منذ فجر الطفولة الإنسانية، كانت مسألة بداية العالم من أولى المسائل التي دقت أبواب تلك العقول البدائية، التي غلبت عليها الفطرة والغريزة. وعلى خلاف المنهج العقلي الذي يحكم نظرياتنا الحالية عن بداية العالم، كانت الأفكار البدائية عن أصل وطبيعة العالم مجرّد أساطير، يلعب دور البطولة فيها الآلهة وأنصاف الآلهة، وتجري أحداثها على بساط التأمل الفلسفي.
تنتمي أساطير التكوين في سورية وبلاد الرافدين إلى زمرة أساطير الميلاد المائي، فالحالة السابقة لبدء الكون في هذه الأساطير هي حالة من العماء المائي، حالة من اللالتمايز والتشكل في زمن سرمدي متماثل. وفي لحظة معينة ينبثق الكون من لجة العدم، وتتمرد قوى الحركة والحياة على قوى السكون، لينبثق الشكل من الهيولى ويصبح للزمان والمكان معنى. ولكنَ تمرّد قوى الحركة على قوى العماء ليس بالأمر السهل، فلهذه الغاية تتم معارك بين آلهة من الطرفين، معارك تنتهي بانتصار آلهة الحركة لتنبثق الحياة وينشأ الكون الذي نعرفه اليوم.
إن الصراع بين نوعي الآلهة لا ينتهي عند انطلاق الحياة، إنما هو صراع أبدي. يشارك البشر في هذا الصراع بإقامة طقوس سنوية تمثل معركة انتصار آلهة الحياة على آلهة العماء. وتتمحور هذه الطقوس حول إعادة تمثيل فعل الخلق الأول والتكرار الدرامي للصراع البدائي الذي أنتج الأكوان.
ضمن أساطير الخلق، سنتناول – أعزاءنا المتابعين – كلاً من التكوين السومري، البابلي، والكنعاني (الفينيقي).
أولا: التكوين السومري:
لم نتحصل في الألواح الفخارية على أسطورة متكاملة عن الخلق والتكوين السومري، وإن كان العلماء لا يستبعدون الوصول لمثل هكذا أسطورة كاملة في حال اكتشافات أثرية جديدة. إلا أن النصوص المتفرقة الموجودة لدينا والتي تعود إلى السومريين كفيلة بأن تعطينا صورة واضحة عن أفكار السومريين ورأيهم في هذا الموضوع، ولا يتبقى علينا سوى أن نقوم بعمليات ربط بسيطة لنتحصل على الصورة الكاملة.
إن الدراسات العميقة لأسطورة الخلق السومرية تبين لنا بأنها لم تكن مجرد أفكار بدائية، بل تميزت بمرحلة عالية من النضوج والقدرة على ربط مختلف الوقائع المرئية مع أفكار لا مرئية مجردة.
بالدراسة الموضوعية لبقايا الأولاح الحجرية نستطيع إيجاز أسطورة الخلق السومرية كالتالي:
الآلهة “نمو” مثلت قوى اللجة والعماء، أي الماء التي صدر عنها كل شيء. أنجبت الإلهة نمو ولدين، “آن” إله السماء المذكر، و”كي” إلهة الأرض المؤنثة وكانا ملتصقين ببعضهما وبأمهما “نمو”. ومن ثم تزوج “آن” من “كي” وأنجبا “إنليل” إله الهواء. وكان إله الهواء إنليل يتمتع بالنشاط والحيوية ولم يطق كونه محصوراً بين أبيه وأمه فقام بقوته برفع أبيه إلى الأعلى ليغدو سماءً وإبعاد أمّه إلى الأسفل لتصبح أرضاً بينما بقي هو بينهما.
لم يرق لإنليل ذلك الظالم الدامس الذي كان يعيش فيه فأنجب ابنه “نانا” إله القمر لتبديد الظلام، لينجب الأخير “أوتو” إله الشمس الذي فاق أباه ضياءً. وبعد هذه المراحل قام إنليل مع بقية الآللهة بخلق مظاهر الحياة الأخرى.
بعد استعراض المراحل الأساسية لعملية الخلق الأولى نستعرض بعض النصوص السومرية عن هذه العملية، ففي إحدى النصوص ورد ما يلي عن قيام إنليل بفصل السماء عن الأرض:
“إن الإله الذي أخرج كل شيءٍ نافع
الله الذي لا مبدل لكلماته
إنليل الذي أنبت الحّبَ والمرعى
أبعد السماء عن الأرض
وأبعد الأرض عن السماء”
أما فيما بعد عملية الخلق فقد انشغل الآللهة في تنظيم الكون، فكان ظهور القمر والشمس نتيجة القوة الجنسية للإله “إنليل” الذي ضاجع الإلهة ” ننليل ” فولدت له القمر، الذي أنجب بدوره الشمس بفعل جنسي آخر.
تحدثنا أسطورة سومرية عن سلسلة الخلق هذه في نص شعري جميل يبدأ بوصف مدينة نيبور، مدينة الآلهة التي وجدت قبل وجود الإنسان، وبعد هذه المقدمة تبدأ القصة حيث نجد سيدة نيبور وهي تحدث ابنتها ننليل عن كيفية استمالة الإله “إنليل”:
“في تلك الأيام قامت الأم بإرشاد ابنتها،
عند النهر الصافي يا فتاتي، عند النهر الصافي اغتسلي
وعلى ضفة نهر اللننبردو تمشي
ذو العينين البراقتين، السيد ذو العينين البراقتين،
الجبل العظيم، إنليل الرب ذو العينين البراقتين
سيراك ويقبلك”
وبالانتقال إلى عملية خلق الإنسان، فإن الأسطورة السومريّة هي أول أسطورة خطتها اليد البشرية عن هذا الموضوع. وقد كانت المنبع الأساسي، الذي استمدت منه باقي أساطير المنطقة العناصر الرئيسية لخطِ أساطيرها. كما لم تتردد الأسطورة السومريّة في خلق الإنسان بالجواب عن سبب خلق الإنسان والغاية من عملية الخلق، وهي خدمة الآلهة، ليقدّم لها الطعام والشراب، ليزرع أرضها ويرعى قطعانها.
منذ البدء كان الآلهة يقومون بكل الأعمال، ولكنهم تعبوا من ذلك، فراحو يشتكون أنكي الحكيم، ولكنه، وهو المضطجع بعيداً في الأغوار المائية لم يستمع لشكواهم، فذهبوا إلى “نمو” المياه البداية التي خاطبت أنكي:
“أي بني، انهض من مضجعك واصنع امراً حكيماً
اجعل لآلهة خدماً
ففكر انكي في الأمر وقال لأمه:
إن الكائنات التي ارتأيت خلقها، ستظهر للوجود
امزجي حفنة طين من فوق مياه الأعماق
ثم كوني له أعضاءه
ولسوف تقدرين للمولود الجديد، يا أماه، مصيره
وتعلق ننماخ عليه صورة الآلهة في هيئة الإنسان
………………………………………..
المصادر:
1-أسرار الآلهة والديانات، أ.س ميغوليفسكي
2- مدخل الى نصوص الشرق القديم، فراس السواح
3- الرحمن والشيطان، فراس السواح