والمعنون/الجـزر/ ص213-239 / في كتاب الناقد عبد الجبار داود البصري ” نازك الملائكة.. الشعر والنظرية/ وزارة الأعلام/ مديرية الثقافة العامة – بغداد/ كتاب الجماهير/ دار الحرية للطباعة/1971. فالسياب بقي على رغم محنه الحياتية ، وتحولاته الفكرية وتناقضاته السياسية ، والتي أجهد نفسه لأن يجد المبررات الذاتية لها، يعلو شعرياً فوق روحه وحياته الشقيتين وتلك حقيقة ثابتة لا يمكن دحضها أو تجاهلها، لأن الشعر يملك سعاداته وهناءاته الخاصة والخالصة مهما كان مستوى وحجم المأساة، التي ينطلق منها أو يسعى لأن يصورها.
*”قراءة جديدة لأنشودة المطر” لمؤلفته الباحثة البريطانية “تيري دي يانغ”. ترجمة/  سحر أحمد/ط1 / 2012- البصرة.

أحدث المقالات