الموضوعا ت التي إنشغل فيها معظم المفكرين والفلاسفة العرب لا تمت للواقع بصلة حيوية ومؤثرة , فهي نخبوية وخصوصية , لا يمكن للبشر المتعلم أن يتفاعل معها فكيف بعامته.
وهي التي وفرت الأسباب الموضوعية لكتاب ” تهافت الفلاسفة” للغزالي , الذي كان له بالغ الأثر في الإنتصار على الفلاسفة العرب بالضربة القاضية منذ القرن الحادي عشر, لأنه يتفاعل مع التيار العام فأراح الناس من طروحات إبن سينا والفارابي , وغيرهم من الذين قرؤا الأشياء بمنظار يوناني بحت , وتحول عندهم الفلاسفة اليونانيون إلى قدرات إستثنائية وكمالية مثالية , ومناهجهم أدوات للتفاعل مع الحياة والوجود والدين.
حتى إبن رشد الذي تولّع بشغف لا مثيل له بأرسطو , فسماه الغربيون “الشارح الأكبر” , كان يراه ” الإنسان الأكثر كمالا” , أي أنهم وصلوا إلى درجة التماهي مع الفلاسفة اليونانيين وغاصوا بفلسفاتهم إلى أبعد ما يستطيعون؟.
وعليه فأن الموضوعات التي تم تناولها لا تعني الناس التي تؤمن بقلبها وتصدق ما جاء بالكتاب ولا يعنيها بعد ذلك شيئا , فما شأنها بالكليات والجزئيات , والأزل , وبدء الخلق , والبعث روحي أو جثماني وغيرها من الطروحات الغيبية , التي لا يمكن لمخلوق التيقن منها مهما توهم.
وبذلك عزل الفلاسفة والمقكرون العرب أنفسهم عن الواقع وتغربوا عن الناس , وصارت طروحاتهم جدلية لا تنفع , وهي بين النخبويين والمتعمقين بالمعارف والعلوم.
وهذا السلوك أدى إلى تداعيات مغفولة , وتعزيز سلوكيات ورؤى ومناهج الفقهاء الذين يرون أن المعرفة يجب أن لا تكون مشاعة , فالناس عليها أن تعرف بمقدار ما يُراد لها أن تعرف , لكي يتم ضبطها وإنقيادها لإرادة العارفين والمستفيدين , فالمعرفة قوة وسلطة ومن أدوات الحكم.
ولهذا إهتم العديد من السلاطين بالمعارف وقربوا إليهم النخب من العلماء والفلاسفة والفقهاء , وكان صراع القوى شرسا بين الفقهاء أو علماء الدين والفلاسفة والماسكين زمام تقرير المصير.
وحتى لو كان الفيلسوف فقيها كما هو الحال مع إبن رشد , فالتصارع والتفاعل الشديد بين الحالتين لا يسمح بالجمع بينهما مهما توهمنا , لأنهما طرفان متناقضان لا يلتقيان أبدا.
وهذا أهم سبب أدى إلى نكبة إبن رشد , لأنه حاول الجمع ما بين العدوين , ولذلك نجح الغزالي وساد في الهيمنة على الوعي الجمعي , لأن الفقهاء هم المستفيدون من منهجه.
أما الجمع ما بين الفقه والفلسفة فأنه يضر بالناس , لأنه سيحرك عقولهم ويبعث فيهم حب السؤال مما يعني أنهم سيعرفون , والذي يعرف يكون صاحب رأي , والذي عنده رأي لا يتبع ولا يخنع لأية عمامة , وبذلك تفقد دورها وأهميتها وقدرتها على السيطرة والقيادة والتأثير بالحكم.
لأن قوتها مستمدة من قدرتها على صناعة القطيع التابع لها , وهذه الحالة لا تزال قائمة إلى اليوم , فقوة أي عمامة تتناسب طرديا مع قدراتها على صناعة القطيع التابع لها.
وهذا يعني أن الجهل من ضرورات قوة العمامة , مثلما هو الفقر والحرمان والتضور والإرتهان بالحاجات والويلات , فتلك هي البيئة الصالحة للعمامة.
وهذا يفسر ديمومة الجهل والأمية في المجتمعات التي تتكاثر فيها العمائم والأحزاب المؤدينة وأماكن العبادة.
فالعمامة بلا قيمة ولا دور في حشد من المثقفين المنورين من الناس.
وعلى هذا ونحوه فشل المفكرون والفلاسفة ولا يزالون في فشل كبير , لأن سلطة العمامة هي الفاعلة في الواقع الإجتماعي والمؤثرة في صناعة الرأي العام , والتيار العارم الذي يزعزع أركان الحكم ويؤثر بتوجيه إرادة السلطان.
فالتصويت والإختيار بأمرها , والتبعية دين ومذهب , وهي من الإيمان , والمفكرون والفلاسفة عثرات وأحجار , وقل عاشت الجهالة وماتت الأفكار!!!
فهل سيفلح المثقفون والمفكرون في صناعة التيار الحضاري المعاصر الأنوار؟!!